Share Button

بقلم : د. عصمت نصَّار 

إذا ما انتقلنا إلى جهود الرائد محمد مصطفي حلمي البحثية في هذا الميدان، فسوف نجده قد عالج العديد من المسائل على الصعيد العلمي الأكاديمي فتعرض إلى قضية العرفان عند الصوفية (المعرفة الإشراقية أو الحدس الصوفي) فذهب إلى أن ذي النون المصري (796-859 م) هو الذي وضع الحجر الأساس في صرح التصوف الثيوصوفي الإسلامي (أي التجربة الباطنية بالمعارف الإلهية والحقائق الربانية)، وهو يعدُّ أعلى درجات المعرفة الصوفية التي يبدأ سلمها : بمعرفة عامة المسلمين، ومعرفة المتكلمين، ومعرفة خواص الأولياء المقربين الذين يعرفون الله بقلوبهم. والأخيرة لا تحصل عن طريق الكسب والتعلم والتَّصور والاستدلال، ويقول: “إنّما هي إلهام ونفث في الروع ونور يقذفه الله في سر العبد فيعرف العبد الله معرفة مباشرة لا واسطة فيها ويقينية لا شك يعتريها”.

ويضيف أستاذنا أن هذه الدرجة العرفانية لا تأتي عن طريق المجاهدة الروحية فحسب، بل عن طريق إمعان نظر المتصوف في ثلاثة أشياء هي: بالنظر في الأمور كيف دبرها، وفي المقادير كيف قدَّرها، وفي الخلائق كيف خلقها.

وينتقل مفكرنا من الحديث عن المعرفة عند ذي النون إلى مقام الحب موضحاً أن الأنس والاتصال والوصال بين العابد المحب والباري المحبوب تعد من أخص أسرار المتصوف التي لا يبوح بحقيقتها لأحد، غير أنه يمكن أن يصف بعض عتبات الطريق إليها، وهي أن يكون المحب صابراً شاكراً ذاكراً، ويقول: “أمَّا إذا كان العبد ساهياً لاهياً معرضاً عن ذكر الله؛ فذلك علامة إعراض الله عنه، ويرى أيضاً أن الرب إذا آنس العبد بخلقه أوحشه من نفسه، وإذا أوحشه من خلقه أنسة بنفسه”.

ويرى مفكرنا أن أصدق الأمثلة على صدق دروب الحب عند المتصوفة الأُوّل نجده في تجربة رابعة العدوية (713-801 م)، تلك التي ذابت عشقاً في الذات الإلهية بمنأى عن أحوال الخلائق المحبّة، فلم تكن خائفة ولا طامعة بل كانت فانية في معيته وحضرته، ويقول : “وعلى يد رابعة بذرت لأول مرة في تاريخ الحياة الروحية الإسلامية بذور الحب في بستان القلب”. ويضيف أن هناك العديد من الأوجه تجمع بين رابعة وابن الفارض (1181-1234م)، فكلاهما خاض بحور الحب إلى منتهاها قاصداً الأنس والاتصال والوصال والعيش في معيّة اللطف الإلهي، غير أن ما يميز الأخير جمعه بين الحب الإلهي وعشقه للحقيقة المحمدية مبيناً مكانة النبي عند الباري الذي أعلى من شأنه على كل الخلائق وجعله أنموذج للإنسان الكامل وخير من بعث واستأمن على كلام الله.

ويبيّن مفكرنا أن عشق ابن الفارض للنبي لا يعني مشاركته للباري في قلبه وعواطفه، بل أن حبه للمصطفى لم يكن سوى صورة من صور حبه لله باعتبار النبي أحب خلق الله إليه.

ويعرِّف مفكرنا في قصته التي نسجها من خياله فتروي حواراً بين المريد وشيخه وهي المعنونة بـ (حديث العقل والقلب) على لسان الشيخ، النفس المطمئنة بأنها “هي التي تنوّرت بما أشرق عليها من أنوار قلبية، وتهذبت بما فاض عليها من أسرار إلاهية .. والنفس الناطقة هي هذا الجوهر العاقل في الإنسان به يرى ويفكر، وعليه يعول فيما يعقل ويدبّر. وإذا استطاعت النفس أن تتمثل الحقائق تمثلاً يقينياً وأن تستحضر الدقائق استحضاراً حدسياً، فهي النفس القديسة التي تتصل بذاتها بموضوعها اتصالاً مباشراً تسقط فيه الوسائط وتزول الحجب وينكشف المحجوب، فيحصل الطالب على المطلوب، ويصل المحب إلى المحبوب”.

ولا يفصل مفكرنا بين العقل بوصفه آلية من آليات المعرفة والنفس القدسية الحدسية القادرة على الوقوف على الحقائق الربانيّة إلا من حيث هي درجة في سُلَّم العرفان، وهو يتفق في ذلك مع المحاسبي، وابن سينا (980-1037 م)، وابن باجة (1095-1138 م) ويقول: “القوة العقلية هي التي تقود الإنسان إلى الحقائق وتجنبه البواطل، وتظهره على الحسن فيتبعه، وعلى القبح فيمنعه. ولا يكون الإنسان إنساناً بالمعنى الصحيح إلا إذا كانت القوة العقلية هي الغالبة عليه والموجهة له، بحيث لا يأخذ من سائر القوى إلا ما لا بد منه، ولا غُنى عنه، وبحيث يقع التعادل بين قواه فيحصل التوازن بين أفعاله، ويكون بمنجاة من الوقوع في الزلل والحرج، أو الإغراق في الغلط والشطط”.

ويُعرّف مفكرنا التصوف على لسان المريد الذي كان يراجع شيخه فيما حفظه عنه، المنهج الذي أجملته لي في ثلاث هي : النظر العقلي السليم، والذوق القلبي المستقيم، والخلق النقي القويم، وأخذت أفكر وأنظر وأتذوق وأشعر وأعمل وأدبر، على هدى من ذلك المنهج الذي أحسبني قد أصبحت معه أكثر استعدادا لتحقيق المثل الأعلى الذي تريدني على أن أحققه على يديك”.

ويحذّر مفكرنا على لسان الشيخ كل من يشرع في اختيار هذا الدرب من آفة الغرور، فيقول: “أنني أحبُّ أن أنبّهك إلى شيء يجب أن تنتبه إليه، وتحذر منه، وتتجنب الوقوع فيه أو الخضوع له، وأعني بذلك الشيء : الفتنة التي تدفع الإنسان إلى حيث يُخيَّل إليه أنه قد وصل من العلم إلى أقصى نهاياته، وانتهى في العمل إلى أسمى غاياته، وأنه لم يعد في حاجة إلى أن يستزيد من علم أو يجود في عمل، ذلك ما أعيذك منه، وأربأ بك عنه، وألح عليك في أن تجنب نفسك السبيل إليه. واعلم يا بنيّ أنك مهما علمت، ومهما أصبحت في نظر نفسك وفي نظر الناس عالماً، فأنت مع ذلك ما زلت جاهلاً، ومن يدريك فلعل الذي تعلمه إذا قيس إلى الذي تجهله فلن يكون شيئاً .. فإياك إياك يا بُنيّ أن يفتنك علمك عن جهلك وأن تشغلك فضيلتك عن رذيلتك، وأن يلهيك ما استقام منك عما لا يزال معوجا فيك”.

ويُحَذِّر مفكرنا أيضاً تلميذه من الجهلاء وأدعياء العلم، وذلك بقوله: “ألا ترى أنه ليس أضر بالعلم والخلق من أن يترك هؤلاء يعيثون في العلم فساداً ويعبثون بالخلق إفساداً، يردّدون ألفاظاً وعبارات جوفاء. يوهمون بها السذج والبلهاء ويتملقون بها العواطف والأهواء ويتخذون منها سبيلهم إلى المآرب والغايات، وما دروا أنهم إنما يعولون على سراب وأن الله قد كتب لهم أسوأ النهايات”.

وذهب إلى أن التصوف الإسلامي العملي لا ينفصل عن ذلك التصوف الروحي فلا نظر بلا عمل ولا عمل بلا نظر، المتمثل في الزهد والتبتل والدعاء والارتقاء في المقامات بالمجاهدة الروحية، والحجة في ذلك سيرة النبي وسنته قبل وبعد البعثة.

ويتحدَّث عن النبي بوصفه الإنسان الكامل، والنور الأول، والحقيقة الأولى، قائلاً : “لم يكن إنساناً كاملاً كغيره من أفراد الإنسان الكامل الذين يتمثلون في هذا النبي أو ذاك فحسب، ولا هو أكمل إنسان اختص بما لم يختص به غيره من الكمال فحسب، ولكنه كان هذا وذاك وكان شيئاً آخر أسمى من هذا وذاك، وكان له أثره في التاريخ الديني بصفة عامة، وفي تاريخ الحياة الروحية الإسلامية بصفة خاصّة، وفي تاريخ الفلسفة الصوفية الإسلامية بصفة أخص، فنبوته الظاهرة كانت مطلع فجر جديد في حياة الإنسانية وسلوكه الذي سلكه إعداداً أو استعداداً لهذه النبوة، وفي إبانها كان كله إقامة لصرح الدين القويم على دعائم نفسية وخلقية وروحية واجتماعية، وتوجيهاً للأفراد والجماعات إلى الأخذ بالمبادئ التي أخذ بها نفسه وعقله وقلبه، والتي لو أخذوا بها نفوسهم وعقولهم وقلوبهم على نحو ما أخذ بها؛ لصلحت حالهم في معاشهم وحسن مآلهم في معادهم ولظفروا بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”. ويقول عن أهمية الحب في النسق الصوفي: “لا نكاد نقف على حياة صوفي من الصوفية ولا على أثر من آثاره إلا ونجد الحب الإلهي قد أثر فيه، ووجه ألفاظه ومعانيه وجعل منه شاعراً أو ثائراً يختلف حظ شعره أو نثره من القوة أو الضعف ومن الرقة أو العنف بمقدار ما سيطر عليه الحب وصفاً منه القلب .. وليس من شك في أن هذا التراث الروحي الذي خلفه الصوفية المسلمون في الحب الإلهي هو خير المنابع التي تستقي منها الفلسفة الصوفية الإسلامية وما تنطوي عليه هذه الفلسفة من المعاني النفسية والخُلقية والميتافيزيقية”.

ويرى شراح ابن الفارض أن مديح سلطان العاشقين للنبي لم يكن للطابع الإنساني بل أن حبّه وعشقه الذي ورد في شعره لم يكن سوى تعبيراً عن هيامه بالنور المحمدي والحقيقة المحمديّة التي خُلق الله منها كل الأنوار والحقائق، ويقول : “ولا نكادُ نعثر لابن الفارض على قصيدة بأكملها قصد فيها من أولها إلى أخرها إلى وصف حبه النبوي وذكر حبيبه المحمدي، وإنما هو قد احتفل بحبّه الإلهي، وبمحبوبه الحقيقي، احتفالاً لم يسبقه إليه أحد من المتقدّمين، ولم يشارك فيه أحد من المعاصرين، ولم يلحق به فيه أحد من المتأخرين؛ فهو من هذه الناحية إمام المحبين وسلطان العاشقين، ولم يخصص بعض قصائده الطوال أو القصار لمدح الرسول عليه الصلاة والسلام، ولعلّه قد شغله حبُّه الإلهي عن حبّه النبوي، وملك عليه قلبه ذكر محبوبه الحقيقي، وهو الله عز وجل، أكثر ممّا ملك عليه هذا القلب ذكر حبيب ذلك المحبوب الحقيقي وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لأن محمداً قد اختص من دون الأنبياء عليهم السلام بمقام المحبّة، فالله قد اتخذ من محمد حبيباً، على حين اتخذ من غيره من الأنبياء صفياً ونجياً وخليلاً”.

ونألف مفكرنا يعمل على نشر الأخلاق الصوفية بين الشباب مُرغباً إياهم فيها ومحبباً السير في دروبهم، وذلك عوضاً عن طريق الجهلاء الشاغل بالشهوات وطريق المتعصبين المهدد والمحذر بالويلات، وطريق المتطرفين الذين لا يُضمرون للأغيار سوى الشر والعداوات. ويقول على لسان أحد أبطال أقاصيصه التي كان ينسجها كآلية من آليات التواصل مع الجمهور : “إذا أردت بعلمك وعملك وقولك وجه الله، فكن عقلاً منزهاً عن الأغراض، وكن قلباً مبرأ من الأمراض، وكن ضميراً مُجرّداً عن النزوات والأهواء، ثم قُل بعد ذلك ما شئت لمن شئت، فلن يكون قولك عند ذلك إلا حقاً وصدقا” .. “والعقل سُمى عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن ركوب شهواته وإتيان المكاره والمضار، وإن مثل العقل فيما يعقل ويضبط من أمر الإنسان، كمثل العقال فيما يمنع الناقة من الشرود والنفار، ومن هنا يمكن أن يقال : إنّ العقل هو عقال النفس”.

تلك كانت فلسفة التصوف عند محمد مصطفى حلمي، فأين نحن منها الآن؟ فمعظم طرقنا الصوفية المعاصرة قد انصرفت عن هذه الوجهة العملية للتصوف، فنألف بعضها قد استغرق في بحور العشق الإلهي، فرغب في كثرة العبادة وانفصل عن المجتمع بحجة أن الفساد أكبر من مجاهداتهم وجهادهم، وأن العنف والظلم قد سلك مسالك وعرة لا يقوون على السير فيها، وأن الأكاذيب والدسائس والحسد والضغائن قد ملئت القلوب فهجرها الحب وهو الذي يعد الآلية الأولى التي تعمل على تصفية النفوس وتهيئتها بالاتصال والوصال الرباني.

أمّا الفرقة الأخرى فقد راق لها السّير في ركاب العوام الذين أخذوا من التصوف قشوره ومظاهره الدخيلة على جوهره، مثل حفلات الذكر والموالد الشاغلة بالمتنطعين والعطالة والبهاليل، ومعظمهم ارتدى لباس الجهل، وحسبه زهداً ورغب عن أفعال العبادة، بحجة أنهم من المختارين وصفوة العابدين، فابتدعوا البدع وروجوا للخرافات واحترفوا الدجل.

أمّا الصنف الثالث : فيمثله تصوف رجال الأعمال الذين يكتفون بمجالسة المشايخ وبذل المال للفقراء ومدّ الموائد في رمضان وحسبوا ذلك تصوفًا، في حين أن واجبهم الحقيقي هو إحياء الأخلاق الإسلامية في قلوب الشباب قبل الشيوخ واقتلاع الطمع منها وإعادة نشر بذور الورع فيها كما أن إكثار أدعيائهم من الصلاة على النبي (باللفظ البّراني) وترديد مدائحه والاحتفال بمولده (دون تطبيق فعلي لسنته الشريفة)، لا يمكن إدراجه في التصوف العملي، فتحيّة النبي الحقيقية في السير على سنته وتبليغ دعوته والزود عن سيرته، وهذا هو الذي دعا إليه أستاذنا ومعلمنا محمد مصطفى حلمي.

بقلم : د. عصمت نصّار 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *