Share Button

بِدعة المهديّ المُنتظر في فلسفة ابن عاشور (5)
بقلم : د. عصمت نصار 

لمّا كانت الضرورة العلميّة والأسُس المنهجيّة للتحفير والتنقيب على أصول الأفكار والمُصطلحات وتَتَبُع ما طرأ عليها من تحولات وتغيّرات جدير بالنقد والتحليل، كان لزاماً علينا التنبيه على الآليّات المُتعاقبة التي آثرت في ذيوعها وإنتشارها في الثقافات المختلفة، وعليه سوف نقف في عُجالة على أهم تلك الآليات التي كان لها عظيم الآثر في إستحالة بِدعة (المهديّ المُنتظر) في العصر الحديث إلى مِلة أو ديّانة مُحاكية في بنائها وبنيتها للنِحل الوضعيّة، ولعل أهم تلك الآليّات هو تآلف دوائر الإستشراق الغربي (العقديّ، العلميّ، والسياسي) في إنجلترا وألمانيا وفرنسا، وتفاعلها إلى درجة مَكّنَتَها من إبتداع (العقيدة البابيّة، البهائيّة، والقاديانيّة) – وذلك منذ أوخريّات القرن السابع عشر الميلادي – ونشرها بين قادة الرأي المُسلمين وعوامهم التابعين، وقصدت من ذلك إضفاء صفة القداسة على تلك البِدع وتوجيهها وفِق مصالحها الماديّة من جهة، والتشويش على مصداقيّة التراث الإسلامي الذي ما زالت الأقلام – المُحاكيّة لدوائرالإستشراق – تطعن فيه دون أدنى تمحيص للنقود أو تحليل للآراء التي روّجوا لها في الرأي العام باسم التجديد والتحديث من جهة أخرى، وسوف نتناول في عُجالة تلك النِحل للكشف عن النسق الذي انطلقت منه استناداً على بنيّة فكرة المهديّة و (المهديّ المُنتظر).

فقد ظهرت البابيّة نحو عام (١٨٤٤م) بإيعاز من دوائر الإستشراق الروسي والإنجليزي بالإضافة إلى الجمعيّات الصهيوأمريكيّة، وذلك على يد ” الميرزا علي محمد رضا الشيرازي ١٨١٩م -١٨٥٠م ” الذي ادعى أنه (المهديّ المُنتظر) عقب إنتهائه من طَوّر التَتَلمُذ على يد أقطاب فرقة الشيعة الشيخيّة ثم زعم أن هناك وحيّاً يهبط عليه ويَنسخ الشريعة باعتباره نبيّاً على غرار الرُسل السابقين، وقد انتهى به الأمر إلى التجديف الصريح بزعمه أن روح الله حَلتّ في جسده؛ الأمر الذي قاده إلى الحُكم عليه بالإعدام.

وقد جمع (الباب) في تعاليمه بين الأكاذيب الباطنيّة والشطحات الصوفيّة والعادات الإباحيّة، وذلك في كتاب (البيّان ١٨٤٨م)، وذلك بمساعدة إمراة تُدعى “قُرة العيّن أو فاطمة البراغاتي ١٨١٧م- ١٨٥٢م”، التي تُعَد المُخطط الأهم لهذه النِحلة والمسئول الأول عن الآثار التي خَلَفَتها ذيوع تلك المعتقدات الفاسدة في الرأي العام الإيراني على وجه الخصوص والثقافة السُنيّة في العديد من الدوائر الإسلاميّة على وجه العموم، وهي تُمثل كذلك الدور الجنسي في إغواء الشباب للإنضمام لهذه الدعوة شأن الدور الذي كانت تلعبه النسوة الذين استخدمهم (الحشاشون) في تجنيد أتباعهم.

ومن أشهر مزاعم هذا (المهديّ) أن نبؤة محمد (صلى الله عليه وسلم) وإتصاله بالعالم الغيّبي لا تمتاز عن ما جاء به (زرادشت، بوذا، موسى، وعيسى)، وأن الدين البابي ناسخ (أي لاغي) لشريعة الإسلام، وأن هناك تأويلات لآيات القرآن مُغايرة للمفاهيم التي يرددها المُسلمون في شعائرهم وعقائدهم، وتحريم جهاد المُحتل وإعتبار الغزو الغربي قَدرً يجب التسليم بمشيئته الإلهيّة، وقد اعترفت الأوساط الدوليّة الغربيّة بمحافلها الدينيّة، وذلك رغم الطعون التي وُجهِت إلى إدعائتها وخطرها على الإسلام الذي ادعت أنها قد انبثقت منه.

أمّا البهائيّة فَتُعد إمتداداً للبابيّة في بنيتها العقديّة وقد ظهرت نحو عام (١٨٦٣م) على يد “الميرزا حسين علي نوري١٨١٧م – ١٨٩٢م، المُلقب بـ بهاء الله”، الذي نَصب نفسه إماماً معصوماً ومهدياً خَلفاً للباب، ومن أشهر تعاليمه التي ذكرها في كتاب (العهد والميثاق والأقدس) وغيرها من الألواح التي بَلغ نصوصها نحو ١٥ ألف آثر مُقدّس، هو الدعوة إلى الوحدة الإنسانيّة ونبذ الخلافات بين الأديان، وفَصلّ الدين عن السياسة والإنصيّاع إلى أوامر الحُكام في شتى بِقاع الأرض، وإبتداع لغة مُشتركة ووضع قيّم أخلاقيّة ثابتة تلتزم بها كل الثقافات الإنسانيّة عِوضِاً على ما جاء في تعاليم الديانات السابقة، والمساواة الكاملة بين الرجل والمرآة في كل شئون الحياة، والعزوف تماماً عن كل أشكال الصراع الديني والسياسي، والإبتعاد عن العنف، والتفاني في خدمة المجتمع، وإعتناق البهائيّة بإعتبارها دين آخر الزمان وإستقلاله نهائياً عن الديانة الإسلاميّة وشريعتها التي نُسخت بوحيّ من الإله، كما يُرَدّ إليه تطوير العقيدة البهائيّة على نحو يَكفُل لها الإستمرار بقيادة خلفاء مهدييّن يقودون أتباعه من بعده، وقد نُفيّ من جراء تجديفه وإدعائه النبؤة، ونسخ الشريعة إلى إسطنبول ومنها إلى أدرنة في تركيّا، ثم إلى إحدى سجون عكا، حتى مات هناك.

وينتشر البهائيّون في العديد من المدن الشرقيّة والغربيّة والكثير من الأقطار الإسلاميّة، غير أن المحافل الغربيّة تَعُد النِحلة البهائيّة ضمن الديّانات المُعترف بها ومعابدها كما بيّنا سلفاً.

أمّا الديّانة القاديانيّة أو الأحمديّة؛ فقد ظهرت في البنجاب بالهند (عام ١٩٠٠م) على يد “مرزا غُلام أحمد القادياني ١٨٣٥م – ١٩٠٨م”، وذلك برعاية إنجليزيّة ومحافل ماسونيّة، ومن أهم مؤلفاته التي إشتملت على تعاليمه (الكتاب المُبين، إعجاز أحمديّ، أنوار الإسلام، التبليغ، البراهين، وتجليات إلهيّة) وغير ذلك من النصوص التي يُقدّسها القاديانيون ويّصل عددها إلى أكثر من خمسين كتاباً.

وقد بدأ دعوته على إنه أحد المُجدّدين المُساجلين لليهود والنصارى لإثبات تهافت مُقداستهم، ولما زادت شهرته وكَثِر أتباعه أعلن أنه مهديّ آخر الزمان، ثم النبؤة المُتممة والناسخة لشِرعة الإسلام؛ الأمر الذي جعل قادة الرأي في الهند وباكستان يحذرون من آرائه ويفصحون عن مروقه وخروجه على صحيح الدين، ورغم ذلك لا يَستبعِد (القاديانيّون) ظهور أنبيّاء من بعد (المهديّ) بِحُجة أن الوحي لا ينقطع بين السماء والأرض حتى قيّام الساعة.

وعليه؛ لا غرابة لظهور أنبيّاء في الغرب ورسالات ناسخة للكُتب المُقدّسة السابقة عليه، ومن ثم تُعتبر (القاديانيّة) ديّانة مُستقلة تماماً عن الإسلام، وهي قريبة الشبه بتعاليم (الباب) من حيث تحريمها العنف والجهاد المُسلح ونسخها الشريعة وتعديلها على الفقه الإسلامي وتحويلها للقِبلة، وعدم تحريمها للكبائر، أضف إلى ذلك إيمانهم بالتناسخ والحلوليّة، وجُل التعاليم الباطنيّة شأن (فرقة النُصيريّة، والدروز). غير أن مراكزهم الإعلاميّة المُعاصرة تؤكد أن (القاديانييّن) يؤمنون بتوحيد الباري وتنزهيه وصِحة نبؤة محمد (صلى الله عليه وسلم) خاتم الأنبيّاء، ذلك فضلاً عن تقديسهم القرآن وتعاليمه الشرعيّة بتأويلات معاصرة تتناسب مع العلوم الحديثة والواقع المعيش، وأن مفهوم خَتمّ نبؤة رسول الله مُغايّر لمفهوم العوام؛ لأن الخِتام لا يعني انقطاع الوحيّ، بل هو ضرب يُعَبِر عن الكَمَال والتعظيم والإجلال.

وفي الوقت نفسه تَنسِب نفس المواقع الإعلاميّة (القاديانيّة) العديد من الأقوال “لمرزا غُلام أحمد القادياني” لا تَخلُوا من التعارض مع إدعائتهم السابقة، مثل قوله (قد بيّنت مراراً وأظهرت للناس إظهاراً أني أنا المسيح الموعود والمهديّ المعهود، وكذلك أُمُرت وما كان لي أن أعصي أمر ربي وأُلُحق بالمجرمين، فلا تَعجّلوا عليّ وتَدبروا أمري حق التَدبُر إن كنتم مُتقين، وعسى أن تُكَذبوا إمرأً وهو من عند الله، وعسى أن تَفسَقوا رجلاً وهو من الصالحين).

وينتشر أتباع هذه المِلة في الهند، باكستان، إسرائيل، وبعض الدول الأفريقيّة، ولهم معابد في العديد من الدول الأوروبيّة والولايات المُتحدة الأمريكيّة.

والجدير بالذِكر في هذا السيّاق التأكيد على دور الأزهر الشريف وعلمائه، ومن نحى نحوهم من أكابر المُفكرين العقلييّن المُسلمين في توعيّة الدعاة والمُربييّن بخطورة هذه الفِرق وآثرها السلبي على سلامة العقيدة الإسلاميّة، ومنهم (الإمام محمد عبده، محمد رشيد رضا، محب الدين الخطيب، محمد الخضر حسين، محمد فريد وجدي، عباس محمود العقاد، أبو الحسن الندوي، محمد مصطفى الحديدي الطيّر، محمد حسن الأعظمي، عبد القادر شيبة الحمد، محمد عبد المنعم خفاجي) وغيرهم من الذين نجحوا في صد هذه المؤامرة التي حاكتها دوائر الإستشراق الحديث لتبديد الثوابت العقديّة وانتشار الجماعات الجانحة والفِرق المُجترئة.

والمثير للدهشة إننا لا نكاد نجد من بين المُجددين والصوفيّة والفقهاء المعاصرين من يُنبه على خطر تفشي بِدعة (المهديّ المُنتظر) الشيعيّة، ويكتفي معظمهم بأن ما فيها لا يصل إلى درجة الكُفر، وأن ما بها يُهدئ من روّع الغاضبين والثائرين على واقعهم ويَحملِهم على الصبر إنتظاراً لذلك (المهديّ)، ذلك فضلاً عن صعوبة دراسة مثل هذه المسائل الشائكة التي يَصعُب التحقق من بواعثها ومقاصدها ومآلاتها في كُتب الأحاديث النبويّة.

وفي ذلك يقول “الطاهر ابن عاشور” (إنّ واجبات الدين ترجِع إلى ثلاثة أنواع : إعتقادات وأعمال وآداب، وإنّ التصديق بظهور المهديّ في آخر الزمان لا ينزوّي تحت تلك الأنواع، إذْ ليس هو من الأمور التي يجب إعتقادها في ضمن العقيدة الإسلاميّة، فسواء على المُسلم أن يعتقد في ظهور المهدي، أو يعتقد عدم ظهوره …، فليس العلم بذلك من قبيّل العلم الواجب طلبه على الأعيّان، ولا على وجه الكفايّة، بحيث إذا قام به البعض سقط عن الباقيين، إذ ليس العلم بذلك راجعاً إلى الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، ولا إلى ما يَتّبع ذلك ممّا يترتب عليه تحقيق وصف الإيمان عن طوائف المسلمين أو عند بعضهم … ولا هو من الأمور العمليّة… ولا هو من الأمور الراجعة إلى آداب الشريعة الإسلاميّة التي يجب التحلي بها والتخلي عن أضدادها … فإذا خلا من الإندراج تحت واحد من هذه الأنواع الثلاثة من أمور الدين، تبيّن أنه ليس ممّا يتعيّن على المُسلمين العلم به وإعتقاده … ولا يكون من متناول عامة المُسلمين؛ إذ ليسوا بمَظَنّة السلوك في تِلُكُم المسالك).

ويُضيف أن المُعارضين لا يحق لهم الإحتجاج على رأيّنا بوجود خبره (أي المهديّ) في الحديث الشريف؛ وذلك لأنه حديث آحاد لا يُدرج ضمن أصول العقيدة ولا العبادات، وشتان بين الإعتقاد والظن واليقين العقدّي، فمسألة (المهديّ) بذلك ليست بالخبر اليقين (فالقطع واليقين لا يحصل في مثل الأمور الإعتقاديّة إلا بأحد أمريّن : البرُهان العقلي، والخبر الشرعي القطعي، وهو ما كانت نسبته إلى الشرع قطعيّة).

ويُضيف “ابن عاشور” أن النقود التي وُجهِت من قِبل رُواة الأحاديث بشخصيّة (المهديّ) يمكن حصرها في وجهيّن :

الأول : إختلاف جُماع الحديث على الرُواة الذين نقلوا عنهم.
والثاني : إختلافهم على متنّ رواية الحديث.
وبذلك تكون الأحاديث المنسُوبة إلى رسول الله مشكُوك في صحتها تعديلاً وتجريحاً، سنداً ومتناً. وهل يُعقل تجاهل الصحيحيّن (البُخاري ومُسلم) لتلك الأحاديث إذا كانت صحيحة؟!

(وخُلاصة القول فيها من جهة النظر إنها مُستبعدة مُسترابة)، فهي أخبار مصنُوعة ومُغرضة لا تخلوا متونها من التعصُب المِلي  والإيهام بأن (أمة مُحمد) لا فَلاَح لها إلا بوجود (المهديّ)، وأن إنحطاطها من الأمور الحتميّة في غيّبته، ومن ثم لا خيّر في الإنشغال بأمرها أو التحري عن مقاصدها والخيّر كل الخيّر في التنبيه عن مفاسدها وأثرها على الأجيال المُتعاقبة.

وللحديث بقيّة عن آراء “ابن عاشور” في بِدعة (المهديّ المُنتظر) ومَن سَبَقه من علماء الإسلام في هذا السياق النقدي العقلاني الجريء.

بقلم : د. عصمت نصار

Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *