Share Button

بِدعة المهديّ المُنتظر في فلسفة ابن عاشور (4)

بقلم : د. عصمت نَصَّار 

تُرى عزيزي القارئ المُصاحب لقلمي في التحفير عن بنيّة بِدعة (المهديّ المُنتظر) في الثقافة العربيّة الإسلاميّة، أن الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” ومن بعده “آرثرشوبنهاور”، و”فردريك نيتشيه” كانوا مُحقين إلى حدٍ كبير في زعمهم أن الإنسان حيوان ميتافيزيقي بِطَبعِه، أي أنه طوّاق وعاشق للغيبيّات والقوى الخفيّة، بل والخرافة أيضاً؛ ولاسيّما عند تعرضّه للأزمات، حيث يَعجّز العقل عن تبرير واقعه، فيجنح إلى القَدر ليُلقي بعذابته على تلك القوى الغيبيّة التي يعتقِد أنها عِلة ما يُصادفه من إحباطات وفشل وجوّر وإستبداد. أَم تُراهم مُردّدين لحديث “الهرامسة” وحُكماء “الغنوصيّة” في إعتقادهم أن النفس البشريّة العاقلة تَحِن في غُربتها إلى عالم التصورات المُجرّدة والقيم المُفارقة للمادة، لتستلهم منها عزاءً من الواقع المرير والبؤس الذي تَعيشه في عالم المحسوسات الشاغل باللذائذ الماديّة والمطامع الجسديّة، فتتخيّل مَلِكاً قوياً مُخَلِصاً ومُعيناً لهذه الأنفس من القهر والذُل. 

غير أن الواضح عندي في نِتاج الحفريّات والأقرب إلى الحقيقة أن بِدعة (المهديّ المُنتظر) – التي كَشفت الآثار عن جذورها المَجُوسيّة، قد تَسللّت على يد الفِكر الفارسي إلى الثقافة الإسلاميّة في العصر الأمُويّ على وجه الخصوص وعقب الفتنة الكُبرى ومقتل “الحُسيّن” من جهة، وحُلم دهاقنة الفُرس بإعادة مَجدِهم التليد الذي تبدّد على يد المُسلمين من جهة أخرى، هو الدافع الرئيس الذي دفع العقل الجمعي الفارسي في دَسّ هذه البِدع في الثقافة العربية الإسلاميّة، وقد هيّأ تَجبُر الأمُويين مع الرعيّة بِعامة وأهل البيّت بِخاصّة الفرصة كاملة أمام صُناع الأكاذيب لنَشر هذه البِدعة في العقل الجمعي الإسلامي.

ويَستعين المُنتصرون لهذا الرأي بالكثير من الأدلة التاريخيّة والعقديّة، منها ما ذَكره : “القاضي عبد الجباربن أحمد الهمذانيّ ٩٦٩م – ١٠٢٥م” في كتابه (تثبيت دلائل النبؤة نحو ٩٩٥م) أن للمَجُوّس مُخَلِص سوف يأتي في نهايّة الزمان ويملأ الدنيّا عدلاً ويَدحِض قوى الشر ويَنصُر المظلومين والفقراء والمُعدمين، والمعروف عندهم باسم “أبشاوثن بن بشتاسب بن بهراسف”، وهو مازال حيّاً مختبئاً في إحدى المغارات بين خراسان والصين مع صفوة من الأبرار والأخيّار المَعصُومين، وأن دعوتهم مُجابة، ولهم كرامات ومُعجزات، وأنهم أقرب في هيئتهم إلى الملائكة، لا يحتاجون إلى غذاء الأبدان، ويظلون على هذا النحوّ حتى ميعاد عودتهم أو رَجعَتِهم، وظهورهم ثانيّة للقيام برسالتهم ضد قوى البغيّ، ويعيدُون مجد الفرس الغابر.

وقد نجح أحبار الفرس في إعادة صيّاغة هذه الحكايّة الموروثة مُستعنين بالتراث (الغُنوصي واليهودي والمسيحي) في الصياغة السياقيّة، ووَلع العوام بالقَصص الأسطوري ودَسّه في قصص الأبطال، وأرباب المناقب الثائرين على قوى البَطشّ من المُجرمين والجبابرة. وتسلّلت هذه الأسطور البِدعيّة المُلفقة إلى كتابات المُؤرخين المُسلمين وجُماع الحديث، ولاسيّما “ابن كثير” في كتابه (البداية والنهايّة)، وابن كثير هو تلميذ ابن تيمية، وهو يُشبه ما رُويّ في أسطورة المَجُوّس بتعديل طفيف (فيحكي الخبر أن “المهديّ المُنتظر” الذي بَشر بقدومه رسول الله في نهايّة الزمان وقبل نزول “المسيح”، أنه أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهدييّن – وإنّه مختلف عما رُويّ في كُتب الشيعة من خبر الإمام المَعصُوم، أي أنه ليس “محمد بن الحسن العسكري” كما تَدعي فرقة الإماميّة-، ومقصده هو ملأ الأرض عدلاً بعدما مُلئِت جوّراً وظُلماً).

وأستمحيك رفيقي الناقد أن نُرجئ البَتّ في ذلك التشابه بين حكايّة المَجُوّس عن (المهديّ) المُبَشر بمجيئه عقب موت “زرادشت” وعشرات الأحاديث – المَرويّة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)- التي تتمحور حول قضيّة المُخَلِص المُنتظر، قبل قيّام الساعة.                                                                                           

وعليّنا الآن أن نستأنف التحفير لتتبُع التطورات التي طرأت على هذه البِدعة؛ فالواضح من كتابات المُؤرخين ورُواة الأقاصيص أنه ليس هناك آثار واضحة يُمكن التعويل عليها للوقوف على نسقيّة بنيّة الفكرة المركزيّة التي انطلقت منها، فالآراء مُتباينة وهَشّة ونسقها يَفتقِر إلى الترابط المنطقي الذي يُكسبها القوة ويرفعها إلى درجة الدليل والبرهان سواء بالقبول أو الرفض، ولم يبقَ أمامنا سوى تفكيك تصورات الفِرق والجماعات التي تَبنّت هذه البِدعة، للتأكد من الجِين الرئيسي الذي حاكى التصور عقدياًّ كان أو سياسيّاً، أو خرافيّاً من إختلاق الكُتاب والمُؤلفين.

فقد ذهبت فرقة (الكيسانيّة) من الشيعة التي ظهرت عَقِب مقتل “عليّ بن أبي طالب”، وهي منسوبة إلى رجل يُدعى “كيسان – وهو مُختلَف بين المؤريخين في أصله -” مَوّلَى “الإمام عليّ ” وقد ادْعى أنه يأتيه الخبر من السماء إلهاماً، وأن له درايّة بالعلوم الباطنيّة وبَشر أن (المهديّ المُنتظر) هو “محمد بن الحنفيّة ابن عليّ بن أبي طالب”، وبنيه من بعده، غيّر أن بعض رجال هذه الفِرقة قد اختلفوا فيما بينهم على حقه في الولايّة والإمامة.

أما فِرقة (الزيديّة) وهي أقرب فِرق الشيعة إلى أهل السُنة في المُعتقد وإلى المُعتزلة في جُل الآراء، وتُنسب إلى “زيّد بن عليّ بن الحسيّن”، وترى أن الإمامة ليست بالنص والتعييّن، وأن الإمام الذي يَخلُف “زيّد” هو “يحيّ بن زيّد” وذلك بخلاف فرقة الإثنى عِشريّة، كما كَذَبَتّ هذه الفِرقة كل الأساطير والحكايّات التي لفقها كُتاب الإماميّة عن (المهديّ المنتظر).

وإذا انتقلنا إلى فِرقة الإثنى عِشريّة فسوف نَجِدها هي أصل البِدعة، والأحاديث التي تَزُعم بأن إمامة (عليّ وبنيه) – إلى الحُجة “محمد بن الحسن العسكري”- منصوص عليها قَدراً في القرآن بتأويل مُستتر وأيّدها الحديث الشريف، وأنهم دون غيّرهم من أهل البيّت الذين يُرجع إليهم في أصل الشريعة ومقاصدها، وهي أيضاً وراء بِدعة الغيّبة والخروج من الكهف المَزّعوم وأن الإمام الغائب مازال حيّاً منذ ولادته (٨٦٩م- ٢٥٥هـ) حتى الأن، وهو الذي تُعقّد له الولايّة وقيّادة العالم الإسلامي حتى نهايّة الزمان، وهو أيضاً خليفة الله على الأرض المُلهَمّ بالعلم اللادونيّ والكامل عقلاً والأقرب طبيعة وروحاً من الملائكة والمؤيّد بالمِنة الإلهيّة، ولهذه القصة آلاف الأحاديث والحكايّات التي تُرسخ في أذهان العوام عقيدتهم في الإمام المهديّ.

وإذا إنتقلنا إلى فرقة (الإسماعيليّة) من الشيعة فسوف نجد في معتقداتها الشيء الكثير من الشطط والمُروق، وقد زعموا أن (المهديّ) من أبناء “إسماعيل بن جعفر الصادق”، وأسسوا جماعة في اليمن ثم في المغرب الأقصى تحت مُسمى “العبيديّة”، وإختلطت عقائدهم هناك بقبائل البربر ولاسيّما تأليه البشر، وإعتبار شيّخ القبيلة مُمثلاً للقوى الغيبيّة التي لا فِكاك من سطوّتها وقَدرها، ثم أسسوا الدولة الفاطميّة في مصر (٩٠٩م).

ولا يتّسع المقام لذِكر الفِرق الإسماعيليّة التي إستحالت إلى جماعات وعِصابات باطنيّة جمعت في تعاليمها بين مُؤثراتٍ فلسفيّة وتراثيّة عقديّة شَتّة بعيدة كل البُعد عن مقصدِنا من التحفير عن بِدعة (المهديّ المُنتظر)، وذلك رغم زَعم هذه الفِرق أو الجماعات أن أئمتها وقادتها (أئمة مَهدييّن) لهم مراتب تؤهلهم إلى نَسّخ الشريعة ووضع بنيّة خاصة لدين يتوائم مع مِلتهم وقناعتهم.

ويَجدُر بنا التنبيه على أن هدفنا من تلك القراءة ليس تأجيج الخلاف بين جمهور أهل السُنة والشيعة الإماميّة أو بين الإتجاهات العقليّة في نقد التُراث الثقافي الإسلامي والجماعات السلفيّة المُعاصرة؛ بل إنّ غايّتنا تبدو في توضيح ثلاث مسائل:

أولها : هو تبيّان هشاشة بنيّة الفكرة من الجانبيّن العقلي والنقلي. وثانيها: تصويب مُصطلح الخلافة الإسلاميّة للإرادة الربانيّة الذي زاع بين كل الأدعياء سواء كان منهم مَنْ يرتكِن إلى بِدعة (المهديّ المُنتظر) بما تَضمنُه من قيّم زائفة ومُصطلحات مُضللة مثل الحاكميّة الإلهيّة والداعية المُلّهَم أو المُجاهد المُؤيّد من قِبل السماء لتوحيد المِلة وإنصاف المُعوّزين ورَدّ الحقوق لمن سُلبِت منهم  وتوحيد الدولة الإسلاميّة، بآليّة السيّطرة التي نَهى الله رُسِله عن إستخدامها، فلا كراه أو عنف أو إحتيال على العقول للإنصياع لِشرعِة الباري، أو إدعاء النبؤة ونسخ كل الديانات عن طريق إتصال فلسفي بالعقل الفعّال، وآخر هذه المسائل هو تبيّان أن المحاولات الرافضة والناقضة لهذه البِدعة لم تُفلح في بلوغ مقصدها، فما بَرِح العوام – حتى الآن – ينتظرون (المهديّ المُنتظر ) ليُحقق لهم أمانيهم وأمالهِم، وما زال المُحتالون يَكذبون ويتحدثون عن علامات الساعة وآخر الزمان، ويُؤلون أسطورة (المسيخ الدجال)، ومن ثمَّ يجب على من يَنشُد التغيير، الصبر على ذلك القَدّر المُظلم، لأن المُخلص لم يعود أو لم يأتي إلا بعد إستفحال الظُلم وتَجبُر المُفسدين، وما أكثر الإدعيّاء وأصحاب الرايات الذين ينتحلون شخصيّة (المهديّ) الكامن في أوهام العوّام.

لذا؛ سوف نتوقف عن التحفير بين الرُكام الثقافي المورُوث ونَصعد إلى السطح بعض الشيء؛ لتوضيح المؤثرات التي دَفعت المُجددين في أُخريّات القرن التاسع عشر لإدراج بِدعة (المهديّ المُنتظر) ضمن الموضوعات التي يجب عليهم غربلتها وتخليص العقل الجمعي من آثارها السلبيّة، سواء على الدين أو الواقع المَعيش.

فقد ظهرت في أوروبا خلال القرن الثامن عشر الكثير من الحركات التنويريّة باسم العقل والحريّة والعدالة الإنسانيّة والعلم والتَقدّم والمدنيّة، وواكبّ هذا التَحرُرّ من قيّد الموّروث الديني في الغرب التطلع إلى هدم الثوابت العَقديّة في الشرق، ووَجد المُخططون من غُلاة المُستشرقين الساسة : أنَّ ضرب الإسلام من الداخل عن طريق العبث في الجِين الأسطوري والخِطاب القصصي، وإحياء الصراعات والخلافات المَذهبيّة، وإعادة مَنهجّة الدعوات الإلحاديّة هو الطريق المُمَهِد للإستيلاء على ثرواته وإغراق شعوبه في محيطات الجهل والتَخلُف.

ولعلَّ البداية كانت في حِيّل صُناع البِدع وإختلاق الأكاذيب من المُلحدين الأوروبين، الذين شَكلّوا عشرات العصابات لهدم المِلل والديّانات في الشرق على وجه الخصوص، فوجدوا في دعوة اليهودي “شبتايّ تسفي (١٦٢٦م – ١٦٧٦م) ضالتهم حيث قوله باقتراب الميعاد وآخر الزمان وظهور (المُخَلِص) والمُصلح الديني الذي سوف يُعيد إلى اليهوديّة مَجدِها وسطوّتها، نقطة الإنطلاق والقاعدة المركزيّة لإحيّاء بّدعة (المهديّ المُنتظر) الشيعيّة في الثقافة الإسلاميّة، وذلك على آثر عودة “مردوخ” في تراث البابلييّن، و”المُخلِص النُوراني” عند المَجوّس الفارسييّن، ومن ثم أدرك مُلفقي الأكاذيب أن إيران والعراق هما أكثر الأماكن مُلائمِة لنبّش الموروث المِلي وإحياء هذه البِدعة بِنَهج اليهودي (أبو عيسى الأصفهاني، حوالي القرن الثامن الميلادي في إيران) – وهي نفس الحِقبّة التي راجت فيها الفكرة على يد الشيعة الإماميّة – الذي بَشر بمجيء مُخَلِص آخر الزمان، وقام على آثر هذه الدعوة بنسخ العديد من الأحكام الشرعيّة والشعائر الدينيّة اليهوديّة، وتشجيع العصابات الثوريّة ضد نظام الدولة السياسي والاجتماعي آنذاك، وأُشيع أنه قابع في إحدى الكهوف حتى يأتي زمن خروجه، وعودته من غيبته.

وقد إرتائ المُؤلفون الغربيّون الكَذَبَة أن أوجه التشابه بين مهديّ الشيعة الإماميّة، ودعوة “أبو عيسى الأصفهاني” قد نجحت في إزدهار هذه البِدعة وشغلِها حيّز كبير في الثقافة الإسلاميّة.

وتُشير الكثير من الكتابات المَعنيّة بتاريخ المذاهب والأديّان أن حركة (المشيح المُنتظر) عند اليهود سُرعان ما حَملت العديد من المأثورات الإسلاميّة ونقلتها إلى يهود المغرب الأقصى ومنطقة الهلال الخصيب وشمال العراق، ثم إلى حاضِرة الدولة العثمانيّة وأخيراً إلى مصر على يد “شبتايّ تسفيّ” مؤسس جماعة (يهود الدُنمة) التي طَورت من البِدعة وروّجِت لها في الأوساط الإسلاميّة ولاسيّما بعد دخول مُؤسسها الإسلام، وأصبح إسمه “مُحمد عزيز”، ثم رَوّج أتباعه من بعده لأكذوبة جديدة تَدَعيّ أن روح نبيّ الله “داوود” انتقلت إلى النبيّ “إلياهو” ثم حَلتّ في “عيسى بن مريم” ومنه إلى “محمد (صلى الله عليه وسلم)” ثم في جسد “شبتايّ تسفيّ” ومنه إلى تلاميذه من بعده.

وقد تَلَقّف المُستشرقون السياسيون، ولا سيّما الماسُونيّون كما ذَكرنا منهم على وجه الدقة هذه الوقائع، لنشر بِدعة (المهديّ المُنتظر) في شتى أنحاء العالم الإسلامي، وذلك بواسطة أساتذة (الدُنميين) الذين تَفَنَنُوا في تجديد سيّاقات البِدعة وحبكِها لتتناسب مع الثقافات المُراد نشرها فيها.

وللحديث بقيّة عن الفِرق الحديثة والمُعاصرة التي رَوّجت لهذه البِدعة، وكانت وراء إهتمام المُجددين المسلمين بتحليل بِنيّتها ونَقدها ومنهم (مدرسة محمد عبده، الطاهر بن عاشور).

بقلم : د. عصمت نَصَّار 

 

Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *