Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

أذكر أنني منذ فترة طويلة، تحديداً فيما قبل سنة 1994م، حين كنت أكتب رسالتي للدكتوراه عن “مشكلة الموت عند صوفيّة الإسلام”، كنت مشغولاً بقراءة الكتب التي تناولت علاقة الروح بالجسد، ويحضرني منها الآن كتاب (ج آثر فندلاي) : على حَافَّة العالم الأثيري أو الحياة بعد الموت تُفَسَّر تفسيراً علمياً. وهنالك كتب أخرى كثيرة تناولت موضوع العلاقة بين الروح والجسد ومسألة بقاء الأرواح واستحضارها بعد الموت تحت ما يسمى “الروحيّة الحديثة”؛ وأظنه الكاتب المرحوم محمد فريد وجدي في مصر هو من كان مهتماً بهذا الجانب سواء على الصعيدين الغربي والعربي؛ يومها كدتُ أفقد ما تبقى لي من عقل من خرافة تحضير الأرواح والعبث الدائم بكشف حقيقة الروح الإلهي!

ووجدت أن ما ذكر في هذا الجانب مجرد محاولات بشرية لكشف سر العلاقة الخفية (= السر الإلهي) بين الروح والجسد، وانتهيتُ إلى أنها محاولات قد تمَّ فشلها على أقل تقدير قياساً إلى العقل العربي، وأنها لا تغني الباحث فيها فتيلاً؛ ولم أعد إلى هذا الموضوع منذ غادرته.

والآن حين نسمع عرضاً عن محاولات من هذا القبيل تحاول تحرير الإنسان بعلوم الطاقة سرعان ما يقفز إلى الذهن تلك الأفكار القديمة، ونساءل أنفسنا : تُرى هل هناك من صلة بين ما كنت أفكر فيه قبلاً، وبين ما تقوله اليوم علوم الطاقة أو ما يشبه علوم الطاقة من محاولات تحرير الإنسان من قيوده الجسديّة والإمعان الشديد في التّيه الروحي؟

ألم تكن هذه العلوم تطوراً لما كان يُفكر فيه الغربيون من قبل في كشف سر العلاقة بين الروح والجسد لمحاولة إزاحة الخوف من المجهول أو الخوف من الموت أو إنْ شئت قلت : كشف سر الموت على وجه الخصوص؟! أنا لا أنكر استعداد الروح بعد المجاهدة والتصفية إلى الاتصال بالملأ الأعلى؛ ولكن أتساءل فقط عن علاقة علوم الطاقة بما ذكرته لك؟ وهذا يقودني إلى النقطة الثانية وهى :

التفرقة بين التصوف في الإسلام وغيره من المدارس الغربية الأخرى؛ أغلب الظن إن الذين يتحدّثون عن الكشف الصوفي وهو ما يسمى عندهم “بالعروج الروحي” الذي يلزم صاحبه فيه بداية المجاهدة إلى أقصى درجة ثم يجيء الكشف بعدها هبةً وتوفيقاً من عند الله؛ قد فاتهم أن من شرط الكشف ومن شرط المشاهدة في التصوف وخاصة في الإسلام هو “الاستقامة”. وللاستقامة شروط وعروج ما في ذلك شك. هنالك استقامة “التقوى” وفيها مجاهدة بالذكر والعبادة وما إليهما ممّا فُرض على كل مسلم؛ ثم تعرج إلى مجاهدة الاستقامة نفسها فتوفيها حقها ثم تعرج إلى مجاهدة الكشف والإطلاع، وهذه أخطر أنواع المجاهدات إنْ لم تكن أهمها على الإطلاق؛ لأنه يلزمها كما يلزم غيرها من مجاهدات شرط الإخلاص؛ والمخلصون على خطر عظيم.

قد يَصل ممَّن لا عقيدة له ولا دين إلى مراحل الكشف والشهود ثم العروج إلى الأفق الأعلى بقصد التحرر بسيطرة الروح على البدن فهل وصوله هذا بصحيح؟ قد ينفذون إلى أسرار – بقصد التحرّر أيضاً – كما ينفذ المتدينون والأولياء إلى هذه الأسرار؟ فهل نفاذهم هذا بصحيح؟

السَّحَرةُ والمرتاضون (أي الذين بلغوا بالرياضة الروحيّة مبلغهم من العلم حتى اضطلعوا على غيبيات خفيّة مُحَجّبَة) يمكنهم أن يعرفوا بالرياضة والمجاهدة مثل ما يعرف الأولياء وأكثر! إذن فما الفرق؟ الفرق هو “الاستقامة”؛ والاستقامة تعتمد على مضمون ديني تستند إليه، أي تعتمد على الكتاب الكريم وسنة رسول الله صلوات الله عليه؛ وهذا عندي هو ما يميّز التصوف في الإسلام عن غيره من أنواع التصوف الأخرى : مدارس كانت أو آراء.

في سبيل الحرية إذن؛ هذا اللحن الشجي الندي بذل الباذلون وسعهم وأكثر لمعرفة سر الإنسان، ولا يزال أمام الإنسان شوطاً واسع المدى كيما يتحرّر ويقف بالمجهود أمام نفسه أولاً ليعيش الفكرة في بعدها العملي التطبيقي واقعاً محققاً بالفعل.    

سألت نفسي : كيف يتمُّ التعامل مع سفهاء الآدميين ممَّن يمتلكون سلاطة اللسان وقذارة الجنان وسوءة الضمائر ونذالة الأخلاق أو ما شئت أنت أن تضيفه ممّا هو قطعاً لا يسرّك ولا يسرّ أحد تخلق بأخلاق الأحرار؟

فكانت الإجابة عندي ببساطة شديدة إنها : الحريّة !

الإنسان لا يكون إنساناً إلاّ بين الناس. نعم يُفهم من هذا، أن الإنسانيّة لا تتحقق إلا ممارسةً بين الناس؛ فالمنعزل عن الناس لا يفهم من الإنسانية سوى قشورها ولا ينفذ إلى اللباب، ولا يدرك منها إلا صورتها الخارجيّة بغير تحقيق، لكنه إذا هو انخرط مع المجموع، رأي شدة الأمر تعلو على الفاعليّة المُحققة بمقدار ما تعلو على الصبر العادي، فهو بحاجة إذ ذاك إلى أن يُقاوم كل مظاهر السلب والانحراف وعَسَفَ المظاهر والسلوكيات المقزّزة يراها بادية من غير خفاء في ترّهات المجموع.

وهذه المقاومة، تُظهر ممّا لا شك فيه معدنه وتُجلى أصالته، هل يستطيع أن يتحلّى بمجمل القيم الصامدة أم سيتخلى من فوره عند أول أزمة تقابله عرضاً في الطريق، عن كل ما يؤمن به، مبادئ وأخلاق؟

المقاومة مشروطة بالفاعليّة، والفاعليّة قدرة وحيوية واقتدار، وحركة باطنة تتحقق مع دوام المباشرة.

وبالجملة؛ فلا يكون الإنسان إنساناً إلاّ بين الناس، هو مبدأ لا يتأتّى إلا بالحريّة، بمعنى تحرير الإنسان عن كل نوازع الشر والحيوانيّة واتصاله بمصادر الإلهيّة فيه، فلن يكون إنساناً، وهو يُعطي الفرصة سانحة للأغيار أن يدفنوه حيّاً بين صراعاتهم ومكاسبهم ودحرهم للقيم الإنسانية العاملة، أو لنزوع حيواني يفعل فيه هو نفسه الأفاعيل، ويُرْديه صريعاً مع الأهواء القاتلة تغالبه ويغالبها فلا ينتصر عليها إلا بمقدار ما لديه في الغالب من حكمة : إخلاص المرء لعقله، وبذله الجهد للتفكير بنفسه، هنالك تتجلى قيم الحرية في أعلى مستوياتها، وما دونها هى الأغلال. إنها (أي الحريّة) ازدهار العقل في أنفسنا، وهى أيضا تربية وإصلاح لغيرنا؛ لأن الحريّة الشخصية لا تنفصل عن حرية الغير؛ فكما تطالب بالحرية لنفسك، فليس من حقك أن تجور على حرية الآخرين، أو تقلل من شأن هذه الحريّة لهم، وبما أن للحرية متنفّساً عاماً وإنسانيّاً، فالعبيد وحدهم هم من يضيّقونها ويذلّون الإنسان بحرمانه منها.

أوّل حادثة قتل حدثت في التاريخ الآدمي عجز معها الأخ أن يُواري سوءة أخيه كانت من أجل الحريّة، حرمان الآخرين منها، واستباحة دمائهم وأرواحهم إذا هُم طالبوا بها. ومنها حلَّ العنف محل التسامح وسقطت الحرية في ظلال العبودية السياسية، وسادت شرعية الغاب في أكثر الدول تقدماً. وقد ظل النموذج الأمريكي هو هو النموذج “البطل” الذي نعتبره حَسَناً كما نعتبره أساس القيم. ولكن التاريخ يقول لك إن التحريض باسم الدين كله كان في الغرب : التاريخ الأوروبي الأمريكي الشمالي – على الرغم من اعتناق المسيحيّة – ليـس إلا تـاريـخ الـغـزو والأبـَّهـة والتكبر والجشع. وأعظم قيمنا – كما قال عظمائهم – هى أن نكون أقوى من الآخرين، وأن نغزوهم ونقهرهم ونستغلهم. وهذه القيم تتطابق مع المثل الأعلى “للرجولة”. فليس رجلاً إلّا من كان قادراً على القتال والغزو والقهر. وأي شخص غـيـر قـادر على استخدام العنف إنْ هو إلا شخص ضعيف؛ أي “ليس رجلاً”.

لسنا بحاجة إلى إثبات أن تاريخ أوروبـا هـو تـاريـخ لـلـغـزو والاسـتـغـلال والقوة والإخضاع والقهر. لا تكاد توجد فترة أو مرحلة من التاريخ الأوروبي إلا كانت هذه سماتها. ولا يستثنى من ذلك طبقة ولا جنس. لا توجد جريمة إلا ارتكبت؛ بما في ذلك عمليات الإبادة الجماعية لشعوب بأسرها مثل ما حدث للهنود الحمر. حتى الحروب الصليبية التي جعلت من الدين سـتـاراً لها لم تكن استثناءاً.

فهل كان الدافع لهذا السلوك اقـتـصـاديـاً أو سـيـاسـيـاً فحسب؟ هل كان تجار العبيد وحكام الهند وقتلة الهنود الحمر والبريطانيون الذين أجبروا الصينيين على فتح أبواب بلادهم لتـجـارة الأفـيـون ومـثـيـرو حربين عالميتين، وأولئك الذين يحضِّرون لحرب عالمية ثالـثـة … هـل هـؤلاء مسيحيون مؤمنون حقاً ؟! هل يُقاس القتل في تاريخ الإسلام بمثل هذا التاريخ الدموي قديماً وحديثاً ؟!

أمّا قديماً فعرفناه .. وأمّا حديثاً فلن يتجاهله سوى مخبول : الإرهاب صناعة أمريكية في الأساس هدفه تحقيق المصلحة بقتل العالم الثالث, والعرب خصوصاً؛ بسبب مصالحهم التي لا تنتهي، وإنْ كان هناك إرهاب باسم الدين فهو أيضاً صناعتهم : فن ذبح حرية الآخر واستعباده.

فقتل ما يقرب من مليون عراقي هو صناعة أمريكية، وقتل الفلسطينيين وذبحهم والتنكيل بهم وتشريدهم هو صناعة أمريكية إسرائيلية بسلاح أمريكي ومعونة أمريكية؛ ودعم المجاهدين الأفغان باسم الدين هو صناعة أمريكية؛ ودعم مجاهدي العراق والجزائر وليبيا وسوريا من خلال عملائهم في الوطن العربي مثل الخليج العربي والأردن لنقتل أنفسنا باسم الدين وإشعال الفتن الطائفية هو مصلحة لهم صناعة أمريكية؛ وحرب العراق وإيران من قبل كانت أيضاً مصلحة لهم، وأخيراً عصابة داعش التي هى صناعة أمريكية بامتياز، ثم ماذا؟ ألم يقتل الأمريكان أبرياء بسب استعمارهم للدول والشعوب : الهنود الحمر أصحاب أمريكا الأصليين، وقنبلة هيروشيما، وحربهم على دولة ضعيفة مثل فيتنام وقتل ثلاثة مليون شخص، وحرب كوريا الشمالية، وقتل ثلاثة مليون آخرين.

من ذا الذي صنع الإرهاب واغتال الحرية؟ العرب والمسلمون هم الذين صنعوا الإرهاب والقتل والتشريد أم أمريكا والغرب؟!

الغرب الذي جعلنا متخلفين ووقف ينظر إلينا ضاحكاً على تخلفنا : ألا توجد مسكة من إنصاف عند من يلعق على الدوام قاذورات الغرب؟ وكم من عملية إرهابية في الخليج والأردن ومصر وسيناء أيضا كانت، وربما لا زالت، تلعب ذات الدور القذر لصالح المستعمرين؟ هل هناك أخلاق فرضتها الحريّة لأكبر الدول غير ما فرضت من أخلاق العبيد؟

وكما يكون للأحرار أخلاق، كذلك يكون للعبيد أخلاق : أخلاق العبيد هى التنازع والشقاء والانقسام والاستقتال والتشريد وسفك الدماء وإرهاب البشرية تحت مطالب كلها، كلها، ترابيّة.

وأخلاق الأحرار هى التسامح والمحبة والمشاركة الوجدانية، والتعاطف، والتسامي فوق الزائل الفاني، والعروج صعداً لكشف حقيقة البذرة الإنسانية.

فمن فقد هذه الأخلاق فقد معالم الإنسانيّة بكل ما يُقرب إليها من نسب أو صلة. إذا كان الإنسان لا يكون إنساناً إلاّ بين الناس، فلا يصحّ أن يكون له من غرض سوى تكمّلها النفسي، أو بعبارة أخرى : تكميل الإنسانية في نفسه، وفي غيره من الناس.فالحريّة التي يتخذها مستنداً له تنعكس بالإيجاب على تكميله النفسي ثم تكميل الآخرين كذلك؛ لتعكس كمالاً في مستوى القيم لديه فيما لو صدقت النيّة وصحّ العزم وتمّ، من ثمّ، طريق التحرير.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *