Share Button

بِدعة المهديّ المُنتظر في فلسفة ابن عاشور

بقلم : د. عصمت نَصَّار 

مُنذ قُرابة ربع قرن شَرعت في تطبيق (علم تاريخ الأفكار والمنهج الأركيولوجي (Archeology) التحفيري-) في ميّدان الدراسات الإسلاميّة بعامة، ومُقارنة الأديان بخاصة، ورُوحت أُصرّح بذلك في محاضراتي للطلاب، فتقدمت إحدى تلميذاتي وتُدعى “أسماء محمد محمد حسن”، وطلبت مني أن تكون رسالتها لنيّل درجة الماجستير في هذا الميّدان لتُصبح لها السبق في الدراسات الفلسفيّة العربيّة في تطبيق هذا النهج في علم الكلام، وبالفعل وقع الإختيار على  فكرة (المهديّ المُنتظر) وذلك لعدة أمور، أولها لأنها زائعة ومُنتشرة في الثقافة الإسلاميّة بوجه عام، ولها جذور في الديّانات الوضعيّة والسماويّة، ومازال التصور حيّاً يتطور وينمو في ظل المُتغيّرات السياسيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة والعقديّة أيضاً في فكرنا المُعاصر، ذلك فضلاً عن انتشار الكتابات الغربيّة السياسيّة المُعاصرة التي تتحدَّث عن نهايّة التاريخ ونهايّة الحضارات، أضف إلى ذلك لغوّ العوام والمُتعالمين والمُشعوذين عن اقتراب يوم القيّامة والمعركة الفاصلة بين (المهديّ وجحافل جيّوش الشيّاطين)، والطريف والغريب وجود عشرات الأقلام في العِقد الأخير من القرن العشرين (آنذاك) تتحدَّث عن عوّدة (بوذا)، أو (مِسيا اليهود أو المشيح) على ألسنة أحبار اليهوديّة أو (إليّا أو إلياس أو يسوع) على ألسنة القساوّسة والرُهبان، وتأكيد الفِرق الشيعيّة على إقتراب زمن ظهوره إستناداً على كُتبهم وحسابتهم الفلكيّة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تزايدت الكِتابات الدينيّة عن (البابيّة، والبهائيّة، والقديانيّة، والروحانيّة، والسبطائيّة، والمرمونيّة، والفِرق الباطنيّة بوجه عام) وغيّر ذلك من المِلل التي روّجت لفكرة (المهديّ المُنتظر) بوصفها إحدى العقائد اليقينيّة المُجمع عليها في جُل الأديّان وفي سائر الأوساط الثقافيّة الشرقيّة والغربيّة.

وإجتهدت الباحثة في إعداد رسالتها المُعنوَنة (تَصوّر فكرة المهديّ المُنتظر بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام) على نحوٍ مُرضي وذلك في عام (٢٠١٠م)، وأفضل ما جاء فيها هو ذلك التتبُع (الأركولوجي) لفكرة (المهديّ المُنتظر) التي ألتصقت بفكرتيّن رئيسيتيّن في الميثولوجيّات الشرقيّة القديمة هما (المُخَلِص، والإنسان الكامل) الذي يبدو تارة في صورة الحكيم الورعّ أو البطل الصنديد أو الأمام المُخَلِص الناصر للحق أو العَالِم الأريب، أو إبن الإله أو الإله المُتجسد، فنُسجت عشرات الحِكايّات حول (أوزوريس) في البرديّات المصريّة، و(فشنو) في المعابد الهندوسيّة، و(تجسدُات بوذا) في الترانيم اليوجيّة والماهايانا، وخليفة (مهافيرا) في حِكايّات (الجينييّن)، و(شاوشيّانر) في تسابيح (الزرادشتييّن)، (اللوغوس النوراني) الحاوي للمعرفة والحكمة في شذرات الفلاسفة والكُهان الإغريقييّن، و(روح أورفيوس) التي سوف تتجسد في آخر الزمان، وتَحِل في جسد فيلسوف يجمع بين غزارة المعرفة وسلامة السريرة وجمال الخِلقة والأخلاق مثل (هيراقليطس، وفيثاغورس، وسُقراط) وذلك في المُعتقد اليوناني القديم.

ولم تخل الكتابات الفلسفيّة الخالصة عن عودة ذلك البطل المُنحدر من نسل إلهي لقيادة المجتمع وإصلاح ما فسد، بدايةً من الحكايات المرويّة عن (إنباذوقليس) ومروراً بما نُسج حول (شخصيّة سقراط) أو الحكيم الفيلسوف المُلهَم الذي يتلقى الخبر من السماء، الذي استشرفه “أفلاطون” لقيادة المدينة الفاضلة في عالم المُثل، وإنتهاءٍ بالإنسان الأعلى عند “أرسطو” والحكيم الرواقي الجامع بين الحكمة العقليّة والمعارف النورانيّة الباطنيّة والزُهد والتقشف، وذلك ليحمل رسالة الأُخوّة العالميّة وإصلاح ما فَسد من عادات البشر وأخلاقهم. ويُلاحظ أن تصور (المهديّ المُنتظر) في الفكر الشرقي القديم والكلاسيكيّات والفلسفيّة اليونانيّة والرومانيّة يَتسّم بصفتيّن رئيسيتيّن:

أولهما : الواقع المعيش لتلك الثقافات هو الباعث الحقيقي لخلق هذا التصور (فالظلم والإستبداد والعوّز) هو الذي دفع أرباب هذا التصور لنشر فكرة (المهديّ المُنتظر) بوصفه مُسكن أو عزاء للمُعذبين والمحرومين، الفقراء والمستضعفين.

وثانيها: أن رسالة “المهدي” في تلك التصورات تتمثل في الجمع بين الإستنارة والعلم والوّرع والقيّم الإنسانيّة، وذلك بغض النظر عن النسب الإلهي أو الإصطفاء والقدر في إيجاده أو الغلاف الأسطوري المُدعِم لشخصية (المُخَلِص).

وكل ذلك يختلف بطبيعة الحال عمّا سوف نجده في التصور الديني السماوي لفكرة (المهديّ المُنتظر) التي ارتَدَت المسحة العقديّة المُحاطة بهالة من القداسة.

فتُردّ فكرة (المُخَلِص) في الديانة اليهوديّة إلى ما وَرد في (سِفر التكوين ٢:١٥ : ٢٠ ، ٣: ١- ١٨) عن خطيئة “حواء” الأولى وقصة الغوايّة والعصيّان التي إرتكبها (آدم وحواء) بإيعاذ من (الحيّة والشيّطان). وذلك يؤكد أن الباعث الأول للفكرة كما ذكرنا يُرد إلى النسيج المُقدس والمُعتقد الموروث الذي دفع العقل الجمعي للإيمان بضرورة وجود شخصيّة (المهديّ أو المُخَلِص المُنتظر) لإصلاح ما فسد أي غَلبة العصيّان على السلوك البشري، وترتب على ذلك تفشي الشر وإنحصار الخيّر في وجدان القِلة وقلوب المَغلوبين في الأرض، وراح (كَهنة اليهود) يتحدّثون عن “المِيسيّا أو المشيح”  المُرسل من قِبل الإله “يهوه” وهو المُنقِذ المُنتظر الذي يسوف يُخلص (بني إسرائيل) من النكبات والهزائم والشتات والإضطهاد، وقد توسع أحبار اليهود في الحديث عن أخباره ولاسيّما في (سِفر دانيال٩:٢٠ – ٢٧).

و “المشيح المُنتظر” يأتي من أسباط “داود النبيّ” وسوف يظل كامناً في مكان خفيّ إلى أن يقضي الرب بظهوره ويُعد كتاب “زربابل” من أشهر الكتابات الشارحة لهذه العقيدة عندهم، غيّر أن بعض الكتابات تُعليّ من شأن “المشيح” وتجعل منه نبيّاً يحمل صفة الأزليّة التي تتخطى التجسُد في أزمنة ما عبر التاريخ، وتُشير بعض النصوص التوراتيّة إلا أن “المشيح” لقب يُمكِن أن يُمنَح للملوك الأخيّار والأبطال الذين يَثُورون لإقامة العدل ونُصرة المغلوبين ولهم صفة القداسة والمُرسلين في سِفريّ (صموائيل وأشعيّاء)، أمّا فلاسفة اليهود؛ فذهبوا إلى أن فكرة “المهديّ” مرتبطة بحدث وليس بشخص، فالعوّد إلى “أورشاليم” وإنتصار اليهود على دونهم من الأمم هو البرهان على صدق وعد الرب وإنقاذ شعب الله المُختار، وفي نفس السيّاق يرى ” هنري برجسون ١٨٥٩م – ١٩٤١م ” : أن فكرة “المهديّ المُنتظر” مرهونة بحدوث الثورة الروّحيّة لليهود، أمّا “ليون برونشفيك ١٨٦٩م – ١٩٤٤م”؛ فيربطها بسيّادة العلم والمعرفة والوعيّ المُطلق، الأمر الذي فتح الباب إلى الصهيونيّة العالميّة لتجديد هذه الفكرة في ثوب يجمع بين القوة والنزعة الإستعماريّة، وذلك كله لبعث الأمل في الروح الجمعي.

وقد تحدّث الفيلسوف الألماني “أوسفالد شبينجلر ١٨٨٠م – ١٩٣٦م” عن ذلك بشيء من التحليل الفلسفي والتَهكُم النسقي.

ويرى بعض المحللين للتاريخ اليهودي أن فكرة (المُخَلِص المُنتظر) تُردّ إلى واقع اليهود السياسي والإجتماعي حيث الإنقسام والشَتَاتّ والهزائم المتتاليّة على يد الأمم، بداية من طردهم من مصر ومروراً بقهرهم على يد “نبوخذ نصر الثاني أو بختنصر٦٤٢ ق.م – ٥٦١ ق.م”، والآشوريين والسبيّ البابلي. ويُرجح المؤرخون أن هذا التصور الميتافيزيقي لم يظهر قبل القرن العاشر قبل الميلاد (٩٣١ ق.م)، ثم عادت الحاجة ثانية لإنتشار ذلك التصور في أعقاب هزيمة اليهود من الفرس والإغريق والرومان وضياع مملكتهم التي أسسها “قورش الكبير ٥٦٠ ق.م – ٥٢٩ ق.م”. فزادت الحكايات وانتشرت الكتابات المُقدسة المؤكدة على الوعد الإلهي بالنصر على الأعداء والإنتقام من سائر الأمم التي إضطهدتهم وأذلتهم، وذلك كله للتغلب على روح اليأس التي سادت اليهود لدرجة رغبة الكثيرين منهم في ترك اليهوديّة والكُفر بالكتابات المُقدسة وذلك في الفترة من (٧٠ م إلى  ١٣٥م).

ويؤكد اللاهوتيون من أحبار اليهود أن فكرة (المُخَلِص المُنتظر) قد وردت في (سِفر التثنيّة ١٨: ٢٢) وأنَّ الرَّب سوف يُرسل في آخر الزمان من يُصحح ما وُرِد على ألسنة الأنبيّاء الكَذَبّة ويقود اليهود أبناء الرب إلى النصر المُئزَر لإثبات أن المؤمنين به دون غيرهم هم الشعب المؤهل للنِعمة دون غيرهم.

ويُلاحظ في التصوراليهودي التعويل على النصوص المُقدسة، وجعل فكرة الصراع والعنف والقتال هي المُنطلق والحقيقة القدريّة والنهاية المحتومة حيث الأمل الذي ينبغي على اليهود الإيمان به للقضاء على قوى الشر المُتمثلة في أعداء اليهود، والمُلاحظ أن هذا المُعتقد مازال هو الشاغل للنقطة المركزيّة في كل أنساق الكتابات اليهوديّة المُعاصرة، صهوينيّة كانت أو تلموديّة أو فلسفات علمانيّة، إلى درجة أن الكتابات الصهيونيّة قد جعلت “ثيودور هرزيل١٨٦٠م – ١٩٠٤م ” واحداً من المُخَلِصين الممهدين لمجيء المُخَلِص الأعظم في نهاية الزمان، أمّا المصلحون العلمانيّون من اليهود المعاصرون فقد رفضوا تماماً كل التصورات الميثيولوجيّة والنصوص التوراتيّة لعقيدة “المهديّ المُنتظر” بِحُجّة أنّ الروح القوميّة اليهوديّة هي الوحيدة المنوطة بالحفاظ على إسرائيل وتقدُمها والدفاع عن وجودها.

وإذا ما إنتقلنا إلى الفكري العقديّ المسيحي فسوف نجد تأثير واضح من التصور اليهودي على الفكر المسيحي، ولاسيّما في قضيّة الخيّر والشر وضرورة ظهور (المُخَلِص المُنتظر) غير أن الفارق الواضح بينهما هو إنكاراليهود لشخصيّة المسيح (عيسى بن مريّم) على إنه (المُخَلِص المُنتظر) – بل رموه بأبشع ما يوصف به المُدعين والأنبيّاء الكَذَبّة -، وقد توّسَع “موسى بن ميمون ١١٣٨م – ١٢٠٤م “، و”ابن كمُونّة ١٢١٥م – ١٢٨٤م” في تكذيب (العهد الجديد) وإنكارهما مكانة “يسوع” بإعتباره “المُخَلِص المُنتظر”، في حين أن آباء المسيحيّة باتوا يُعَلِمون أن (يسوع الناصري) هو المُخَلِص الأول وهو إبن الرب، الذي هبط من السماء روحاً وتجسد بشراً ليُخَلِص العالم من الخطيئة الأولى التي وردت في نصوص (العهد القديم)، غير أن اليهود قاموا بقتله، فرُفعِت روحه ثانيةً إلى السماء في كَنّف “الآب” والملكوت الرباني ليعود ثانيةً في آخر الزمان ليُطهر العَالَم من ذلك الدَنّس وذلك الفجور والعنف والدمار، الذي أحدثه أعداء الرب من اليهود وسائر الأمم التي لم تؤمن بالمجيء الأول وخلاص المسيح.

ولم يُفلح المحللون في فلسفة الأديان الفصل بين البواعث السياسيّة والمصادر العقديّة المُقدسة في فكرة (المُخَلِص المُنتظر) وذلك لأنها ظهرت عقب محاكمة “المسيح” على يد كَهنة اليهود والحاكم الروماني، وبِغض النظر عن المُفارقات الواردة في نصوص الحوارات التي دارت بين كَهنة اليهود المُدعيين ودفاع المسيح عن نفسه في (إنجيل مَتّى ٢٦: ٥٧- ٦٥) إلا أنها تُثبت أمريّن:

أولها : أن تصور (المُخَلِص المُنتظر) خرج من رحم الصراع بين الخير والشر، وأن الأمة المُؤمنة بشخص البطل المُنتظر هي التي سوف تَنعَم بالخلاص دون غيرها.
ثانيها : أن المسحة الميثولوجيّة الميتافيزيقيّة هي حجر الزاوية الجامع لكل سيّاقات هذا التصور في المسيحيّة على إختلاف مذاهبها، ويبدو ذلك في النصوص الواردة في (إنجيل مَتّى ٢٠: ١- ٢٨) تلك التي أكّدت على العَوّد الثاني “للمسيح” في نهاية الزمان وحولت العقيدة المسيحيّة من المحليّة إلى العالميّة، أىّ أن الخلاص المسيحي لكل البشر المؤمنين بهذا المُعتقد وليس لخِراف بني إسرائيل الضالة فقط.

ويرى بعض المُحللين أن هذا التصور قد انتشر على آثر الإضطهاد الذي تَعَرّض له المسيحيّون في الفترة الممتدة (من ٦٤ م إلى ٣١٢م) وهي الفترة التي قُتل فيها أكابر الأباء المُقدسين من حواري المسيح وحَملة رسالة التبشير ومن تتلمذوا على الروايات الواردة في تعاليم المُعلمين الإوّل.

أمّا عوام المؤمنين بالمسيحيّة فقد ذاقوا أبشع أنواع الإضطهاد والعذاب بداية من قطع الرؤوس والإلقاء بهم في حلقات المصارعة الرومانيّة أو إلقائهم طعاماً للوحوش الضاريّة وأخيراً نفيّاً إلى الفيافئ والأحراش والصحراء بلا مآوى، ولم يُستثنى من ذلك التَجبُر والإضطهاد والعنف النساء والأطفال، ومصادرة أموالهم وهدم معابدهم ولاسيّما في فترة الحاكم الروماني “ديوكلتيانوس أو دقلديانوس ٢٨٤م – ٣٠٥م” الذي أصدر مرسوماً يُبيح التنكيل بهم عام ٣٠٣م، وقد ساعد ذلك كله في تدعيم عقيدة (المُخَلِص المُنتظر) في الوجدان الجمعي المسيحي.

والجدير بالإشارة في هذا السيّاق أن طُول فترة الإضطهاد الذي تَعرض له المسيحيّون كان وراء ظهور عشرات المُدعين من المُخَلِصين الكَذبّة، وذلك لإحيّاء الفكرة وطمئنة العوام بأن الخلاص قادم وأن الأمل محتوم، ناهيك عن ظهور عشرات المُجددين والفلاسفة الذين أكدوا على أن العوّد والمجيء الثاني “للمسيح” مرهون بمشيئة الرب وإرادته بإنتهاء عصور الظلم والإضطهاد في الدنيا. وللحديث بقيّة عن تَصوّر فكرة “المهديّ المُنتظر” في الحضارة الإسلاميّة.

بقلم : د. عصمت نصار 

 

Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *