Share Button

 

بقلم : د. عصمت نصَّار

على الرغم من قوة الوازع الديني في كتابات “وجدي” وحرصه على الزود عن الإسلام ضد أباطيل المستشرقين وحملات الملحدين وافتراءات المشككين إلا أنه قد سلم لمثاقفه (طه حسين) بأن هناك تهويل ومبالغة وانتحال وتلفيق وكذب، في كتب السيرة وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم. وبرر “وجدي” ذلك بأن بعضها بقصد : يهدف إلى تشويه حقيقة خبر النبي وأفعاله؛ ليسهل بعد ذلك الترويج لما وضعوه ولفقوه ثم نقده وسخريته منه بعد أن إشاعة نسبته إلى النبي وكذلك مئات الأحاديث التي اصطنعوها لخدمة أغراضهم القريبة والبعيدة. وذلك للحط من شأن كتب الحديث، وتنفير العقلاء منها تمهيداً لتفنيد ما فيها من أقوالٍ غير مقبولة؛ لأنها لا تتوافق مع أصل الشرع تارة واحتياجات المجتمع تارة أخرى.

 وبعض تلك التلفيقات أو الأكاذيب جاءت بغير قصد وهي تلك التي أرادت  الإعلاء من شأن النبي والمبالغة في تكريمه ورفعة مكانته ونبل منبته، ورغم حسن نوايا أولئك؛ فإن خطر كتاباتهم لا يقل شأناً عن سابقتها فهناك بعض الأخبار التي رفعت النبي درجات فوق البشر وأخرى نسبت له معجزاتً وقدراتً وصفات للسمو بمكانته ورفع قدره على الرسل والأنبياء السابقين عليه، الأمر الذي دفع خصوم الإسلام من غلاة المستشرقين والمتعصبين إلى السخرية من هذه الأخبار والتسفية من هايتك الأقوال.
غير أن هذه الضلالات – مجتمعة – لا أساس لها شرعاً ولا تمُت بصلة للحقيقة فمن العسف انتسابها لسيرة النبي أو أقواله وذلك لأن هناك عشرات المؤلفات الناقدة التي ظهرت بأقلام علماء المسلمين للكشف عن مواضع معظم الانتحال ومواطن التلفيق في كتب السيرة، وكتب أخرى راحت تصنف الأحاديث مستندة على منهج علمي دقيق لتجريح الروايات وأسانيدها وتعديلها وتقييمها من حيث (الصّحة والاستحسان والضعف والبطلان والذم والكذب).

وكل ذلك يثبت أن المواضع المعيبة التي أقام المستشرقون عليها نقودهم ليست جوهرية ولا من أصل الدين ولا من سلب العقيدة؛ فالمنتحل ملفق، أختلق الروايات والقصص والأحاديث ثم نسبها إلى راوي صادق، فنقلت على أنها صحيحة بين العوام وظنوها من الأصول فقدسوها ودافعوا عنها.
أمّا المجددين من الفقهاء والمحللين من العلماء أرتابوا في نسبتها إلى النبي وصحابته ولم يعتمدوا عليها في اجتهاداتهم أو اقيستهم الفقهية وتفسيراتهم للنصوص الشرعية.

أمّا حديث “طه حسين” عن ما جاء في كتب المؤرخين عن صحف إبراهيم والأناجيل والتوراة، وأن القرآن جاء ليصوب الأغاليط  ويصحح المعتقدات ويحيي ويبعث ملة إبراهيم ويتمم دين المسلمين الذي وردت بدايته في دعوة إبراهيم. وادراج “طه حسين” ذلك كله ضمن الانتحالات التي وضعها المؤرخون للتعظيم من قدر القرآن والرسالة المحمدية، فإن مثل ذلك يرى “وجدي” أن هذا الحكم يأباه العقل وصحيح المنقول معاً. موضحا : أن القرآن قد جاء بفصل الخطاب الإلهي للناس كافة بعد أن بُدلت كلماته وحُرفت شريعته على يد الأفاقين الذين زوروا كلام الله وسيروا تعاليمه لخدمة مصالحهم وجاروا واستبدوا واستعبدوا الناس واغتصبوا حرياتهم وانتهكوا حرماتهم.

جاء محمد ليكذب ذلك الإفك وتلك المزاعم حتى لا يتقاتل الناس دفاعاً عن أوهام أو أضاليل اعتقدوا في قدسيتها وأهملوا وصايا الأنبياء وصحائف الرسل، وأعلن محمد بأن الله قد اصطفاه؛ ليتمم ما بدأه نبي الله إبراهيم من مواثيق أخلاقية ومبادئ شرعية وقواعد كلية محكمة لتأسيس الصالح واستيعاب كل نافع. وكل ذلك لا يمكننا تكذيبه؛ لأن العقل لم يستطع الآتيان بمثل حكمته رغم تجاربه الكثيرة خلال الديانات التي وضعها كبار الفلاسفة والمخترعين والكهنة مثل البرهمية والبوذية والكونفشيوسية واليهودية والمسيحية التي تبدلت حروفها والوثنية وغيرها من الملل البدعية المحشوة بالخرافات والمحاطة بالأساطير.

كما أن القرآن نفسه الذي استشهد به محاوره (أي “طه حسين”) هو الذي صدق على هذه الواقعات والوقائع.

ويقول “وجدي” رداً على ذلك (ونحن نقول : إنّ الأمر الذي يستغربه الدكتور طه حسين – وهو أن للإسلام أولية كانت قبل أن يبعث النبي، وأنه خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل؛ هذا الأمر قد قرره القرآن نفسه، وجدّ في بثه في العقول، ونشره في الشرق والغرب، واحتج به المجادلون من المسلمين الذين كانوا يجادلون أصحاب الملل الأخرى.

وهذا الأمر نفسه الذي يستغربه الدكتور طه حسين هو المبرر الوحيد لأن يتقدّم الإسلام إلى الأمم، وهي تموج في خضمًّ زاخرً من الديانات، بعنوان أنه دين عامٌّ لجميع العالمين، وأن الآتي به هو خاتم النبيين .. جاء الإسلام والعالم غاص بالأديان، حافل بالملل، قد توزعت أممه الكبرى أديان رسخت أصولها، وشمخت صروحها، وعزت قاداتها، وتنوعت وجهاتها وغاياتها، حتى لم يبق بينها متنفس لدين جديد … قد تنوعت في جميعها المذاهب، وتعددت الفرق بحيث لم يبق شيء يمكن خُطوره على البال عن الأمور الدينية والروحية لم يخض فيه قادة هذه الأديان، فهل كان موجبٌ لحدوث دين جديد؟
وهل يصادف هذا الدين لو ظهر مكاناً من العقول؟ وهل يجد مذهباً في الأمور العلوية لم يأت به ما سبقه من الملل؟ وهل يمكن أن يتخذ غرضاً لم يخطر على بال كل هؤلاء القادة من المتكلمين والكُهان؟).

ويؤكد “وجدي” على حقيقة تميز بها الإسلام عن غيره من سائر الملل والديانات ألا وهي إلغاء أي سلطة كهنوتية أو وساطة بشرية بين جميع البشر والإله الخالق باعث الرسل ومرسل الأنبياء. ولعله أراد من ذلك البرهنة على عصمة القرآن من التحريف، فلو كان غير ذلك لنصب النبي نفسه أو أقربائه أو صحابته مقام الخلافة الشرعية المقدّسة أو الكهانة التي تمنح وتمنع وتنطق باسم الرب. فقد أنزل الله القرآن على لسان محمد عليه الصلاة والسلام؛ ليبلغه ويفسره وجعل العلماء والعقلاء والعارفين من سائر البشر خلفاء للأنبياء؛ ليبصروا العوام بالحكمة الإلهية، ويقوموا مقام الرسل في تبليغ الدعوة وشرح مقاصدها وتطبيق الأمر الإلهي بالمعروف لهداية سائر الأمم، إلى يوم أن يبعثون.

كما نبّه “وجدي” إلى حقيقة أخرى غاية في الأهمية ألا وهي أن الوحي الإسلامي الذي جاء على لسان محمد عليه الصلاة والسلام هو ناسخ لما قبله من تعاليم الإلوهية، وهو في حقيقته غير مناقد لها، بل هو مُكمل ومُتمم تبعاً لما تراه الحكمة الالهية من خير للناس كافة عوضاً عن الديانات التي خصّ بها الله أقواماً بعينها.

ويقول “وجدي” (كانت الأديان قبل الإسلام محتكرة في أيدي طوائف ممتازة من الشعوب نحلوا أشخاصهم حق الوساطة بين الله وخلقه، ونصبوا أنفسهم قواماً عليهم في شئونهم الجسدية والروحية معاً، وحصروا في جماعتهم حق تقرير العقائد، وفرض التقاليد والإيعاز إلى الناس بما يجب أن يعملوه، وما يجب أن يجتنبوه، مستسلمين لإرادتهم استسلام الطفل لمربيه، لا حق لهم  في إجالة نظر، أو تعقل أثر، أو تفهم خبر، مسوقين إلى حيث يعلمون ولا يعلمون، مؤاخذين بما يفهمون وما لا يفهمون … فلما استحكمت حلقات هذا القهر، واستعدت النفوس للخلاص من هذا الأسر، وسمح للنفوس الرازحة تحت نير العبودية، أن تتمتع بحريتها الفطرية، وللمواهب الراسفة في أصفاد الجبرية، أن تتمتع بحقوقها الطبيعية، جاء الإسلام فأعلن للناس كافة أن أصل الأديان كلها واحد، وإنما اختلفت في أمورها التشريعية، تبعاً لحالة الجماعات من الناحية الاجتماعية، وأن الأصل هو أن يقوم الإنسان على الفطرة التي فطر الله الناس عليها).

 والجدير بالتأمل والنظر والتحليل لاستجلاء الخبر والاستدلال على العبر عدة أمور مستنبطة من ردود “وجدي” السابقة نذكر منها :

  • أن مفكرنا لم يكتف بالسياق التراثي والنسق القرآني في نقد ادعاءات “طه حسين” التي نقلها بدوره عن غلاة المستشرقين بل كان من حين إلى آخر يحتكم إلى العقل والمنطق ويحتج بالواقعات المسلم بصحتها.
  • كما أنه ألمح إلى خطر ظهور مصطلح (السلطة الدينية) في ثقافتنا الإسلامية ظاهراً أو مستتراً، وذلك لأن الإسلام جاء معارضاً وناقضاً لكل من ينصّب نفسه نائباً أو وكيلاً عن الرب فيحرم ويحلل ويزغر ويشكر وذلك لأن الله لم يفوض سوى القرآن وسنة نبيه للدعوة والهداية ترغيباً وليس ترهيباً وجعل شرط الإيمان سلامة العقل وحرية الإرادة وخصّ الثواب والعقاب والعزة والمنة وحياة البشر والفناء والموت والقدر بمشيئته وعلمه وإرادته العلوية، ومن ثم لا كهانة ولا عرافة ولا شفاعة لعابد أو ولي أو إمام أو راهب. ولم يخص جماعة بفضل يميزها عن غيرها ولم يفضل أمة على دونها من موجودات إلا بصدق الإيمان وحسن الطاعة والإحسان في القول وسلوكي والعطاء.
  • ومن المؤسف أن نجد في أيامنا من يرتدي كل العباءات باسم الدين ويأمر بما نهى عنه العقل والنقل معاً.
  • كما حرص “وجدي” على توضيح حقيقة مازال علماء الأديان يتجادلون حولها ألا وهي قضية البدء والنسخ إذ بين أن كلام الله لا يمكن وصفه بالتناقض أو بالاضطراب أو بالنكوص ومن ثم لا حجة للمرتابين في قدسية الشرع ولا تبرير القول بأن الأديان متعددة ومتباينة وأن الوحي الإلهي علة الصراع بين البشر وأن هناك دين سماوي أفضل من غيرهم، وذلك أن النسخ في الدستور الإلهي قد جعله الله وقفاً على تبيان المقصد الشرعي وغايته في جعله في آخر الرسالات يرجع إلى كون الإسلام هو أخرها والمتمم للدستور الهادي للناس كافة مع تباين طبائعهم وظروفهم وأحوالهم عبر الأكوان والعصور.
  • ويعني ذلك أنه لا علة ولا سبب لأنكار اليهود وتكذيبهم لبشارة عيسى وعدم اعترافهم بالحكمة الالهية من نسخ عقيدتهم في آيات القرآن وإبطال ادعاءاتهم بأن ما جاء في التوراة من تعاليم لا تنسخ ولا تبدل لأنها مرسلة لأفضل أبناء أدم وأعقل البشر.

(وللحديث بقية)

بقلم : د. عصمت نصار 

 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *