Share Button

من أجل ذلك جاء السياق القرآنى يؤيد ذلك ويؤازر ما قاله الله تعالى “ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه”
فأكد همها بلفظة ولقد همت به فى حين أنه نفى هم يوسف بلفظة لولا
_ والهم هو الخاطرة التى ترد فى الذهن قبل التنفيذ _ فاستقام المعنى بأنه لولا أنه نبى مخلص لهَمَ بها فلولا حرف إمتناع فامتنع وقوع جواب الشرط لامتناع وقوع فعله . فانتصرت المقاومة المؤمنة العفة على المراودة الخاطئة الخائنة بعد أن هُتكت حُجُب الحياء ليبقى يوسف ذاكرا لربه وقّافا عند حدوده نقيا كما كان تقيا كما بدأ مما حدى بالله الجليل أن يكافأه فى عَجُز ذات الآية بقوله تعالى
” كذلك لنصرف عنه السوء إنه من عبادنا المخلصين ”
فما إستحق هذه الجائزة إلا لعفته ولرفض مجاراتها .
وأنه يبدو من المنطقى أن هذه المحاولة الخشنة قد سبقتها عديد المحاولات الناعمة فى سبيل إغوائه ويُفهم ذلك مما ورد بالقرآن على لسانها
” فذلكن الذى لُمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وإن لم يفعل ما آمره ليسجنن و ليكونن من الصاغرين ”
وقوله تعالى
” وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه و غلَّقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي ”
ثم على جانب من الأحداث يظهر على المسرح ذلك الرضيع إبن قابلة زليخا (الداية) إبن السبعة أيام الذى أنطقه الله فى المهد ليقول الله تعالي على لسانه
” إن كان قميصه قُد من قُبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قُد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ”
و غني عن البيان أن شهادة الطفل الرضيع كانت من قبيل المعجزة فقد أنطقه الله تعالى القادر و من الجدير بالذكر أنها شهادة خبير و لم تكن شهادة تقليدية و هي شهادة الرؤية و أمانة النقل وهو ما علق عليه القرآن الكريم على لسان العزيز
” فلما رأى قميصه قُد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ”
و هو إعتراف صريح من العزيز بأن ما حدث كان من قبيل الكيد من زليخا ليوسف و أنه إستنكر هذا الكيد في حينه
وهو ما حدى بيوسف أن يهتف صارخا بملء فيه والشواهد على صدقه متكاثرة ” هى راودتنى عن نفسى ”
بلهجة قوية وصلت حد العنف وجبينه يتألق بالنور وقسمات وجهه تنضح بالنبل وتشهد له بأعلى درجات الشرف والعفة
فلقد نطقت لغة جسده الشريف لتعلن للدنيا مظلوميته واستياءه مما لحق بساحته و براءته التامة الكاملة منه وهو ما أفزع العزيز فرجاه رجاء الضعيف المنكسر أن يصمت بقوله ” يوسف أعرض عن هذا ”
فى حين وجه كلامه لزليخا بقوله
” إستغفرى لذنبك إنكِ كنتِ من الخاطئين ”
و هنا يقر العزيز إقرارا كاملاً بأن زليخا أضحت من الخاطئين
ثم تختتم زليخا المشهد كله فى النهاية فيما بعد باعتراف صريح لا يقبل الشك أو المفاصلة
” الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين”
ولا يمكن بعد ذلك فهم إلقاء يوسف فى السجن بعد هذا السيل العرم من أدلة البراءة الدامغة و التي تتضاف إليها شهادة كبير الأمناء و هو قريب زليخا قرابة العصب إلا أن يكون حيلة من العزيز للتعمية على الفضيحة الكبرى وسترها وتوجيها من امرأته لتحفظ حياة يوسف ولتلفت الجميع عن عقوبة القتل واجبة التطبيق وفقا للقانون السائد وذلك فى قول الله تعالى على لسانها ” قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءً إلا أن يُسجن أو عذاب أليم ”
فقد طرحت السؤال و سارعت إلي الإجابة حتي تحفظ حياة يوسف و صارعت من أجل ذلك فبقاؤه في السجن أهون من قتله تنفيذاً للقانون وهو ما يفسر دخول يوسف السجن بغير حكم يصف الجريمة ويعدد أدلة ثبوتها ويحدد العقوبة الملائمة لها بل يدخل السجن بغير أوراق ثبوتية و بغير مدة محددة
وهنا يدخل يوسف فى مشاهد جديدة وعديدة فى السجن ليكون مع كل ما أحاط به من ظلمات سراجا منيرا هاديا فى كياسة وتلطف وإدراك للطبيعة البشرية
وتطل علينا أيضا صورة الإنسان المطمئن حين يطلبه الملك ليخرج من سجنه إذ أجاب في هدوء الواثق و امتنع عن مغادرة السجن إلا بعد ظهور برائته من خلال تحقيق موضوعي يعقبه صدور حكم عادل بات يبرئ ساحته يذاع ويعلن في أرجاء الدنيا
وبعد أن يخرج يوسف ويفسر الرؤيا ويعتلي عرش مصر وتكتمل شخصيته الواعية الناضجة الواثقة الرصينة التي تتواري أمامها شخوص بالقصة مثل الملك والعزيز والنسوة والبيئة منذ هذه اللحظة يواجه يوسف ألوانا أخري من المحن والإبتلاءات تختلف في طبيعتها عن ألوان الإبتلاءات الأولي لكن الآخرة أشد وأنكي وأكثر تعقيدا وتشابكا يواجهها بذلك النضج المكتمل والواعي بتلك الطمأنينة والروية فتراه يواجه إخوته للمرة الأولي ولكن بضبط شديد وهدوء عجيب وتسامح كبير وتجده يدبر بذكاء كيف يستخلص أخاه بنيامين فتراه حليما صبورا ثم تراه قد بلغت المحنة بأبيه يعقوب ذروتها فكشف لإخوته شخصيته في عتاب مهذب رقيق وعفو كبير إنها شخصية قوية متكاملة إستطاعت أن تتغلب علي كل نوازع النفس التي إعتلت متن الشطط وامتطي صهوتها وليَّن عريكتها وألقي كل أحقاد النفس البشرية وراءه ظهريا فكبح جماح نفسه وصار أنموذجا يحتذي في التسامح ونبراسا يستضاء به في العفو وانتابتني مشاعر خاصة وأنا أتصفح كتاب الله أن يوسف حسن الخلق جميل النفس عف القلب و اللسان و الجوارح و الأدب و الفهم و الحلم و الوفاء و السؤدد و الطهارة و دماثة الخلق و اللباقة
و العقل و المروءة و الإغضاء و التغافل عن الذنوب و المساوئ و كيف لا ؟؟
فهو نبي من سلالة أنبياء إصطفاه الله و وهبه العصمة ولعله من المناسب أن أسوق بين يدي الأحداث لقطة فريدة رائعة داعبت خيالي في بداية القصة ملك بها يوسف زمام المشهد دون أن ينبس ببنت شفه إذ بعد أن أوجعه إخوته ضربا وخلعوا عنه قميصه توطئة لإلقائه في غيابه الجب سجلت كاميرا الأحداث نظرة عبقرية من عيني يوسف لإخوته وقد هموا بالإنصراف بعد ما إجترحوا ما إجترحوا
إذ رمقهم بنظرة ملؤها التحدي والثقة والعلو
صدرت بين يدي شعاع كأنه سهام نارية وخلتها وكأنها نظرة قاضٍ لقطيع من المتهمين الذين ولغوا في عديد الجرائم فجيئ بهم لساحة القضاء ليسمعوا كلمة القانون وقد جلّلهم العار وكان يوسف قد إستشرف آفاق المستقبل فعلم أنه لا بد رابح وأنهم لا محالة خاسرون
( يراجع كتاب نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم للشيخ : محمد الغزالي طبعة دار الشروق )
ولعله كان يتمني أن يكون كل من إخوته الذين إنحدروا من سلالة أنبياء له صديقا لطيف القول بسيط الطول حسن المأخذ دقيق المنفذ مرهف اللسان جليل الحلم قليل المخالفة عظيم المساعفة شديد الإحتمال صابرا علي الأدلال جم الموافقة جميل المخالفة محمود الخلائق مكفوف البوائق محتوم المساعدة كارها للمباعدة نبيل المداخل مصروف الغوائل طيب الأخلاق ثري الأعراق كثير البر صحيح الأمانه مأمون الخيانة كريم النفس مضمون العون كامل الصون مشهور الوفاء مبذول النصيحة مستيقن الوداد عفيف الطباع واسع الصدر متخلقا بالصبر فمع مثله يكمل الأُنس وتنجلي الأحزان ويقصر الزمان وتطيب الأحوال ولن يفقد من صاحب هذه الصفة عونا جميلا ورأيا حسنا
( يراجع كتاب طوق الحمامة للعلامة إبن حزم )
ولكن هيهات هيهات فلم يجد إلا الجفوة وطعنات الغدر فيطل علينا عنصر التباغض والغيرة والتحاسد بين الاخوة من أمهات مختلفات تسيطر عليهم الظنون التي تهئ لهم تنوع صور الحب الأبوي فيتفاوتون في درجات البغض وتمتلئ صدورهم بزمازم ورعود أربد منها وجه السماء وزلزلت لها جبال الأرض الراسيات زلزالها ثم عنصر المكر والخداع الذي تبدي لديهم ثم لدي مكر زليخا بيوسف وبزوجها وبالنسوه ثم عنصر الشهوة ونزواتها والإندفاع والأحجام والإعجاب والتمني والرغبة ثم عنصر الندم بعد أن نظرت الأم المزعومة إلي فتاها الذي ربته ويعيش في كنفها وفي ظلال سلطانها فطمعت فيه وهو فوق هذه المنزلة الموهومة فقد صقل الإيمان طبعه وذكي نفسه وقوي بالله صلته فلم يخطر بباله أن يلم بدنية !!
وتحمل تبعات موقفه الأخلاقي ودفع ثمنه غاليا إذ الأقدار أرته صورا من النساء في طبقة عالية مترفة مستهترة وأن من المرأة ما يُحب إلي أن يلتحق بالإيمان وأن من المرأة ما يكره إلي أن يلتحق بالكفر فعند المرأة حلو لذيذ يؤكل منه بلا شبع وأن من المرأة مُر كريه يشبع منه بلا أكل
( يراجع كتاب السحاب الأحمر للاديب : مصطفي صادق الرافعي ص 35 )
🌹 المستشار : عادل رفاعي 🌹

Share Button

By ahram misr

رئيس مجلس ادارة جريدة اهــــرام مــصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *