Share Button

✍️⁩ سيــف ســـالم
أمهاتنا ياصاحبي ، لم يعرفن العطور الباريسية الفخمة المدججة برحيق الكارديينا واللوتس المجفف على عتبات نهر الرين ، ولم يعرفن ايضا حفاظات الأطفال، كان ذلك مثل جميع نساء البلد ياسادتي ، لقد نجحن في نشأتنا الفارهة من بين الصخور الحافة التي تأكل من أصابعهن حين يصعدن الجبل لجمع الحلفاء ،وتلوى أيديهن على ” بزيم ” وهو عود من الرتم اشتد سمكه قادر على الفتك بجذور الحلفاء واقتلاعها بمجرد النزول على جسده بشكل نصف دائري حتى يكون “غمر الحلفاء” مجمعا في اليد التي تمتلئ بجرف مشقق تروي عصور الدهر ومعارك مع الحياة تحت عنوان البقاء الأقوى في الدهر .

الامهات ياصاحبي ، في ربوعنا اعتدنا على” الفزع و العرافة” عند المصاب الجلل أو عند افراح القرية ، مثل خلية النحل الواحدة تكمل عمل الاخرى دون كلل أو ملل ياسادة ، هن اللاتي عند موسم الجز للغنم ، يجمعن الصوف ثم يخترن يوما لتنظيفه وتكون ذلك في موعد “التويزة” عند مكان يكثر فيه الماء ،كان هناك حنفية واحدة يجتمع حولها النسوة وهي حنفية عمومية تزود الجميع بالماء عن طريق قنينات بلاستيكية ذات سعة 20 لتر ، كانت التويزة هي مبعث فرح النسوة حيث يتبادلن الحديث و يواصلن عملهن في تنظيف الصوف ثم تجهيز الغزل يكون دائما من الخشب “المغزل” الذي يقع جره على الساق لجعله ناعم الملمس ثم عند الانتهاء من ذلك ، تنتظر النسوة يوم السوق الاسبوعية الذهاب باكرا لبيع بعض من فراخ الدجاج و “صبغ الصوف” عند رجل يدعى “الصباغ” ببعض مليمات أو في المقابل بعض من ذلك الصوف الجاهز . كانت الامهات ماهرات في حياكة الأغطية المنزلية المصنوعة من صوف الشياه المحلية والمرقونة بروح الصخاب ، كان معظم الامتهان هو نسج” المرڨوم ” الذي يتوسط مجمع الأماكن الموجودة الآن في قصر الزرابي أو تلك البيوت الموجودة في النزل السياحية . كان يشتركن امهاتنا في رائحة الصخاب المعطر ورائحة الحناء التي تملئ الكعب المشقق من شقاء الدهر الماكر . تلك العطور لم ترى الى الآن عطورا قد فازت بمكانتها لدى امهاتنا ، فهن لم يعرفن العطور اللاتي وضعت على أجساد مونيكا بلوتشي وانجيليا جولي ولا غيرهن من النساء . كان العامل المشترك بين نسوة البلد هي تلك الأهازيج العالية التي تمتزج بنداء غائب كابن سافر منذ فترة أو لوم ولطم للذات على اللاتي اخترن مصيرهن بين جدران البيت خلف اوتاد “السداية” وكانت رائحة الخبز الساخن الذي يجدن أمهاتنا اعداده عن طيب وفلح في “الطابونة”.
أمهاتنا فيهن من لم تدرس يوما أو انقطعت مبكرا عن الدراسة ، لكنهن كان لديهن اصرارا كبيرا على الدراسة لابنائهن بعمق ، كان امهاتنا ياصاحبي يردن منا ان نكون في أسمى المراكز كمجال الطب أو الهندسة . انهن الأمهات الشامخات ياصاحبي ، كان دعاء الأمهات يملئ جو السماء عند كل فجر حين كان الأبناء ينطلقن للسفر أو نيل العلم في معاهد كانت قد اختيرت بعناية من منظومة جعلت منا حقدا دفينا نحوها لأنها قد نشرت المفاضلة بين المجتمع . الأمهات ياصاحبي، فيهن من لم تعرف ألا عام الجراد ، وهو لديهن تقويم الذاكرة كجزء من التاريخ،او سنة الجفاف التي راح فيها ضحية كل الشاة التي كانت عماد العائلة في التزود بالمال .

انهن الأمهات ياصاحبي اللاتي يحفرن في الجسد ثقبا يبقى طيلة الحياة فينا ، كلما شعرنا بالضغف إلا وذهبنا الى ذلك الركن حتى نتزود بالقوة لمواصلة مواجهة الحياة ياسادة ، نحن اللذين أنجبتنا أمهاتنا في المطابخ والغرف التي بنيت نتاج تجربة التعاضد ، نحن الذين نحتت فينا أمهاتنا مراسم الفتوة والرقي دون أن يدرسن درويش أو ديستوفوسكي .

انهن الأمهات ياصاحبي …

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *