Share Button

إذا صلحت اللغة ممّا لا شك فيه صلح الفكر بالضرورة واستقام. أما ما تراه أمامك يحدث من تدهور التفكير وانهياره فأمره إلى اللغة يرتد ومنها ينطلق؛ فليس هنالك فكر جيد يُعَبَّر عنه بلغة رديئة إلا كان وصمة عار على صاحبه، ولا كانت هنالك لغة رديئة يمكنها أن تصوغ فكراً جيداً إلا اتصفت بالركاكة والإرباك والقصور في تأدية وظيفتها الفنية فضلاً عن وظيفتها المعرفية.

هذه الملاحظة وحدها تجعلنا نقف وقفة قصيرة لتحليل العلاقة الناشئة بين أدب الكاتب واستعداد القارئ لتلقي الأدب؛ إذْ الأدب العربي هو الذي يفرض على جميع المستويات الظاهرة ذلك الإحساس الناشئ بجمال الكلمة ثم أثرها المباشر على الشعور والوجدان.

لك أن تلاحظ أكثر الذين كتبوا من أدبائنا ومفكرينا وكتابنا بفكرة واعية في الحديث أو في القديم، كما كتبوا بباطن مصقول بخبرة التجارب المعرفية في حياتهم الفكرية والثقافية، لتجد أساليبهم دالة على طريقة تفكيرهم بمقدار دلالتها سلفاً على حياتهم الواعية؛ المعنويّة والروحيّة؛ فأقربُ شيء إلى معرفة الحياة الروحية والثقافية للكاتب أو الأديب أو المفكر هو كلماته ومفرداته وطريقة استخدامه للغة فيما ينشئه من أفكار أو فيما يطرحه من موضوعات أو فيما يبدعه من لوحات قلميّة.

وليس أصدق عندي من قول الأستاذ “العقاد” فيما كتبه عن الفيلسوف البريطاني “فرنسيس بيكون” إزاء التفرقة بين جوانب العبقرية في الأفراد العبقريين أصحاب التجارب العليا؛ فأحدهما يجمع عبقريته في عمل واحد من الأعمال الفكرية أو الأدبية، إذ يفرَغ من تجربته كلها في هذا العمل.

والثاني يوزّعها على أعماله بقدر المستطاع فلا تلبث أن تقوم فيه التجربة منوّعة على جملة الأعمال التي يتناولها، ولا تزال فيه بقية منها لكل عمل ولكل عطاء، حيث قال :” من العبقريين من تعرف مداه بكتاب واحد أو قصيدة واحدة؛ لأنه يرتقي إلى أوجُّه في بعض أعماله فيأتي بخير ما عنده أو بكل ما عنده، وتعرفه حق عرفانه فلا تحتاج إلى تجربة له بعدها، ولا تصيب في التجربة الجديدة إلا تكراراً لا جديد فيه. ومنهم من يعطيك جزءً من عبقريته في كل جزء من كتاباته، فبعضها لا يدل على مداها كلها، وتكرار القراءة فيها ينتهي بك كل يوم إلى جديد، فلا غنى لك عن التجربة لسبر غورها والإحاطة بمداها، والحكم عليها في جميع أحوالها (ص: 50).

ومن أجل ذلك؛ كان أسلوب الكاتب مأخوذاً من السلب، لأنه يسلب من عبقريته جزءً منها، بمعنى أنه يسلب من ذات نفسه كل ما يعز على غيره أن يسلبه ويجود به على الأوراق. إنه ليَضَع نفسه أمام قارئه مكشوفاً باذلاً فيما يضع مهجته غير منتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً. فإذا كان الأسلوب يدل على طريقة التفكير؛ فمن باب أولى فهو يدل كذلك على عمق هذا “الفكر” وعلى أبعاده الحضارية ثم على اختلاف هذه الأبعاد والمنطلقات من مفكر إلى مفكر، ومن كاتب إلى كاتب، فضلاً عن دلالاته المباشرة على عبقريته وتفرده بها بين العباقرة والخَلّاقين.

ويُخيَّلُ إليَّ، من بعدُ، أن العاطفة التي تنشئها الكلمة الصادقة لهى أقوى العواطف وأشرفها في عالم المشاعر المُوحية، وفي دنيا العقول الكاشفة، وفي ثمار الأخلاد والأذهان المفكرة؛ لأنها العاطفة التي لا دخل لها بالمعارف المزيفة والعلاقات الشخصية الواهية، ولا شأن لها بالمجاملات والمصالح و”المحسوبيات” الزائفة التي تجري عليها ثقافة المجتمع المأفون في عاداته القائمة بين أفراده من اعتبارات الخفض والرفع على حساب قيم الحق والصدق والعدالة والإنصاف أو على حساب موازين الإخلاص للأعمال بُله الأفكار والأقوال، ونزاهة الحكم على هذا أو ذاك من أبنائه الذين يولونه الرعاية مخلصين، أو يولونه النكاية عابثين لا جادين!

والمفترض أن تكون “العاطفة” التي تنشئها الكلمة الصادقة الطيبة هى أقوى العواطف جميعاً وأشرفها بغير منازع؛ لأنها هى أدق العواطف التي تخاطب العقل وتثري الذوق والضمير هادفة إلى تشكيل وجدان الأمة، أو ينبغي أن تكون كذلك.

وربما تولَّدت من هذا السحر العلوي يتوهَّج به صدق الكلمة على الدوام؛ فللكلمة الصادقة فيما نعلم سحرٌ علوي مُفَاض فيض الكرماء، هو سحر اللغة في شاعريتها الحساسة، ولها (أي الكلمة) من أجل ذلك، وشائج من القُربة الجامعة والرحم الموصول ما من شأنه أن يهيئ لعارفيها موارد الألفة والتراحم وأجواء المحبة والتقارب والتَّوَاد؛ هذا عندي هو المفروض.

أمّا الواقع الذي يقول غير ما تفرضه الكلمة الواعية من تنازع وتخاصم وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فهو واقع لا تعطيه الكلمة الطيبة الصادقة، وإنما تعطيه الكلمات الخبيثة الكاذبة.

تنحتُ أقلام المبدعين في عالم الكلمات جديداً، فيستقبله القارئ على مقدار ما يفهم، أو على مقدار الطبيعة التي وافقت بواطنه وخفاياه واستمكنت من شعوره الرابض في أعماقه بكل لفظة يكتبها أديب، فتقوم – من ثمَّ – العلاقة عاطفة ناهضة بتقدير المعنى وإجلال المبنى بين كاتب يبدع وقارئ يستقبل إبداع الكاتبين.

فإذا نحن وجدنا كاتباً لا تقوم بينه وبين قارئه عاطفة قوية ومؤثرة؛ فليعلم من ذات نفسه أولاً أنه لم يقدِّر شعور القراء ولم يحترم عقولهم، ولم يتهيأ نفسياً لكي ينشئ مثل هذه العاطفة في كلماته، ولم يتعاط فضلاً من الله مُفاضاً مواهب القبول، ولم تكن أعماله على الجملة إلا من قبيل الغرور الأجوف يتعالى به على خلق الله.

والسَّاحاتُ الثقافية والأدبية والفكرية تشهد بوجود أناسُ ماتوا فيها قبل أن يولدوا، ربما كانوا غير مؤهلين ولا هم بالمهيئين لأن يكونوا من روادها أو حتى من أقزامها بل ظهروا في غفلة من الزمن المنكود كيما يسودوا ويترأسوا سيادة الرُّوَيبضة ورياسته على الأقزام المعاوير، وهم لا يعلمون أن لهذا التأهيل مواهبَ إلهية ليس فضل المرء فيها غير تزكية الاكتساب وفق استعداد موهوب.

فالعملُ الطيب والإنتاج المخلص الصادق هاهنا هو الذي يفرض نفسه، وهو الذي ينبغي أن يفرض نفسه. هذه سنة الله في خلقه، وتلك وحدة قصد صُلَّاح المخلوقين من عباده :”والبلدُ الطيِّبُ يخُرُج نَبَاتُهُ بإذنِ رَبِّه, وَالذي خَبُثَ لا يخرج إلا نكِداً” (الأعراف : آية 58) أي نعم! فسَّر العلماء “البلد الطيب” بمعنى “القلب الطيب”. والقلب الطيب أساس كل شيء ومصدر لكل شيء، ومعولُ عليه في كل شيء، ولا يعولُ على شيء خارجه. البلد الطيب هو القلب الطيب تخرج منه على الدوام الكلمة الطيبة؛ لتدفع صاحبها إلى العمل الصالح. والقلب الخبيث تصدر منه باستمرار الكلمة الخبيثة لتشوه الصالح وتسفه بالباطل أعمال الآخرين؛ وهى حين تصدر من قلب صاحبها لا تصدر إلا نكداً، ولا يجوز في حقها إلا وصف النكد كما وصف القرآن، وهو الذي (أي وصف النكد) لا يدل من الوهلة الأولى إلا على الخبث وسوء الطوية وظلمة الفؤاد.

الكلام الذي لا يعطي قوة في الصدق لا يعوّل عليه، إنما هو مجرد كلام لا يفيد صاحبه في شيء، ولا يصلح على الإطلاق أن يكون كلاماً، ولستُ أراه يرتقي إلى درجة الإفادة لا لشيء إلا لأنه خارج من اللسان دون القلب. ولقد صدق ابن عطاء الله السَّكندري حين قال في “الحِكَم” : “كل كلام يبرز وعليه من كسوة القلب الذي منه بَرَز”.

هذه كلمات من نور، من الجدير أن تكتب بماء الذهب لا بمداد حبر أسود داكن لا يلبث أن يجف بمجرد رقمه على الأوراق التي يكتب عليها. لاحظ العلاقة التامة بين الكلام والقلب، فكل كلام يصدر، هو لا يصدر إلا عن القلب سواء كان الكلام صواباً أو خطأً أو خيراً أو شراً، أو كان صدقاً أو كذباً، فهو في كل الحالات دليل قلب صاحبه، إن كان نظيفاً فنظافة الكلمة والسلوك، وأن كان ملوثاً فما أكثر لوثات الكلمات والأفعال.

“كل كلام يبرز عليه من كسوة القلب الذي منه بَرَز”

كلمات نورانية غمرها نور التزكية ينبغي أن تكتب فيما نرى بمداد القلوب، هى كلمات ليست تخرج عن لسان يردد الكلمة ويكتفي بذلك، وإنما من نور القلب يبرز الكلام الذي يخرج وعليه من كسوة القلب ما عليه من بروز. ولمّا كان اللسان تُرجمان القلب إذا صفا من الأكدار وتزكى من الأغيار وأشرقت فيه الأنوار؛ كانت ترجمانية لسانه على قدر صفائه وتزكيته وشروق الأنوار فيه، فيتكلم صاحبه – فيما يقول ابن عباد الرندي في شرحه على الحكم العطائية – بالكلام النُورانيِّ الذي يلج آذان السامعين، فتفتح بسببه إذْ ذَاَكَ أقفال قلوبهم ويستجيبون به لنداء الحق حبيبهم (يُراجع : شرح الرندي على الحكم العطائية – جـ 2؛ ص 40 – 41).

“كل كلام يبرز وعليه من كسوة القلب الذي منه بَرَز”

هذه الحكمة العظيمة لا يمكن أن تجيء لمجرد تبرير لمواطن الحكمة فيها وكفى، لكنها جاءت لتكون هى الأساس الذي يجعل الفرد قادراً على أن يتصور كيف تنطلق الألسنة بالصدق إذا هى فقهت على الحقيقة حكمة القلوب، فقهت! لا بل سلكت تلك الحكمة فمزجت بين النظريّة والممارسة، فأنتج هذا المزيج حدساً دالاً من فوره على شخصية صاحبه من الوهلة الأولى، ولم يشي بدلالة سواه.

قُلْ لي بربّكَ : إذا لم تكن العظمة الإنسانية ممثلة في مثل هذه الكلمات، ومجسدة في مدارك أصحابها، ففي ماذا عَسَاكَ تراها تكون؟

“كل كلام يبرز وعليه من كسوة القلب الذي منه بَرَز”

ولم تكن بالفعل حكمة كتلك الحكمة التي تعطي الأساس في توجُّهات القلوب لترسم الصورة الأكيدة لأناس نظروا إلى الحياة الروحية نظرة التحقيق والمعايشة، فانشغلوا بقلوبهم : إصلاحها وتزكيتها وتراحمها، ولم ينظروا إلى الخارج مما عَسَاه يجري في الطريق – مرضاً أو عرضاً – مجرى الخذلان والتردي والنكوص.

وحين يحيط الهوى بالنفس البشرية تنقلب من فورها إلى سلوك يخضع في جميع المعاملات وجميع الاعتبارات إلى فوضى لكنها في الغالب تكون فوضى منظمة وفقاً لمقتضيات العقل في تصريفها وطبقاً لِلَوائح العرف وقواعد التقليد، وهل كانت للتقليد قواعد؟

نعم! وله أنظمة ومظاهر ومؤسسات وتوجهات وممارسات.

من القلب الطيِّب تصدر الكلمات الفاعلة، وعليها من كسوة القلب الذي منه بَرَزَتْ. هذه حقيقة تثبت كلمة الحق من لسان صدق : طهَّر رسول الله – صلوات ربي وسلامه عليه – الكعبة من الأصنام التي كانت حولها بالكلمة. وبالكلمة وحدها حطم رسول الله في فتح مكة كل الأصنام التي كانت محيطة بالكعبة، وكان عددها إذْ ذاك ثلاثمائة وستين صنماً، وكانت كلمته المباركة :” قل جاء الحق وزهق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقاً “؛ وكلما رددها سقطت الأصنام تتهاوي من تلقاء نفسها حتى تم تطهير الكعبة منها، بماذا؟ بكلمة الحق من لسان صدق.

تلك قيم غابت عنّا ولم نفعلها في حياتنا الثقافية والروحيّة وحسبناها في زوايا التاريخ.

في مثل هذا أو نحوه تكون فاعلية الكلمة، وفي خضم تلك القيم النافعة تجيء آثارها البارزة في القلب الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه. فالعمل بالكلمة الصادقة هنا هو الذي يفرض نفسه كما قلنا فيما تَقَدَّم وهو الذي ينبغي أن يفرض نفسه، وهو هو الذي يقيم تلك العاطفة قوية ناهضة بين المرسل والمستقبل، ولا شيء فوق هذا، ولا شيء أبعد من هذا، إلا أن تكون الأمانة الأمينة الواعية بين إرسال الكاتب إبداعه، واستقبال القارئ مبدعات الكاتب الذي أثرى فيه المعنى واضحاً وزاده متعة فوق ما يُمتعه بما يكتب في فجاج الفكر وسراديب الروح ودخائل النفس وصفاء البواطن وعمق الوجدان.

ولم تكن الكلمة الصادقة إلا ينبوعاً من اللغة الخالدة، ولم تكن سوى أثراً من آثارها الباقية، وبخاصة حين تتحول الكلمات فيها إلى أفعال.
(وللحديث بقيّة)

بقلم : د. مجدي إبراهيم
أستاذ الفلسفة الإسلامية

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *