Share Button

المدينة الفاضلة بين التّصور الحالم والواقع المفقود (٢)

بقلم : د. عصمت نَصَّار 

دائماً ما تَحدثنا عن النسقيّة والسياقيّة في الكتابات الفلسفيّة، وبيّنا أنّ أصحاب المشروعات من الكُتاب يختلفون عن أصحاب الخطابات، فالفريق الأول يمتاز بتوجيه كل أفكاره صَوّب مسألة أو قضيّة أو مشكلة تشغل الجانب الأعظم من فكره إلى درجة الفناء فيها وبقائها الحاضر دوماً فيه، ولا يعني ذلك إهماله الواقع أو إعتزاله المجتمع أو عزوفه عن متابعة التطورات والمتغيّرات المحيطة به، في حين أن أصحاب الخطابات لا تشغل الفكرة عندهم سوى مرحلة عُمريّة أو فترة زمنيّة أو حدث بعيّنه أو ظروف وُضع فيها صاحبها، ولا يبقى من نهجه في صياغة أفكاره سوى الأسلوب أو وجهته في معالجة ما يُطرح أمامه من مسائل، أو ما يدلو به بدلوه في قضية أخذت حيّزاً من إهتمامه. وأصحاب الأنساق لا تتبدّل نهوجهم ولا تتغيّر مقاصدهم، ولكنها تتطور وتتقدَّم وتتفاعل مع الواقع فتُثمِر إبداعاً، بينما لاتتوفر هذه السِّمات عند أصحاب الخطابات إلا بقدرٍ محدود.

ومُفكرنا “الطاهر بن عاشور” من الطراز الأول، فلا نكاد نجد تبايّناً في نهجه العقلي مُتناقداً مع نسقيّته في ضَمّ الأفكار في عِقد واحد، لا يشوبها الإضطراب أو الشطح أو التناقض، ولم يُصرفه عن مقصده مانع أو عارض. والأمثلة عديدة في كِتابات “ابن عاشور” وأقربها الموضوع الذي نحن بصدده ألا وهو (تَصوّر المدينة الفاضلة)؛ فيترأى لي أن مُفكرنا قد سئل نفسه أو تحاور مع قلمه حول عِلة طرحه هذا الموضوع فأجاب لسان حاله : إنني أبحث عن المقاصد الشرعيّة التي أعتبرها المصباح الذي يُضئ ظُلمات الفكر ويُزيل الستائر عن كل ما هو غامض أو مجهول من القضايا ذات الصِلة بهذه الغاية، فوجدت أن الفلاسفة سواء في الغرب أم الشرق قد راقَ لهم طرح تَصوّر (قيمة الكمال)، بِغَضّ النظر عن الصورة التي توصف به أو يَنتسِب إليها (الله، الإنسان، المجتمع، العالم)، وذلك تَبعاً للبوّتقة التي انطلق منها ذلك التَصوّر، ومن هذا المُنطلق وجدت أن من مقاصد الشريعة الإسلاميّة بناء المجتمع الإنساني بكامله، فأردتُ أن أُصيِغ المدينة الفاضلة التي حارت العقول البشريّة في إيجادها على أرض الواقع، وبيّنتُ أن السبيل إلى ذلك في الرؤية الإسلاميّة للكمال الإنساني والصفات التي يجب توافرها فيه باعتباره الخليّة الأولى أو اللَبنة الرئيسة التي تستطيع بناء المدن والمجتمعات والعقل الجمعي للثقافات والدستور الشامل للبشر.

ويُضيف الكاتب “سامح محاريق (كاتب أردني وُلِد عام١٩٧٧م) ” أن تأكيد “ابن عاشور” على أهمية وجود الأنبياء لتحقُق تَصوّر اليوتوبيّات، يعكس انتخابه للنموذج الإسلامي باعتباره المُنطلق الأوحد لهذا التَصوّر الذي حَلم به الأدباء والفلاسفة لإيجاد المدن الفاضلة، غير أنني أعتقد أن حديث “ابن عاشور” عن المُصطفى بوصفه الإنسان الكامل والرئيس الأمثل للمدينة الفاضلة لا يُحاكي الموروث العقدّي الإسلامي ولا يُساير “الفارابي” في تصوره فحسب؛ بل أراد التأكيد على ضرورة وجود الأنبياء بعامة والنبي الخاتم بخاصة بوصفه ناقل للتخطيط الإلهي لخير أمة؛ الأمر الذي يُشكل رداً عمليّاً على المُتشككين المعاصرين في النبُوّة والجاحدين لمثاليّة النبي (صلى الله عليه وسلم) في قيادة المدينة الأولى للإسلام، أضف إلى ذلك أن “ابن عاشور” لم يُعلي من قدر النبي في هذا السياق؛ ليفضل الفقهاء وعلماء الدين على دونهم لرئاسة المدينة، بل جعل الرئاسة للأحكم والأقدر لتَحمُل أعباء الولايات والسُلطة، ولم يشترط  – كما ذكرنا – سوى مُراعاة هذا الرئيس لضرورة السّير على درب المقاصد الشرعيّة في العقيدة والأخلاق والسياسات العامة للمدينة.

ويبدو لي أن السطور التاليّة المُكملة لما قبلها سوف تُبرهِن على ما ادعيّته سلفاً، فتَصوّر مُفكرنا يهدف في المقام الأول إلى تبيان مقصد هذه المدينة، مُقدماً فقه الأوليّات على دونه استناداً على ما يستشرفه من مآلات، وهو يعترف في ذلك كله بأنه مُجتهد في تخطيط تَصوّره ومُجدد في الوقت نفسه للأفكار التليدة التي استقاها من النموذج النبويّ في رئاسته للمدينة، ولا يؤخذ عليه اهتمامه بتبيان الصورة الماديّة لتلك المدينة، ويرجع ذلك بأن تَصوّره جاء مُحاكياً لبنية الرسالة النبويّة الساعية لبناء أمة وليس تشييّد مدينة أو دولة.

فيُحدثنا “ابن عاشور” عن سمات تلك المدينة التي اصطنعها النبيّ الخاتم لتُصبح نموذجاً للمجتمع الإنساني بأسره ومثالاً هادياً في التقنين والتشريع وقياس المُستحدث من المعارف والشئون الحياتيّة على ثوابته، فيقول (إنّ قوام المدينة الفاضلة يتقوّم ويتكوّن من صَلاح الأفراد في خاصتهم، وصَلاح المجتمع المُتقوّم منهم في حال مُعاملتهم، ومن سهولة طِباعهم مع المُسالمين، ومن الشدّة والذبّ عن حوزتهم أمام العدو، ومن سياسة تدبير جماعتهم، فإذا تقوّمت هاتِه الأصول في المدينة، حصل فيها الأمن، وهو جالب جميع الخيرات لكل أهل المدينة، وجاعلها أفضل مدينة).

ويُضيف “ابن عاشور” أنّ عِلة كمال النموذج الإسلامي وأهليّته للصمود أمام العواصف والكبوّات وأهليّته لكل زمان ومكان، لا ترجع لصَلاح من أُستُخلّف عليها وحاشيته وأعتلى عرش المُلك ومنصب الرئاسة؛ بل في تكامل الأركان التي وردت في الدستور الإلهي وتحققت بالفعل في عهد رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه)، وفي المجتمعات التي سارت على دربه في تسييّس الدولة أو المدينة الفاضلة، وتتمثل في :-

صَلاح الحاكم والرعيّة على نحو متوائم لا تنفصل أجزائه ولا تتعارض أركانه؛ الأمر الذي يمنع الدَسّ والخيانة والطمع والإستبداد والرياء والجور والحرمان والتجبُر، لتكوين بؤرة عَفنة من الأدران تَنخُر وتُفسد في عضد الأمة، فتتقطع أوصالها وتُمزق أجزائها. وإحترام أهل الرأي من الحكماء والعلماء بوصفهم ميزان الأمة الحافظ لكيانها والمُربيَ لأبنائها والحامي لسياستها من الذَلل والتهور والإندفاع، (وكان صّلاحُ المدينة يتطلب صَلاح ولاة الأمور، وصَلاح أعوانهم، وصَلاح عامة الناس على تفاوت في المقدار المطلوب من ذلك الصَلاح)، ويعني ذلك تناغم بنيّة المدينة مع بعضها البعض (الحاكم، الحاشيّة، الجمهور) في نسيج من الحُبّ والتّوائم يَصعِب تفككه أو إختراقه أو إنصرافه عن وجهته إلى التقدم والسعادة.

وراح “ابن عاشور” يُقابل بين هذا النموذج الإسلامي ونظائره من النماذج التي تَصوّرها الفلاسفة والحكماء، وظنوا أنها يوتوبيّات أو أحلام عسيرة التحقق، فذهب إلى أن سمات الحاكم في (جمهوريّة أفلاطون) لم تخرج عن كونها بعض صفات الحاكم في عهد النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ثم في كتابات من استخلصوا صفاته في الشروط التي يجب توافرها في تسييس المجتمع الإسلامي، ومنهم “ابن سينا ” الذي جعل العلم والعدل والشجاعة والرحمة بالرعيّه والورع والتقوى والحكمة في المَسلَكّ من الشروط التي يجب الإلتزام بها في تنصيب الحاكم أو الإمام القائد للمدينة.

أمّا صفات المواطنين فيجب أن تكون نموذجاً في التماسك والتعاون والبِرّ والحُب والألفة غنيّهم وفقيرهم، قويّهم وضعيفهم، ذَكر وأنثى مُخلصين، عالماً ومُتعلماً، مُهذبين ومُثقفين لا يضيع الفضل بينهم لا يَقبَلون على العصيّان ولا يتحرَّرون من طاعة السلطان، وأهل بأس على الأعداء لا يعتدون على المُسالمين ولا يُجيرون أحفاد الأبالسة والشيَاطين من الخوّنة والمُفسدين ولا يأمنوهم في مدينتهم، مع عدم التجبُر تجاه الشواذ والجانحين والأسافل في سلوكهم أو طِباعهم أو المُنافقين أو الجامحين في عقائدهم ما داموا لا يُشكلون خطراً على المجموع، أما المُخالفين والمُتخاصمين من أفراد الأمة أو أهل المدينة؛ فلا تثريب عليهم ما دام القضاء عادلاً؛ فالخصومة والاختلاف سُننٌ لا تَهِدم إلا المُجتمعات الهشّة الضعيفة التي لا حازم لها، ولا يُظلم أو يُهمل العَجَزة والضعفاء والمرضى من أهل المدينة ولا يُحتَقر الغرباء عنها، بل تشملهم جميعاً الرحمة والبِر والرأفة التي حث عليها الدستور الشريف، ويقول : (إنّ جدوى المدينة الفاضلة على المجتمع الإسلامي، أنها إذا قامت على الفضيلة والعدالة كانت قدوة المجتمع كله، إذْ هي قلبه وبصَلاحِ القلب صَلاحُ الجسد كله، فتكون هي المرجع عند اضطراب الناس، وهي الآخذة على يد كل من يحاول فساداً في المجتمع، ولقد يَسّر الله لمدينة النبي (صلى الله عليه وسلم) هذه الخُصلة الكاملة، فصارت قدوة الإسلام مُدَّة قيام الخلافة فيها، ثم أخذ أمرها في اضطراب بعد الفتنة).

وإذا ما تأملنا الخصال التي جعلها مُفكرنا ثوابت تُميّز المدينة الفاضلة عن غيرها نجدها أنموذجاً للتآليف بين النقل والعقل، والمثال والواقع، وإذا كان ” أبو نصر الفارابي “ قد استفاض في تطبيق ذلك النهج في وصف المدينة الإسلاميّة التي أبتدعها بتأثير من (جمهوريّة أفلاطون) وما ورد في القرآن والأحاديث في الجوانب الأخلاقيّة والسياسيّة، فإن “ابن عاشور” قد اجتهد في تقديم صورة أكثر حداثة لتلك المدينة، ولا يؤخذ عليه بعض الهَنّات التي يعتبرها البعض مآخذ رجعيّة، مثل طاعة الرعيّة للحاكم فتبريرُ ذلك كامن في بنيّة التَصوّر الإسلامي، ويراجع في ذلك رأي الجمهور بإستثناء فرقة الخوارج وغُلاة الشيعة؛ لأن العصيان والثورة غير المُبررة أو إنقلاب القِلة على ما إرتضاه الكثرة قد أثبتت التجربة أنه يؤدي إلى الفوضى وإنحلال المجتمع وإنفلات الأمن في المدينة هذا من جهة، كما أن إشتراط صفة العدل والتفاني في رعاية الرعيّة من قِبل الحاكم الحكيم العادل يُبرر طاعة الرعيّة له ولاسيّما إذا كان الاعتراض يقوده جُهلاء أو عملاء أو مُتعصبون لمِلة أو لفكرة لم يَثبُت صَلاحِها في عقول الجماعة من جهة أخرى.

أمّا رفضه إيواء شِرار الناس والمُتطرفين منهم والمُزدرين لما يُقدّسه أهل المدينة، قد حث عليه “أفلاطون” في جمهوريّته بل دعى لطرد الملاحدة والمُجرمين حتى لا يستشري الفساد والتفكّك في المجتمع، أمّا دعوته للرفق بالمُعاقين والمَرضى والمُعدمين وعدم التعرض للمُخالفين؛ فكل ذلك يُحمد له بانتصاره للمقصد الإسلامي في معالجة مثل هذه الأمور، وأخيراً نجده يتفق مع “جمال الدين الأفغاني ١٨٣٨م – ١٨٩٧م”، و” عبد الرحمن الكواكبي ١٨٥٥م – ١٩٠٢م “، والأمير “شكيب أرسلان ١٨٦٩م – ١٩٤٦م” في أن الفُرقة وإنحطاط الأخلاق وإهمال وصايا النبيّ وتعاليمه وإرشاداته، إلى ضرورة الحفاظ على الثوابت الركينة التي تُقام عليها المدينة الفاضلة هو السبب الحقيقي في غيبة هذا النموذج الفريد للمدينة الفاضلة التي مازلنا نبحث عنها في كتابات تُجار الكلمة والمُتلاعبين بالعقول وسماسرة السّياسة.

والسؤال الذي يجب علينا طَرحِه، هل مازلنا نتحدث عن المدينة الفاضلة بوصفها (يوتوبيّا) أو (فردوّساً مفقوداً) ؟! وهل ما برحِنا نتفاخر بإنشاء المدن الجديدة وما فيها من أبراج ومباني شاهقة وقصور وجِنانّ مبهجة، وحَسبنِا ذلك تغييّراً وتجديداً وتحديثاً في طريق التمدن والتقدَّم، وقَدمنّا جمال الحجر على تثقيف وتهذيب خِصال البشر؟ أم تُرانا ننتظر الحكيم الغائب الذي يتعهَّد بإصلاح أوضاعنا الإجتماعيّة والسياسيّة والإقتصاديّة ويمحو من مؤسستنا كل جراثيم الفساد ويُغربل القوانين التي تُسيّس مدينتنا الفاضلة التي نرتجيها، ويُعيد بناء دستورنا على نحو يُمكّن كل أنظمة الدولة من رفع مكانة أهل الدِربّة والدرايّة الأكفاء وأصحاب الخبرات والقادرين على الإبداع – على غيرهم من السفلة – وتمكينهم من شَغّل المراكز القياديّة، وذلك عوضاً عن ديمقراطيّة الكثرة التي لم يُنجم عنها سوى المدن الفاشلة أو الديستوبيا؟ وهل في إمكاننا إعادة تربيّة سكان المدن الجديدة على نحو يتناغم مع طابع تلك المدن التي شيّدنها على مثال من الروعة والجمال، أم سوف نظل نُعاني من تناقض المظهر مع المَخبَرّ، البَرَانّي والجُوانيّ، الظاهر والباطن، المعابد والورع والخشية، التشريع والعدالة، الضمير والرقابة، الحارس والسجّان، العُريّ والحُبّ، ومئات القضايّا والمشكلات التي تُعد من أهم الأوليّات التي ينبغي تقويمها وإعادة بنائها في المدن الفاضلة، قبل أن نُشيّد الأسوار ونحشد الحشود لحمايّة الحدود.

نعم ! نحتاج إلى العلم ومناهجه وآليّاته، ولكننا أحوّج إلى وَرعّ العلماء وتقوى مُطبقيه، أجل مازلنا نأسف على غيّاب المُعلِم فينا، وإن كنا نشعر بالخجل لضعف ووَهنّ وإنحطاط  أخلاقيّات المُتعلمين التي سادت مدينتنا !

وللحديث بقيّة عن قضيّة أخرى في فلسفة “الطاهر بن عاشور” الإصلاحيّة.

بقلم : د. عصمت نَصَّار

Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *