Share Button

بِدعة المهديّ المُنتظر في فلسفة ابن عاشور (٣)

بقلم : د. عصمت نصّار   

تقودنا منهجيّة البحث التحفيري في تاريخ الأفكار، وأصول بِنيات التصورات والآراء والعقائد إلى الوقوف على الشائعات والمشاهير والأفكار السائدة خلال عملية تتبع الموضوع في موروثات الفِرق الإسلاميّة، تلك التي كان لها الآثر الواضح في بنيّة تصور (المهديّ المُنتظر) وصفاته ورسالته وذلك بِغض النظر عن أصول تلك المؤثرات. وعليه؛ سوف نُشير في عُجالة إلى مَبلغ ذلك الآثر وما طرأ على بنيّة التصور الأول في الثقافات الغابرة، كاشفين عن أهم الفرق الكلاميّة والصوفيّة والعقديّة والسياسيّة والفلسفيّة التي ساهمت في إضفاء صفة القداسة والعِصمة التي نُعت بها (المهديّ المُنتظر) وذلك قبل عرض التبايّن الواضح بين الفرق قديمها وحديثها، حتى نهاية التصوّر المحتوم عندهم في الصراع بين حِزب الأخيّار وعصابة الأشرار.

فتُشير بعض الروايات الضعيفة أن صفة القداسة والعِصمة قد وُصف بها “الإمام عليّ” كرم الله وجه من قِبل شخص مُختلف على حقيقة وجوده هو “عبدالله بن سبأ” وقد سايره في هذا الوصف عصابة من المُجدفين الذين تأثروا بالأساطير الشرقيّة القديمة التي أَلحقّت صفة الألوهيّة والتقديس والعِصمة بأبطال حكاياتهم، وقيل إن شخصيّة “عليّ بن أبي طالب” قد حَلت ثانيّة في أجساد أبنائه، وذلك وفق (مُعتقد الرجعة اليهوديّ، أيّ عودة أقواماً في آخر الزمان إلى الدنيا بعد موتهم، ويحيون في هذه الدنيّا حياة ثانية إلى أن يموتوا مرة ثانيّة أو يُقتلوا، لحِكمة أرادها الله سبحانه، وقد ذهبت الشيعة الإماميّة إلى القول بالرَجعة، وأن الرَجعة وقعت في الأمم السالفة، وستقع أيضاً في هذه الأمة في آخر الزمان).

كما نُسب إلى فِرقة السبئيّة أن الإمام المُنتظر هو “عليّ بن أبي طالب” الذي سوف يعود في نهايّة الزمان ليملأ الأرض عدلاً بعد تَفشي الظُلم بين أهلها ويوحّد الأديان التي حُرِفّت.

ويُجمع جُل الباحثين قدماء كانوا أومُحدِثين على تكذيب روايّة “عبدالله بن سبأ” من أساسها وتُنكر الفِرق الشيعيّة ربط الإدعاء بألوهيّة “عليّ” وعودته وإعتباره (المهديّ المُنتظر).

وتجدُر الإشارة أن (الشيعة الإثنى عِشريّة) قد ميزوا بين ثلاثة مُصطلحات في هذا السيَاق يُمكن أن نستدل منها إلى عِلة صفة القداسة والعِصمة التي نُعت بها “عليَ وبعض أبنائه” :

الأول: رجوع بعض الأئمة المعصومين كأمير المؤمنين “عليّ”، و”الحُسيّن” وربما قيل برجوع النبي (صلي الله عليه وسلم)، والثاني: رجوع بعض الأموات إلى الدنيا، وإنْ لم يكونوا من الأئمة المعصُومين.

والثالث الرَجعّة بمعنى العوّد من الغيّبة وهو مقصور على (الإمام المهديّ المُنتظر) وذلك لأنه لم يمت بعد ولادته في معتقدهم.

ولا نكاد نجد في كتابات الشيعة مُبرراً عقديّاً عقلياً لرَجعّة الأئمة، ولا عودة الإمام الغائب المزعوم، ويُجمع مؤرخوا الشيعة (الإثنى عِشريّة) على أن “الإمام عليّ” هو أول من أثبت مشروعيّة (الإمام المُنتظر) وتحدث عنه على أنه حقيقة حتميّة سوف تأتي في آخر الزمان، فتعُم البركة بقدومه ويسوّد العدل بمجيئه عوضاً عن الظُلم الذي تفشى بين البشر، وذلك بقوله (إنّ إبني هذا سيّد كما سماه رسول الله سيّداً وسيُخرج الله من صُلبه رجلاً باسم نبيكم، يُشبهه في الخَلّق والخُلُقّ، يخرج على حين غفلة من الناس وإماتة للحق وإظهار الجور، والله لو لم يخُرج لضربت عنقه، يخرج بخروجه أهل السماوات وسُكانها، وهو رجل أجلى الجبين، أقنى الأنف، ضخم البطن، أزيل الفخذيَن، بفخذه اليُمنى شامة، أفلج الثنايا، ويملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوّراً).

وحُكيّ عنه “كرم الله وجه” عن إمامة “الحُسيّن وأبنائه”، دون غيّرهم (التاسع من ولدك يا حُسيّن هو القائم بالحق المُظهِر للدين والباسط للعدل، قال الحُسيّن فقلت له يا أمير المُؤمنين وإنْ ذلك لكائن؟ فقال إي والذي بعث محمد (صلى الله عليه وسلم) بالنبؤة وإصطفاه على جميع البريّة ولكن بعد غيّبة وحيرة، فلا يثبُت فيها على دينه إلا المُخلصون المباشرون لروح اليقين الذي أخذ الله عز وجل ميثاقهم بولايتنا وكتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه).

وقيل أيضاً مُعرفاً (مُصطلح العِترة) الذي ورد على لسان رسول الله عقب حديثه عن كتاب الله وعِترته، فقال “الإمام عليّ” المُراد بالعِترة (أنا والحَسن والحُسيّن، والأئمة التسعة من وَلّد الحُسيّن تاسعهم مهديهم، لا يفارقون كتاب الله ولا يُفارقهم حتى يَرِدُوا على رسول الله حوضه).  

ولا ريّب في أن ما أوردناه من أخبار يُثير العديد من التساؤلات تقودنا إلى الحيرة والشك منها :
(هل “الإمام عليّ” قد مُنِح مقام العِصمة والقداسة والقُدرة على إستشراف المستقبل ورفع مكانة أبنائه على غيّرهم، ثم تعيين شخصيّة المهديّ؟! وهل خبر هذه الأقوال بسندها ومتنها قد أقرها علماء الحديث وأجازهُ منطق الجرح والتعديل؟!).

ويُضيف “مهدي الفتلاوي” في كتابه (مع المهديّ المُنتظر) – وهو من أهم الباحثين المُعاصرين المُدافعين عن تلك العقيدة – إنّ عِلة تكذيب الأقوال المؤيّدة لعقيدة (المهديّ المُنتظر) يرجع إلى رفض الحُكام المُستبدين الجائرين لبنية الفكرة الثائرة على كل قِلاع الإستبداد وجحافل الغُزاة والظالمين الطامعين في ثروات الأمنين المُستضعفين والمُسالمين من عِباد الله، أولئك الذين سوف يهنئوا بمجيء “المهديّ” لإنصافهم وإقامة العدل فيهم ودَحِر المُجدفين والمُحرفين لشريعة الله، وتوحيد كلمة الحق، وإعلاء راية الإسلام على دونها، والتنكيل بـ”الدجال” وأتباعه من الأبالسة والشياطين، ويرى أن إختلاف علماء المُسلمين حول تصوّر (المهديّ المُنتظر) الشيعي لا يُضير العقيدة في شيء، ذلك لأنها واقع مُبرهن على صدقه وأتٍ بوعد الله بشهادة نبيّه والأئمة المعصومين، أمّا الحملات التشكيكيّة التي يشنِها المأجورون من الكُتاب العرب تُرد إلى تأمر العلمانييّن والصهاينة والرأسماليّة الغربيّة التي يُزعجها هذه النبؤة، التي تدفع المقهورين في الأرض إلى التمسُك بالأمل وتجعلهم أكثر صلابة في دَفِع الظُلم وإرهاب الغاصبين، أضف إلى ذلك أن جمهور اهل السُنة مُتفق مع الإماميّة الإثنى عِشريّة في أن عقيدة “المهديّ” صادقة وأن من يُنكرها جاهل، ويتفقون على أن “المهديّ” من قريش ومن أهل البيت، ومن أبناء (عليّ وفاطمة) بشكل أخص، وأنه آخر الخلفاء الإثني عَشر، وسوف يؤم (أي يقود) أتباعه بما في ذلك “عيسى بن مريّم”، وإنّ دولته هي حكومة عالميّة، وإنها قدُرٌ إلهيّ والإيمان بها واجب بإعتبارها من الغيبيّات شأن يوم القيّامة، وإن خبرها جاء في أربعمائة حديث في كُتب أهل السُنة، وأكثر من ستة آلاف رواية في كُتب الشيعة المُعتمدة.

أمّا مواطن الخلاف التي يَذكُرها “الفتلاوي” تتمثل في اختلاف الفِرق الإسلاميّة حول زمن ولادته وإسم أبيه وجدِه الأعلى، وكذلك غيّبته وعِصمته وبقاءه حيّاً من عدمه.

وتُشير كتابات أهل السُنة المُعاصريين إلى الكثير من آراء أئمة الفقهاء التراثيين الذين ألفوا ووضعوا مُصنفات تَدُل على موافقتهم للصحيح من أحاديث رسول الله عن مجيء (المهديّ المُنتظر)، ومنهم (أبو نعيم عبد الله الأصفهاني، جلال الدين السيّوطي، ابن حجر الهيتميّ، المُلا عليّ بن حسام الدين الهنديّ، القاضيّ محمد بن علي الشوّكاني، الحافظ بن كثير، محمد بن إسماعيل الصنعاني). ويُمكننا إيجاز آرائهم جميعاً في مسألة “المهديّ” بهذه الأقوال : (في المهديّ أحاديث جيّاد لأبي جعفر العقيلي)، (الأحاديث التي يُحتَجّ بها على خروج المهديّ أحاديث صحيحة، والأحاديث المأثورة التي رُويت في المهديّ منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حَسنّ لإبن تيّميّة، بعض الأحاديث وإنْ كان في إسنادها بعض الضعف والغرابة، فهي ممّا يقوي بعضها بعضاً ويشُد بعضها ببعض لإبن القيّم).

وعلى الجانب الآخر؛ نجد أشهر الكتابات المُعاصرة التي تُشير إلى وجود نَفر غير قليل من الرافضين لخبر “المهديّ” على النحو الذي أوردته الكتابات الشيعيّة الإثني عِشريّة وأقلام المُدافعين عنها، نَذكُر منها كتاب الدكتور “عبد العليم البستوي” (المهديّ المُنتظر في ضوء الأحاديث والأثار الصحيحة وأقوال العلماء وآراء الفِرق المُختلفة)، فجاء فيه أخبار كثيرة عن إعتراضات بعض الصحابة مثل “مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي، الذي ذهب إلى أن لا “مهديّ” إلا “عيسى بن مريّم”، وأيّده “الحسن البصريّ”.

ويُشير “ابن أبي الحديد” إلى أن شيوخ المُعتزلة توافق أهل السُنة في صحة ما رُويّ عن رسول الله عن أخبار”المهديّ” الذي سوف يأتي في آخر الزمان، غير أنهم رفضوا الأخبار التي أوردتها كُتب الشيعة عن ولادته وبيّنوا أن “المهديّ” المُنتظر لم يُولد بعد.

وقد سلك علماء الماتريديّة المُتكلمين عيّن المَسلك، أي أن إعترافهم بروايّة “المهديّ” موقوفة على صحة أحاديث النبيّ بهذا الشأن، علماً بأن هناك أحاديث صِحاح تُشير إلى أن “المهديّ” سوف يولد مُنتسباً إلى جدته “فاطمة بنت النبيّ”، وليس غيّرها من أبناء “الإمام عليّ” كما أن جميعهم لم يُصرح بأن “المهديّ” من أسباط “الإمام الحُسين” كما حَكيّت كُتب الشيعة، فجميع الأئمة التسعة يرجع نسبهم من ناحية الأم إلى “شهربانو الفارسيّة”، وهو خبر يتعارض مع حديث النبي، ومن ثَم يُمكننا الحُكم على كل ما انتصر إليه اهل السُنة والمُعتزلة والماتريديّة لا يخلو من اضطراب وتناقض مع قول الشيعة الإثنى عِشريّة، غير أن جمهور الأزاهرة المُعاصرين يتحرّجون في التصريح بذلك الخلاف الذي يَحجُب العِصمة والقداسة عن “الإمام الحُسيّن وبنيه” من جهة، ويُضعِف بِدعة (المهديّ المُنتظر) الذي سوف يعود بعد غيّبته مُختفياً في مكان مجهول من جهة ثانيّة، ويفتح الباب أمام التأويلات العقليّة المُعاصرة لمُجمل هذه الحكايّة من جهة ثالثة، ويُسفه أحلام المتصوّفة وعوام المُسلمين البائسين المُنتظرين للخلاص على يد “المهديّ” المزعوم سواء كان “عيسى بن مريم” أو “محمد بن حسن العسكريّ” صاحب السرداب، أو أي شخص آخر ترسله العناية الإلهيّة لإقامة العدل من جهة رابعة، وإتهام المُفكرين العقليين المُعاصرين المُنكرين لهذه البِدعة بالجنوح، أولئك الذين احتجوا ببُطلان حكايّة “المهديّ” بهذه الحجُج، وإنها لم ترد في القرآن، وأن متون الصحيح من الحديث مضطربة مع بعضها البعض، ومُعظمها من أحاديث الآحاد، وأن قبولها ليس فيه أدنى فائدة للدين بوجه عام، ولا يؤيّد بِنيّة العقيدة الإسلاميّة وسلامتها على وجه الخصوص، وما أكثر الموروثات الدينيّة المكذوبة التي تستند إليها غُلاة المُستشرقين والمُتعصبين من المُبشرين لهدم الإسلام في عيّون شبيبتنا الذين يجنحون إلى كل شاذ ونادر وكذوب من جهة خامسة.

ولا نُهمِل في هذا السيّاق (التحفيريّ) إستنكار كل من (ابن جرير الطبري، ويحيى بن صاعد، وابن حَزم، وابن خلدون) وغيرهم من الذين جحدوا أسطورة الإمام الثاني عشر “محمد بن حسن العسكري” وميلاده وقدسيّته وقيادته للصراع الأخير ضد الكذاب.

وحريّ بنا أن نتسائل بعد عرضنا لهذا النسق المُهلهل والبنيّة المُضطربة للكتابات التراثيّة حول بِدعة (المهديّ المُنتظر) في الثقافة الإسلاميّة وخلافات العلماء والمُؤرخين حولها : هل يوجد في كُتب الفقه مُصطلح إجماع توفيقي، أو إجماع إنتقائي رغبة في إرضاء الجمهور أو لَمّ شمل الأمة والمُصالحة بين الفِرق والمذاهب؟! وهل يجوز لأولياء الله – أيًّ كان نسبهم الشريف – قيادة أنبياء الرب المُرسلين في كُتب الأحاديث الشيعيّة؟! وهل يجوز تصديق الكُل إستناداً على الحُكم بِصحة وسلامة الجزء في أي سياق منطقي؟! لما يخفي علماء الأزهر مشروع “محمد عبده”، و”عبد المتعال الصعيدي” في ضرورة تفعيل لجان المجلس الأعلى للشئون الإسلاميّة المنُوطة بدراسة الحديث الشريف دراسة نقديّة وتنقيّته ممّا لا يطيقه صريح المعقول في ضوء العلوم الشرعيّة؟! ثم كيف يستقيم هذا الإضطراب الخرافي في ضوء دفاعنا عن التراث الإسلامي وعقلانيّة علومه؟! ولِمَ ننتظر تَحقُقّ حلم (المهديّ المُنتظر) وإعتبار ظهوره مِنّة إلهيّة لإقامة العدل؟! في حين أن الخطاب الإلهي يهدي البشر إلى تحقيق هذه الغاية أي إيجاد ذلك “المهديّ”، وذلك في قوله (إنّ الله لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم).

ومن ذا الذي يُفلح في تبديل سُنة الله في خلقه وتوحيد قلوبهم على دين واحد؟ وهل السيّف والقوة هو الحل؟! وعلى النقيض من ذلك كله يَرى الأدعياّء أن قدر الله في إرسال (المهديّ المُنتظر) لا يقع إلا بعد سيّادة الفساد وغَلبّة الظُلم وتَجبُر المجرمين، فلما لم يَظهر إذاً؟!

وللحديث بقيّة عن تبايّن الفرق الإسلاميّة المُتعاقبة حول حكاية (المهديّ المُنتظر).

  بقلم : د. عصمت نصّار

 

Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *