Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

الإيمان في منحى من مناحيه إنْ هو إلا “تقدير” في الذات المؤمنة، وامتياز في الذات العارفة : هو تقدير لها يرتد إلى القدرة؛ فمن امتياز الذات العارفة واقتدارها أن تترقى بالقدرة لتصل إلى الإيمان لتنال التقدير.
وما القدرة في البداية إلا جهد الكسب، وما التقدير في النهاية إلا توفيق الوهب. وليس للقلب البشري إلا أن يتوتر بين الجهد المكسوب والوهب الذي يأتي من عين الجود. فمثل هذا التوتر هو عينه “التجربة الروحية” : الارتقاء في تحصيل الإيمان بفعل “القدرة”، أي بفاعلية المجاهدة والمكابدة، والممارسة العملية، والمعايشة الحياتية لأصول الدين وفروعه، ولآدابه وقوانينه، ثم الانتظار والترقب لفيوض التقدير : والتقدير معرفة، واتصال، وفناء في الذات الإلهية مما ينفتح في سر القلب من جَرَّاء الاتصال بالغيب : هو إنْ شئت قلت : الوَهْب اللَّدُنِّي والتوفيق الإلهي.
ولما كان الإيمان تقديراً وقدرة؛ لأنه اقتدار، صار تعبيراً عن قدرة الإنسان التي لا تحد، وتجسيداً لإرادته التي لا تنازع؛ لأن الإيمان في جميع مستوياته التي يحد الإيمان بها إنْ في مجال الفكر أو القلب، وإنْ في ميدان العمل العقلي أو الذوق الوجداني؛ إنما هو اقتدار يتشكل في إطار فكري نظري أولاً ليُعرف، ثم يُذَاقُ بالتجربة بعد المعرفة كيما يُمارس. وبالإطار الفكري النظري قد يستولي من الظاهر ليكون قشرةً سطحيةً على تقدير الناس في أول مقام.
فالعقلُ وحده بمعزل عن الإيمان ليس كفيلاً ولا كافياً أن يعطيك تصوِّراً صادقاً أو صحيحاً عن العقيدة الإيمانية فيما لو كانت على استقرار الرسوخ والتمكين؛ أو هو قد يعطيك عقيدة فكرية بحتة لا شأن لها بتعقُّل الإيمان إلا من خارج. والإيمانُ شعورُ وفهمُ واستدلالُ – كما يذهب القديس أنْسِلم – شأنه في ذلك شأن القديس أوغسطين الذي نادي بـ “تعقل الإيمان”؛ لأن الإيمان يُوَلِّدُ في النفس المحبة، ومن خصائص المَحَبة أن تدفع إلى استعجال الرؤية الآجلة بالاستدلال.
كان “كانط” يقول :” إنّ الدين هو شعور بالأمر الإلهي، وليس بواسطة العقل؛ إذْ العقل عنده لا يوافق حقيقة الأشياء. وعلى ذلك يكون الدين بهذا المعنى شعوراً إلهامياً محضاً. فالإيمانُ من ثمَّ شرطُ التَّعقل؛ وقد قال”أشعيا” : “إنْ لم تؤمنوا فلن تفهموا “؛ فالذي لا يؤمن لا يشعر بموضوع الإيمان؛ والذي لا يشعر لا يفهم. والشعور بالإيمان يفوق مُجَرَّد سماع الحديث عنه، والتَّعُقُّل وسط بين الإيمان في الحياة الدنيا، ومعاينة الله في الآخرة؛ هو اقتراب من علم الله.
إنما العقل المحدود المفصولُ بالكلية عن شعور الإيمان الديني العميق، والمعزولُ عن فهم دخائله ومراقبة خلجاته وطواياه، لا يَمَسُّ الحقيقة الدينية في شيء؛ فعقيدتُه محضُ فكر خارجي يُصلح للعلم والتفكير المحسوس : يصلح للصخور والمعادن والأحجار وري الأرض وحفر المجاري ومدِّ القنوات ونقل المزابل؛ ولا يُصْلح لتأمل الحقيقة الإلهية.
هنالك فرقٌ؛ وفرقٌ كبير؛ بين العقل المُروَّض على التعامل مع الحقيقة الإلهية، والتي موضعها القلب إيماناً، ومُدْركُها الفكرُ تعقُّلاً وعرفاناً؛ وبين العقل العابث المخلوط بأهواء صاحبه، إنْ هو أدرك فلا يدرك إلا الهوى، وإنْ هو أصاب فلا يصيب إلا الدَّنِيَّة من الدين والدنيا على السواء.
هذا العقل المغموس بعكارة النفس الملوَّثة إذا تَعَرَّض للإيمان أفسد معانيه. إنه فريد الدين العطار؛ الشاعر الصوفي الفارسي البديع هو الذي صور عجز العقل (باعتباره ملكة الاستدلال) عن إدراك الحقيقة الإلهية تصويراً يفوق الروعة ويعلو على خيال الملهمين؛ وذلك حين قال :” ذهبنا وراء عالم العقل والفهم، العقل لا يُجدي عليك، إنما يأتي بما يأتي به غربالٌ من بئر، إنما يحاول العقل أن يدرك هذا العالم، ولكن هذا العقل الذي يفقد نفسه بجرعة من الخمر لا يقوى على المعرفة الإلهية. العقل أجبن من أن يرفع الحجاب ويسيرُ قدماً إلى الحبيب.
ولن يكون هذا الإيمان مُحَدَّداً بكيفية معينة ما لم يتم تحديده (داخلياً) على طريقة ذات معنى يتلازم مع الكينونة البشرية، يمكن للفرد أن يتهيأ له ويستعد، أو بعبارة أخرى؛ لن يكون الإيمان سوى مجرَّد فورة باطنية ما لم يُكيّفه صاحبه في مستوى التوجه؛ وتكييفهُ شوقٌ دائمٌ إلى الحقيقة الإلهية، وإلحاح إدراك للغيب المجهول، ومحاولة استكناة خفاياه. ولن يتاح لفرد – كائناً ما كان – أن يتذوق في قلبه حلاوة الإيمان، وهو – من بعدُ – لم ينفرد في نفسه بتلك “الصفة” – صفة العارف – المطروحة في أعمق أعماقه الداخلية، والمبطونة في أصدق دخائله الوجدانية والشعورية، وهو معزول في نفسه عن نزوع الشوق الغالب لمعرفة الحقيقة الإلهية حتى ولو توافرت فيه أجل الصفات وأعظمها، وحتى ولو أنفرد بصفات ظن أن هذه “الصفة” على التحديد دونها.
فليس له من مطمع، من بعدٌ؛ أن يتذوق طعم الإيمان ولم تغالبه نفسه إذْ ذَاكَ إلى الشوق الدائم لمعرفة الغيب المجهول.
تلك الصفة المبطونة داخل كل فرد من أفراد البشر، وهذه الصفة المطمورة في الأغوار الجُوَّانيَّة هى عندي “صفة العارف”، ففي كل إنسان نورٌ عرفاني يسري في كيانه فيما لو تحرَّر فعلاً هذا الكيان، يستمد أشكالاً وألواناً عديدة حين يظهر، تندرج هذه الصفة في الوعي بكل جميل وبكل جليل وبكل ذي قيمة : الوعي بكل تقدم وترقِّ وقوة ومنعة، الوعي بالطموح الغالب على الأفراد والأفذاذ، عندما يريد أحدهم أن يحقق قيمة ما من القيم الوجودية الباقية، الوعي على الجملة بمجمل القيم في هذه الحياة الدنيا، بكل بما فيها ومَنْ فيها.
لاحظ أن الوعي قدرة فاعلة وهو اقتدار أيضاً.
إن فكرة الوعي الفردي ذاتها تنبثق من “صفة العارف” حين تظهر، لا بل كل قيمة من القيم، وكل فضيلة من الفضائل، وكل إبداع ثقافي أو خَلْق أدبي أو فكري أو حضاري، كل إبداع فني أو كشف علمي، مهما كان شكله أو جنسه أو لونه، كل إبداع على التعميم إنما هو لون باطني خفي من ألوان”صفة العارف” هذه، سواء أُدْركَ أم لم يُدْرك؛ لأنه نشاط روحي ولون من ألوان الوعي الفردي. والوعي جزء غائر دفين في تلك الصفة العرفانية، هو منها في صميم الصميم.
ولما كانت هذه الصفة يتشكل منها قيم الوجود الروحي في الإنسان، صارت على وجه العموم هى الأصل الذي يستمد منه الوعي الإنساني جذره المتجذر في الأغوار النابتة منه فروع، أشكال هى وألوان، يستمد منه الوعي الإنساني مدده فيتوجه وجهات في الحياة مختلفة، شأنه في ذلك شأن المنبع تتفرع عنه جداول، كل جدول منها يقوى ويشتد بمقدار قوة استمداده من ذلك النبع؛ فهنالك جدول للأدب، وآخر للعلم وثالث للفن ورابع للفكر وخامس للإبداع الثقافي على التعميم.
وهكذا، وهكذا إلى آخر الفروع المختلفة للنشاط الإنساني؛ تستمد منابعها من أصل المنبع : الوعي الغائر الباطن المطمور في جوف العرفان.
إذا كانت هذه الصفة ظاهرةً جليةً قامت بتنشيط الوعي كله في جوهر الإنسان وباطنه. أما حين تكون خفيّة مطمورة تتوارى تحت كثافة الظلمانية الغليظة؛ فليس يظهر منها نور قط يشع على الإنسانية بجديد؛ فالأدب هاهنا تقليد ومحاكاة وإتباع، والفكر عقيم وبليد وفقير، والعلم مادة كثيفة صماء، إذا أنفرد بالسبق وحده يقضي على القيم الإنسانية إذا لم يكن يقضي على الإنسان في جملته وتفاصيله : على حيويته الرُّوحيّة، ويهدد قناعاته الخلقية، ويفجعه بشؤم المصير.
وتاريخ الاستخدام الخاطئ لمنجزات العلم والتكنولوجيا تكشف عن تحدي الإنسان لإنسانيته، وتقضي على الأخلاق من حيث يظن بها توفير الوقت والجهد، ما لم يكن هاهنا وعي من الرقابة الباطنة : رقابة الضمير والخلق الروحي المتين.
والأمر الذي يجعل الوعي غائباً لا نمو فيه ولا تطور، ولا تقدم يُرْجى من ورائه؛ هو انطماس “صفة العارف” وتواريها تحت كثافة الظلمانية الخبيثة المدمرة. على حين أن قهر تلك الظلمانية بأساليب من المقاومة والمجاهدة والمكابدة واعتياد الرياضات الروحية ينمِّى الفردية على قدرة التوجه إلى أعلى والاتصال بمطالب الروح، كما يُقْدِرها على الاستقلال الفكري والروحي، ويهبها تحرر الكيان الآدمي فيتحرَّر بمقتضاه جميع لواحقه وفروعه؛ فيقتدر الإنسان على الخَلْق الفكري والأدبي أو على سائر أنشطته الحيوية، بمقدار ما يُقْدِر الوعي فيه بالبروز والجلاء والظهور.
والإيمان هو الأساس لترقي صفة العارف ولتأسيس مشكاة النور العرفاني في بواطنه وخوافيه : الإيمان القلبي الذي هو الأصل والمصدر لكل نشاط واعي، بغيره تضيع جميع المحاولات الحياتية الجادة والنافعة، وبغيره يمكنك أن تصف تلك المحاولات في غير تردد بالعبث واللهو والفراغ العقلي والفكري وضياع الوقت والجهد فيما لا ينفع ولا يفيد.
ونسوق هنا من “نوادر الأولياء” حادثة دَوَّنَها الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي ونقلها عنه شيوخ الطريق من شُرَّاح ومفسرين؛ شواهد ممَّا يستملح ويستظرف في “كرامة الإيمان” الذي لا ينبغي أن يُخَالط بمعصية.
قال ابن عربي: ” دَعَانا بعض الفقراء إلى وليمة بزقاق القناديل بمصر، فأجتمع بها جماعة من المشايخ، فَقُدّم الطعام، وعمَّروا الأوعية، وهناك وعاء زجاج قد أتخذ للبول ولم يستعمل فقرَّب فيه ربُّ المنزل الطعام فالجماعة يأكلون، وإذا الوعاء يقول : مذ أكرمني الله بأكل هؤلاء السادة مني لا أرضى لنفسي أن أكون بعد ذلك اليوم محلاً للأذى ثم أنكسر نصفين. فقال ابن عربي : فقلت للجميع أسمعتم ما قال الوعاء؟!
فقالوا : نعم. قال فقلت : وما سمعتم!!
فأعادوا القول الذي تقدَّم.
قال، فقلت : قال قولاً غير ذلك. قالوا : وما هو؟ قلت : قال كذلك قلوبكم قد أكرمها الله بالإيمان، فلا ترضوا بعد ذلك أن تكون محلاً لنجاسة المعصية وحُبّ الدنيا؛ جعلنا الله وإياكم من أولى الفهم عنه والتلقن منه “.
تلك صفة العارف أن ينطق عنك وأنت ساكت، وهذه هى صفة العارفين أن يدفعوا عن الإيمان كل لوثة من كدورات الدنيا وكل معصية تلحق بصفائه ونقائه. الإيمان شرط كل ما تقدَّم في الصفة العرفانية؛ لأنه أولاً شرط الحقيقة الأصلية في الإنسان : روحه وجوهره وفطرته وتصافيه؛ ولأنه ثانياً يخرق حُجُب الغفلة ويفعِّل فواتح الضمير، بمقدار ما يهيئ العقول والقلوب إلى اليقظة التي لا غفلة فيها، ونحن إذا قلنا “يقظة” فقد قلنا في الوقت نفسه “وعياً”؛ وأحطنا الوعي في قولنا بالتنبُّه الشديد والإدراك العالي لسائر ألوان النشاط الإنساني تفعيلاَ لهذا النشاط؛ كيما يدرك الحقائق الوجودية والمعرفية، ولا يغفل أو يتغافل عنها بوجه من الوجوه.
إنما الحقائق الوجودية والمعرفية “قيم”: قيمٌ لا مناص لها من أن تتفَعَّل في الضمائر وتستوطنها من الباطن لتفعل في صاحبها أفاعيل الحركة الناشطة بوجوب التحقيق والتطبيق، وتتردد على العقول والقلوب فتدركها أحياناً حتى لكأنها تقبض على هذا الإدراك قبض الظافر الغانم، وفي تلك الحالة يكون الوعي ايجابياً فاعلاً في أقصى حالات نشاطه.
أما حين تتجاهلها أو تغفلها فلا تدرك منها شيئاً، ولا تريد أن تدرك مع التجاهل ومع الغفلة شيئاً؛ فهنا تنطمس بصيرة الوعي حتى لكأن الإنسان في هذه الحالة يُشْبه الحيوان في النكوص والتردي، بل وفي الخيبة والخذلان.
بقلم : د. مجدي إبراهيم
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *