Share Button

بقلم : د. عصمت نصّار  

أنتقل “وجدي” إلى قضية الفن القصصي ومدى أثره في تلفيق وتزييف كتب السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي في الثقافة العربية، تلك القضية التي أثارها “طه حسين” في كتابه (في الشعر الجاهلي) ذلك الأدب الذي ظهر متأخراً عن الشعر، فلم يبلغ مقامه ولا اهتمام العرب به، ولم ينبغ رواته إلا في أواخر العصر الجاهلي وفجر الإسلام. ويروي “طه حسين” أن معظم القصص التي رويت ونسبت إلى ذلك العصر قد تأثرت بأربعة مؤثرات هي : القصص القرآني، وما ورد في التوراة والانجيل، وما حكى عن الملاحم الفارسية والهندية، وما نقلته المرويات الشفاهية من حكايات عن طرائف العرب ومناقبهم ومشاهيرهم.
وقد اجتهد القصاصون الأوائل في سبك العديد من القصص ذات الصلة بالدين والنبوة وزينوها ببعض الأبيات الشعرية. وقد نبغ بعض القصاصين في اختلاق الأحداث وانتحال الواقعات المنسوجة بخيوط الخيال وألوان الشعر المناسبة. ولاقت تلك المنسوجات رواجاً في مجالس العقل الجمعي وأضحت أداة مسلية شائقة تروى في مساجد وفي ساحات القصور، ولم يتحر سامعوها عن مدى صحة الأخبار والمواقع والأحداث التي تحويها بل كان همهم الأكبر في تتبع أحداث القصة ومغامرات أبطال الرواية.
ويتفق “وجدي” مع ما جاء من شكوك عند “طه حسين” وعدم برائة دور هذا الفن في التلفيق والكذب وادعاء مئات الحكايات والمواقف والأخبار التي تصور الحياة في صدر الإسلام بخلاف حقيقتها وعصر الخلفاء الأمويين والعباسيين.
ولكن ما يؤخذه “وجدي” على “طه حسين ” هو اعتقاده أن ذلك الدَّس والكذب والتلفيق لم يفطن إليه المحقّقون الأوائل بل على العكس؛ فقد ظهرت التحقيقات العربية المبكرة التي غربلة هذه القصص ووقفت على ما فيها من أكاذيب متعمدة لتشويه الأوضاع الاجتماعية والسياسية للعرب ونيل من بعض الشخصيات المؤثرة في الأمة الإسلامية.
وكشف النقاد عن أغراض أولئك الملفقين وفضحوا أكاذيبهم حتي لا تختلط مروياتهم بكتب الحديث الشريف والسيرة والأخبار ومن ثم كان لزاماً على “طه حسين” الوقوف على تلك الحركة النقدية وعدم مسايرة غلاة المستشرقين الذين نقل عنهم وراح يرفع لواء “ديكارت” ويطعن التراث العربي بنصل الشك ليحذر شبيبة الباحثين من أوهامه وضلالاته. ويقول “وجدي” في ذلك (أما ما ذكره الدكتور طه حسين عن القصص والقُصّاص؛ فكلام ثمين من ناحية تحديد القصص وتصوير نفسية القُصّاص. وكُّل ما نلاحظه عليه أن القارئ لما ذكره عنهم يخيل إليه أنهم من الطوائف ذات الاتصال الوثيق برجال الدين، وأنهم مالئوهم على التأثير على عقول العامة من هذا الطريق. والحقيقة أن بنية العالم الإسلامي لفظت القٌصّاص من يوم أن ظهروا بعد خلافة عمر بن الخطاب، وأنهم قد طوردوا كما تطارد المبتدعة في كل الأجيال الإسلامية؛ ذلك لأن هؤلاء القٌصّاص كانوا يخلطون بين الإسلاميات وبين ما يجمعونه هنا وهناك من أخبار الأمم وأخبار الأفراد، وبنية العالم الإسلامي قامت على التثبت والتحقيق، حتى أن المسلمين تولوا الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتَّفلية والتمحيص؛ فأقروا نحو عٌشر ما كان متداولاً مشهوراً منها، واعتبروا نحو تسعة أعشارها مصنوعاً لا يؤخذ به. فبنية هذا – أي منهجه ومقصده – عدم الأخذ بغير الحق وإن كان ديناً، ولا تحتمل القصص بوجه من الوجوه؛ فكان يجب على الدكتور طه حسين، دفعاً لتوهم رضاء الدين أو أهله عنهم، أن يصور لقرائه مكانهم من الإسلام وذويه من عهد ظهورهم الأول إلى اليوم … هذه قيمة القُصاص وقيمة ما كانوا يطرفون الناس به من نثر وشعر؛ فإذا كان قد اعتمد عليهم بعض المغفلين من الزعماء والقادة في نشر دعوة أو بث فريةٍ، فإنهم قد اعتمدوا على غير معتمد، واستندوا على أوهى سند). وقد استشهد “وجدي” بالعديد من المصنفات العربية الناقدة والكاشفة عن تدليس وأكاذيب مزيفي التاريخ الإسلامي نذكر منه أبو عبدالله بن محمد العبدري الفاسي المعروف بابن الحاج، (ت737هـ ـ 1336م) وكتابه (المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات) الذي تحدّث فيه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضيلة الإخلاص في العمل ورذيلة الكذب والتضليل وخطر الدس واختلاق البدع في العبادات وافتتان الناس بها وادراجهم لها ضمن المقدسات، وأورد من أحاديث النبي ما يؤكد خطورتها وشناعة العمل بها. وذكر كذلك أخبار زجر الخلفاء الراشدين وطردهم للقُصاص ومنتحلي الروايات وصد الناس عنهم.
والجدير بالإشارة أن بعض القنوات التلفزيونية والمواقع الإخبارية تتعمد نشر بعض تلك الأخبار المكذوبة والحكايات الملفقة على أنها من التراث الإسلامي الأصيل ثم تأتي بأحد المشككين فيعيد ما ذهب إليه “طه حسين” ويوهم مشاهديه بأنه صاحب قضية علمية واكتشاف خطير؛ الأمر الذي يثير الرأي العام ويتفرق المثقفون بين مكفر ومشكك ومصدق ويتعملق الأقزام وتتشعب قضايا قد حسمت من مئة عام؛ ويرجع ذلك كله إلى أننا لم نحسن قرأت كتابات المجددين الحقيقين ولم نحلل مناظراتهم ومساجلاتهم لنتعلم منها ونستخلص الأجوبة على الأسئلة التي تشوش أذهان الشباب المعاصر.
ولو سألني بعض القراء عن الهدف من وراء إلقائي الضوء وإحيائي هذه المناظرات الفكرية التي أجريت منذ مئة عام وأثرها في فوضى الشائعات والاتهامات الموجهة إلى التراث العربي الإسلامي من جهة والمجددين الأوائل في مصر على وجه الخصوص من جهة أخرى. فأنني أُجيب أن الهدف من الإحياء هو الكشف عن حقيقة أو توضيح غامض وإزالة وهم وشبهه. فما أكثر الأكاذيب التي يرددها أصحاب الأيديولوجيات و الراغبون في الشهرة والمفتونون بكتابات غلاة المستشرقين، وحشوا أذهان شبيبتنا بها فتهوي ببعضهم إلى آتون الألحاد أو إلى مستنقع الاستغراب وجحد الهوية والتنكر لنجاحات الماضي. تشكيكهم في منهجية المجددين الأول في دفاعهم عن أصالة حججهم في الزود عن أصول العقيدة وسماحة الإسلام وعقلانية علمائه ومفكريه. وتبيان أن علة ما نحن فيه من فوضى وتشويش ترجع إلى عدم اقتفائنا لمنهج قادة الفكر في التحقيق والنقد والاصلاح وتطوير آلياته.
بل انصرفنا إلى تقليد الأغيار دون دراية والاصغاء إلى تدليس المتعالمين والأفاقين وجهل شبيبتنا بفن الغربلة والانتقاء.
ولعلّ ردود “محمد فريد وجدي” في هذه المناظرة تؤكد ما أسعى إلى إثباته ألا وهو أن العلة الحقيقية وراء انحدار ثقافتنا وتلوث قيمنا ورداءة منابرنا الثقافية ومؤسساتنا التعليمية ترد في المقام الأول إلى انقطاع التيار التنويري وغيبة المدارس الفكرية التي تعيد المناهج النقدية إلى مركز تفكيرنا لتقويم معارفنا وتجديد أساليبنا وتخلية أذهاننا مما يعيقها عن الأبداع وانتقاء النافع من شتى الحضارات لحل مشكلاتنا المعاصرة سيراً على سُنة من جحدناهم وتجهلنا جهودهم.
فما برح أصاغر المثقفين المعاصرين يتهكمون على كتابات حسين المرصفي والمولحي والمنفلوطي وعبد المتعال الصعيدي وعبد العزيز جاويش ومحمد فريد وجدي وغيرهم من الكُتاب المحافظين بحجة أن كتاباتهم غير ذات قيمة وأن خطاباتهم قد أخفقت في دفع حياتنا الثقافية والارتقاء بها، والنهوض بالعقل الجمعي، وتنوير أذهان العوام، وتجديد الفكر الديني.
فأنني لا أجد أَبلغ من إعادة قراءة بعض كتابات هؤلاء الأعلام قراءة فلسفية لإبراز ما فيها من إبداع ورؤى ناقدة واعية وآراء إصلاحية علمية وعملية لا تخلو من الجدة والطرافة التي نفتقدها الآن.
وأرجو من شبيبة الباحثين وبخاصة المعنين بالفكر العربي الحديث والمعاصر أن يوجهوا اهتماماتهم ويستثمروا جهودهم وأبحاثهم في هذا الميدان، أعني الكشف عن نهوج أعلام الفكر العربي مسلمين كانوا أو مسيحيين دون التقيد بجنسياتهم؛ فقد أنصف بعض المستشرقين هؤلاء الرواد وبيّنوا أن خطاباتهم التنويرية لا تقل أثراً في التطوير والتنوير والنهوض بالمجتمع العربي عن الفلاسفة الأوربيين التنويريين في القرن الثامن عشر بفرنسا وانجلترا والمانيا.
أما عن موضوع المناظرة التي جرت بين “وجدي” و”طه حسين” حول قضية (الشعر الجاهلي) – وهي إحدى جوانب مشكلة العلاقة بين الدين والعلم في الثقافة العربية – التي تساجل حولها المثقفون منذ العقد الأول من القرن العشرين. فقد تحدثت عنها باستفاضه في بحثاً نشرته في مجلة عالم الفكر الكويتية في العدد الرابع سنة 2000م بعنوان (إشكالية العلاقة بين الدين والعلم عند طه حسين) لذا لم أرد التوسع في ذلك الموضوع في هذا المقال. فالذي يعنيني هنا في هذا السياق هو التأكيد على عقلانية ومنهجية “محمد فريد وجدي” في مساجلاته ومناظراته التي تكشف عن أصالة تفلسفه.
(وللحديث بقية عن مساجلة أخرى).

بقلم : د. عصمت نصّار 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *