Share Button

بِدعة المهديّ المُنتظر في فلسفة ابن عاشور (٢)


بقلم : د. عصمت نصَّار 

 

إذا ما حاولنا تحليل بنيّة فكرة (المهديّ المُنتظر) إستناداً على ما أشرنا إليه من ثقافات وديانات، فسوف نجدها وليدة تَصوّر اجتمعت الكثير من الحفريّات المُفعمة بمؤثرات ميثيولوجيّة فارسيّة، وعوامل أخرى من الأحوال الإجتماعيّة والسياسيّة والأخلاقيّة والنفسيّة في تشكيل جوهرها، فالشعور بالظلم، والعوّز، والضعف، الإستبداد والصراع، العجز، الإحباط، الإغتراب، الخوف من المُستقبل المجهول قد شكل نسقاً جامعاً بين اليأس والقنوت، الرجاء والأمل في الخلاص على يد قوى إلهيّة ضد قوى الشر التي أفسدت القلوب قبل العقول، وإنتزعت الوّرع، الحياء، العِفة من سلوك البشر، العدالة و المساواة والإنصاف من دساتير السلاطين، والصدق، الحُبّ، الصَلاح من تدابير المُعلمين، القادة، الموجهين، التربوييّن. 

و”المهديّ المُنتظر”هو ذلك الفارس المُخَلِص القاهر الذي لا ينفصل النصر عن رِكابه ولا يختلف عن كماله ونقائه ووّرعه إثنان، ولا يقدر على مُخالفة أمره إلا من كُتب عليهم الذِلة، المسكنّة، الخُسران، وهو الهادي والمُهديّ والأتي بالبُشرى والغِبطة والسعادة  ليُطهر الأرض من دَنسّ “إبليس” وأحفاده، ويُهيئ حُلفائه من الأبرار للدخول إلى جنة الموعدين.

وقد بات هذا التصور يلوح في الأُفق مع ظهور أزمات أخلاقيّة كانت أو إجتماعيّة أو سياسيّة، وقد أصابت الفِكر الإسلامي بعد ظهور الفِرق الدينيّة وعودة العصبيّات القبليّة والترويج للبِدع وإصطناع الأكاذيب إلى درجة التجديف والدَسّ والتدليس في أمور الدين وأصول العقيدة الإسلاميّة والحديث الشريف، وذلك منذ القرن الثاني الهجري عقب الفتنة الكبرى، وظل الأمر على هذا النحو رغم تحذير المُجددين المُحدثين من خطر هذه البِدع التي لا تشوّه الموروث العقدّي فحسب؛ بل تنعكس كذلك على سلوك العوام والخواص أيضاً من المُنتميين للديانات السماويّة، وذلك بإيهامهم بأن الإله القاهر المُتكبر قد يأس من هدايّتهم بعد تَفشي الفُجر فيهم، فأرسل لهم مندوباً عنه؛ ليقود الصراع الذي ينتهي بهلاك الكَثرة ويعود بالقِلة التي تستحق الدخول في جِنان كُتبت للموعدين من الأبرار والمُصلحين.

ويُشير المُستشرق المجري “إجناتس جولدتسهيّر ١٨٥٠م – ١٩٢١م” إلى آثر التصور اليهودي للمُخَلِص على فكرة “المهديّ المُنتظر” عند المسلمين، ولاسيّما في العقيدة الشيعيّة الفارسيّة الإثنى عشريّة التي طوّرت الفكرة وأضافت ما يُبررظهور “المهدي المُنتظر” من الناحيتيّن العقديّة والسياسيّة.

وتَنزع العديد من الكتابات النقديّة لفلسفة الأديّان إلى أن فكرة “المهديّ المُنتظر” تُرد في المقام الأول من الناحيّة النسقيّة إلى شبكة مُعقدة من الحفريّات الميثيولوجيّة الموروثة، ولاسيّما المُعتقدات الفارسيّة الشعبيّة المُفعمة بالتصورات الهندوسيّة والغنوصيّة والترانيم الزرادشتيّة، وجميعها تتحدّث عن صراع الأضداد المُتمثل في عداء الشيّطان لأبناء “آدم” الذين تسببوا في طرده من الجنة، فاعتزم وأتباعه من الأبالسة إضلال بني البشر؛ للبرهنة على أنهم غير أهل لرعاية الله ونِعمه التي خصّهم بها الرّب، دون الملائكة والجِن وسائر المخلوقات. واستمرت هذه الثنائيّة عبر التاريخ (أهيرمان لأهورامزدا، قابيل لهابيل، النمرود لإبراهيم، فرعون لموسى، يهوذا لعيسى، أبو لهب لمحمدّ)، وكلهم يُمثل طرفيّ ذلك الصراع القدريّ المحتُوم بين الشر والخيّرالذي سوف ينتهي بِغلبّة حلفاء الشيّطان وسيّادة “المسيخ الدجال” على عرش العالم، ثم يبعث الرب “المهديّ” ليُقيم العدل ويُنصف المظلومين والمنكُوبين والمؤمنين المُستضعفين من تَجبُر الأبالسة وعبث الشياطين.

وقد اختلفت الروايّات حول شخصيّة “المهديّ” وذلك تبعاً للثقافة التي زاعت فيها الفكرة، ذلك فضلاً عن الأوضاع الإجتماعيّة والسياسيّة والإقتصاديّة المواكبة لهاتيك الوقائع، وتُجمع عشرات الدراسات على أن (الشيعة الإماميّة الفارسيّة) هي المصدر الأول لفكرة “المهديّ المُنتظر” في الثقافة الإسلاميّة، وبِغض النظر عن المؤثرات الميثيولوجيّة اليهوديّة والمسيحيّة التي شَكلِت بنيّة تصور”المهدي المُنتظر” عند الشيعة، فسوف نقف في عُجالة على أهم التحولات التي طوّرت فكرة مُخَلِص آخر الزمان الموروثة وجعلتها عقيدة تُخرج مُنكّرِها من زُمرة المؤمنين وتُعلي مُصدقيها إلى مرتبة الأبرار المعصُومين والأتقيّاء والمُستنيرين الثائرين المُجاهدين؛ وذلك على حد تعبير مرجع الدين الشيعي “أبو القاسم الخوئي ١٨٩٩م – ١٩٩٢م” الذي صّرح بأن : “الإيمان الكامل في الإسلام لا يتحقق إلا بالتصديق بوجود الله ونبؤة محمد ورِفعة مكانة الأئمة الإثنى عشر بداية من “علي بن أبي طالب” إلى الإمام الغائب “محمد بن الحسن العسكري” (عَجَلّ الله فرجه وجعلنا من أعوانه وأنصاره)” (!!)

ومن غُلاة الشيعة من استحل دم من يُنكر هذه العقيدة مثل “داود بن فرقد”، والمرجع الشيعي “يوسف البحراني ١٦٩٥م – ١٧٧٢م”، وغيرهم من الذين احتجوا وبرهنوا على صدق مُعتقدهم بمئات الروايّات والأحاديث النبويّة والتأويلات الشاذة للآيات القرآنيّة.

ويُعد “خليل رزق” أستاذ العلوم الإسلاميّة في الحَوّزة العلميّة بجامع مجتبئ ببيروت لبنان، من أهم الباحثين الشيعة المُعاصرين الذين تتبعوا نشأة هذه العقيدة وحيثياتها والموضوعات ذات الصِلة بسلامة المُعتقد والرد على مُنكريه وذلك في كتابه (الإمام المهدي واليوم الموعُود ٢٠٠٢م).

وإذا ما انتقلنا للجانب الفلسفي ودوره في بنيّة هذه البِدعة سوف نجد مساهمة (إخوان الصفا) بِقدر غير قليل في تأصيل وتحديث بنيّة عقيدة “المهديّ المُنتظر” الشيعيّة على نحوٍ يجعلها فكرة عقديّة عقليّة جامعة بين الزُهد والتصوّف والسياسة العادلة وحق المغلُوبين في الثورة على قِلاع الإستبداد تحت مِظلة الأمر بالمعروف والنهيّ عن المُنكر وقيادة “المهديّ المُنتظر”، ومن أقوالهم في ذلك : (ترى أيها الأخ البار، أيّدك الله وإيّانا بروّح منه، أنه قد تناهت دولة أهل الشر، وظهرت قوّتهم وكثرت أفعالهم في العالم في هذا الزمان وليس بعد التناهي في الزيّادة إلا الإنحطاط والنُقصان … فعند ذلك تظهر شجرة اليقين ويجتمع إليها أهل الدين من المؤمنين العارفين وعِباد الله الصالحين وتبتدئ دولة أهل الخير وتزول دولة أهل الشر … ودولة أهل الخير يبدأ أولها من قوم علماء حكماء وأخيّار فضلاء أبرار … يجتمعون في بلد واحد ويتفقون على رأي واحد ودين واحد ومذهب واحد … ويكونون الرجل الواحد في جميع أمورهم وكنفسٍ واحدة في جميع تدابيرهم).

وقد استطاع (إخوان الصفا) بذلك التصور ومجيء “المهديّ” من إبتداع مدينة فاضلة تَحكُم العالم بدستور جامع بين قوة العدالة وجميل الأخلاق والسلام الإجتماعي، ونسخ جميع الأديّان الوضعيّة والسماويّة في نَسقٍ عقلاني واحد؛ الأمر الذي جعل من فكرة “المهديّ المُنتظر” نسقاً سياسيّاً منطقياً يحتاج إليه الواقع المعيش في كل العصور، أي أن (إخوان الصفا) أخرجوا الفكرة من دائرة الموروث العقديّ إلى آفاق التصورات الفلسفيّة.

وإذا ما تطرقنا إلى شخصيّة “المهديّ” ورسالته ومقصده بالمجيء في آخر الزمان في الثقافة الإسلاميّة، فسوف نجد عشرات الإضطرابات التي تحُول بين الفكرة والإتساق النسقيّ سواء في التصوّر العام أو في النسيج الذي وضعته كل فِرقة على حدى، أضف إلى ذلك وجود عشرات الأسئلة التي لم يُفلح المُدافعون عن مشروعيّة أو ضرورة الإيمان بهذا التصور سواء من الناحيّة العقديّة أو العقليّة في الإجابة عنها، نَذكُر منها :

ما عِلة الزج بالتصوّر الميثيولوجي التَليدّ في الفكر الإسلامي الذي يُردّ مصدره إلى القرآن الذي لم يُفرق فيه من شيء، وبعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) باعتباره خاتم النبؤة وحامل فَصّل الخِطاب؟! وهل مجيء “المسيح” ونزول “يسوع بن مريم” أو ظهور أحد الأبرار المُنحدر من عِرق شريف سوف يُحسم المسألة القدريّة التي يُمثلها الصراع بين الخيّر والشر؟! وهل مثل هذه النهايّة قُبيّل يوم القيّامة تُشير إلى عجز الرب عن تحقيق مقصده (القضاء على الشيّطان وأعوانه) بواسطة أو بِيّد بشريّة سوف تُفلح ما عجز عن تحقيقه سائر الأنبيّاء؟!

فمثل هذه التساؤلات حول عِلة التصوّر البِدعي المزعوم هي التي دارت في أذهان المُتكلمين والفلاسفة المُسلمين.

ونتسأل من جديد ماذا عن اختلاف المورُوث العقديّ في اليهوديّة والمسيحيّة على “المُخَلِص” أو شخصيّة “المهديّ”؟! وهل يَقبل أحبار الديانتيّن الإصطفاف خلف “المهديّ” لمُحاربة الشيّطان وقبول فكرة “إخوان الصفا” عن وحِدة الأديّان والتنازل عن التَعصُب العِرقيّ والمِليّ والخضوع لإمامة المُسلمين؟!

وهل الأحاديث – ذات الصِلة – والمروُيّات الواردة في كُتب جُماع الحديث النبويّ مُتفق على صِحتها، وماذا عن إختلاف الفِرق الشيعيّة، والحركات الباطنيّة، وأهل السُنة والجماعة حول القضيّة برُمتها؟! وما السبب الخفيّ في تأكيد غُلاة الشيعة على أن “المهديّ” مُنحدِر من صُلِب “الشهيد الحسيّن” وزوجته “شهربانو الفارسيّة أم علي زين العابدين” دون غيره؟!
ومَن مِن علماء الأمة الإسلاميّة يمتلك الحُجة والبُرهان على تأييد واحد من عشرات الذين ادّعوا بأنهم ذلك المُنتظر أو واحد من نوّابه إلى أن يكتمل ظهوره؟!

وماذا عن تلك الحكايات الأسطوريّة الواردة عن ولادة “الإمام المهدي الغائب” وإسمه وميلاده وكلامه في المهد والأنوار والطيور السماويّة التي احتفت بيوم سبوعه، وحِكمته المُبكرة وولايّته المعصُومة، وإمامته وكُنيّته بالحُجة الإلهيّة واختفائه وعودته القدريّة، وتصريح رسول الله بقدسيّة خلافته ورجعِته، وأنه مُنصباً من عند الله، وأن وجوده واجب ربانيّ عقلاً ونقلاً وما يُصاحب هذا المُعتقد من تأويلات قرآنيّة شاذة من قِبل جل شيوخ الشيعة وفريق من مُفسّري أهل السنة؟!

وما السبيل للتأليف أو التوفيق بين الشوفينيّات التي تعتبرها الفِرق المِليّة المختلفة مركزيّة : شخصيّة “المهديّ” وسيادة أتباعه على دونهم في الحرب الفاصلة قُبيّل النهاية، التي يتألف منها التصوّر برمته (المشيح هو الذي سوف يعود وليس الناصري الكذاب)، (لا مهديّ إلا ابن مريّم وكل الأغيّار مُجدفين)، (المهديّ هو رافع رايّة الإسلام ويُستدل عليّه بإسمه ونَسبِه وأتباعه الذين سوف يَعلُوا لوائهم على كل الرايّات)، المُنتظر هو حكيم زمانه ولم يولد بعد ودعوته هي الناسخة لكل المِلل المُجدفة والديانات المُهرطقة وبُغيته لإقامة العدل وإنصاف المظلومين وتقتيل المُفسدين، أعداء الإستنارة والعقلانيّة والقيّم الروحيّة؟!

وأخيراً ما هي العِلة الحقيقيّة وراء تَغلغُل وذيّوع بِدعِة “المهديّ المُنتظر” إلى درجة إدراجها ضمن قضايا عِلم الكلام والتصوف والتأويل الباطني والتأثير فيه (نظريّة النور المُحمدي، الحلول والرَجعَة، والكرامات، وعلامات يوم القيّامة) وميّل الأشاعرة وبعض أئمة أهل السُنة للتسليم بصِحة فكرة “المهديّ” الواردة في السُنة النبويّة مع تكذيبهم لميثيولوجيّات غُلاة الشيعة والفِرق المُنبثقة عن مُعتقداتها في هذه المسألة؟!

وما السبب في إنتقال التصوّر من الطوّر الإعتقادي إلى الطوّر الفلسفي إلى الطوّر العلماني في القرن العشرين والحادي والعشرين؟! وهل أصابع الساسة هي المُحرك الأول لهذه البِدعة، أم للإستشراق العقديّ أو الفكر الماسوني الصهيو أمريكي، أم هو الفقر والجهل والإستبداد وغير ذلك من معاقل إخفاق الحضارات وإنحطاط الثقافات؟!                                                         أعتقد أن مثل هذه الأسئلة بحاجة إلى لَجّ أبواب المعرفة لفضح المستور وهذا ما سوف نجتهد في تَلمُس حقيقته التي تحاول الإجابة عن هذه التساؤلات في المقالات التاليّة.

فللحديث بقيّة عن بنيّة التصوّر في الفِرق الإسلاميّة المختلفة

بقلم : د. عصمت نصَّار

 

 

 

Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *