Share Button

بقلم : د. عصمت نصَّار

 

لم يعبّر صرير قلم “محمد فريد وجدي” الناقض عن صوت صاحبه فحسب بل كان يحمل أيضاً موقف لجنة الفتوى وغضبها وثورت عشرات الأقلام الأزهرية الساخطة على الكتاب ومؤلفه؛ الأمر الذي دفع “وجدي” للوقوف موقفاً لا يخلو من الحدّة والتبكيت والرفض والشجب في مواجهة الكثير من إجتراءات “خالد محمد خالد” التي أوردها في كتابه على شيوخ الأزهر وبعض المفاهيم الخاطئة والأحكام الجائرة التي عبّر عنها المؤلف في فصول كتابه التي أحدثت ضجة وصخب وقلق في كل الأوساط الثقافية المصرية بخاصة والعربية الإسلامية بعامة. ويرجع ذلك إلى أن “وجدي” كان يحرر مجلة تنطق باسم مؤسسة الأزهر، ومن ثم فالمسئولية تقتضي التعبير عن صوت ذلك المنبر وليس رأيه الخاص.  

لذا وجدنا “وجدي” يستهل مقالته الأولى بشرح الملابسات التي أحاطت بالكتاب وصاحبه فذهب إلى أن كتاب (من هنا نبدأ) قد أحيلا للقضاء بموجب أتهام الأزهر لمحتواه بتهمة أنه لا يخلو من الإجتراء على شيوخه وعلى ثوابت العقيدة؛ فلم تجد المحكمة مُسوّغ في مصادرته ومنع انتشاره؛ الأمر الذي دفع وجدي بقراءة الكتاب بإمعان ورويّة. وذلك بعد انتشاره وذيوع ما به من أفكار. فبيّن “وجدي” أن المؤلف قد خاض في أمور أكبر وأوسع من معارفه ومدركاته والأمر الذي استوجب مراجعة القضايا التي أثارها ونقد ما أنتهى إليه.

ويقول في ذلك : (وجدنا مؤلفه الفاضل فضيلة الشيخ خالد محمد خالد خريج كلية أصول الدين، قد خاض بحراً لا ساحل له في فلسفة الدين، وفلسفة الاجتماع أداه إلى وجهات نظر تحتاج تمحيص دقيق، وتحليل محكم؛ لأنه بعد أن منحته واقعة المصادرة هذه الدرجة من الذيوع يجب أن ينال حقه في النقد. لا سيما قد عالج أعظم المسائل خطورة، وهي الدين، والاجتماع، وتوزيع الثروة العامة، ولا توجد مجلة من اختصاصها هذه المسائل أجدر من مجلة الأزهر بنقده … قد وضعنا كتاباً ناقشنا فيه فضيلة الأستاذ مناقشة علمية، الغرض منه الوصول إلى الحقيقة لا إثارة المهاترة، وعرقلة المساعي التي تبذل للإصلاح والتكامل، وقد سلمناه للمطبعة على أن لا تذيعه إلا بعد أن يتم نشره في هذه المجلة).

ويتضح من السطور الأولى لهذه المساجلة انتصار وجدي” للمؤسسة الأزهرية باعتبارها السلطة المنوطة بمناقشة قضايا الدين والاجتماع دون غيرها، وحجره في الوقت نفسه على حرية المؤلف والطعن في قدرته على الاجتهاد مع اعترافه بأنه تخرّج في كلية أصول الدين وذلك يؤكد أن “وجدي” في هذا السياق لم يلتزم الحيدة ولم يدافع عن حرية الفكر كعادته في معظم مساجلاته، فنألفه يتهكم على حديث المؤلف عن ذلك الحق – أي في البوح والاجتهاد – باعتباره البداية الحقيقة لأي نهضة مرجوّة، وأكد “وجدي” أن الحرية غير المسئولة تؤدي حتماً إلى الفوضى؛ فالمجتمع يحتاج دوماً لمن يرشده ويبصره لطريق الرشاد والإصلاح ولعله قد قصد بذلك القول إن الأزهر هو الذي يمتلك تلك الأليات أي الحرية الاجتهاد والسلطة التوجيه.

وها هي كلمات “خالد محمد خالد” ثم نليها برد وجدي عليها : (انتهت التجارب إلى إجماع أكيد على أن : الاستبداد هو الأب الشرعي للمقاومة. وأن الرأي المكظوم يتحول داخل النفس إلى قذيفة خطرة وأن أيسر الطرق لحضارة خصيبة ممرعة، هو فتح منافذ الملاحة الفكرية، والقضاء على كل بواعث التهيب في الشعب. [وقديماً قال الفيلسوف الأمريكي توماس بين (1737م – 1809م): حين يطرق الرقي باب أمة من الأمم يسأل: أهنا فكر حر؟ فإن وجد دخل .. وإلا مضى] هذه حقيقة أولى.  

وهناك حقيقة أخرى تقابلها : هي أن الشعب إذا أساء استعمال حريته، ومارس حقه فيها ممارسة طاغية؛ فقد وقع وثيقة عبوديته، وأتاح للحكومة فرصة وضعة تحت الوصاية من جديد. وجدير بنا ونحن في مبتكر طور حديث من أطوار نمونا، وفي مؤتنف وثبة نحاول بها اللحاق بموكب الإنسانية الناهضة، أن ندخل هاتين الحقيقتين في حسابنا وننتفع بكل ما فيهما من معان ودلالات).

وعقب “وجدي” بلسان المحافظين قائلاً: ( وعي الأفراد يحتاج لتوجيهات من الآباء والمعلمين، هو كذلك لدى الجماعات في حاجة ماسّة إلى هداة ومرشدين؛ فإن أعوزوا أرتد هذا الوعي كارثة عليهم، وانقلب بحكم التطور إلى اندفاع لا يقف في عنفه عند حد … ومن العجيب أن المؤلف ينصح – والحال كما ترى – بمنحها الحرية ويعظها بالتحرر من الخوف أيضاً.  إن الخروج على الآداب المتفق عليها في هذا الدور الذي نحن فيه، ويسميه الأستاذ وعياً، ويطلب له من المزيد من الحرية، وقد بلغ إلى حد لا يمكن أن تقبله أو تطيقه أمة لها أمل في البقاء).

وأعتقد ان الحوار على هذا النحو لا يحتاج إلى تعليق؛ فقد لبس “وجدي” عباءة المعلم وأمسك بيده عصاة السلطة وأجلس مناظره في موضع تلميذه الذي لا حق له في البوح أو الاعتراض أو التعبير عن رأيه بمنأى عن سلطة الأستاذ. فقد حمّل “وجدي” عبارات “خالد محمد خالد” أكثر ممّا تحتمل، وتغافل عن حرصه على العقلانية في طلب الحرية، وتجنّب الفوضى في ممارستها وها هو خالد يقول: (إن هذا الكتاب شمعة مهداه إلى الأمة؛ لتبصر في ضوئها وترى، وكل ما نود أن ننصح به هو أن نبارك هذا الوعي، وندعه ينمو ويتسلق، وألا نحاول قط كبحه أو زجره .. فإن ذلك هو سبيل كل السبيل إلى خلق المجتمع الحرّ الباسل الذي نريد أن نكونه. قد تصيب مرة وتخطئ مرات .. وتهتدي تارة وتزل تارات ولكنها أخيراً سوف تضع أقدامها على صراط الحقيقة والصواب، وتسير فوقه بخطى ثابتة أكيدة نحو أهدافها العادلة غير مخلة بواجب ولا مفرطة في حق).

واعتقد أن حديث “خالد محمد خالد” في هذا السياق لا يختلف عما نسمعه الآن في كتابات صادق جلال العظم (1934م – 2016م) أو محمد عابد الجابري (1935م -2010م) أو حسن حنفي (1935م – ….)، ولا سيما الثورة على الموروث وسلطة المحافظين الذين يخشون على الأصول والمبادئ والقيم من عبث الجمهور باسم الحرية. ومع ذلك؛ فأنني لا أقطع بأن مقصد “خالد” من ثورته على المألوف هو النزوع إلى الفوضى أو تقليد الغرب أو الاحتكام إلى التجربة العملية بمنأى عن الثوابت الشرعية.

ويبدو لي أن “وجدي” كان متحاملاً على مناظره في هذا الموضع. ويواصل “وجدي” شكه واستنكاره لما دعا إليه مناظره لأقامت عدالة اجتماعية في ظل الاشتراكية موضحاً أن “خالد” كان مسرفاً في الخيال وراغباً عن قراءة الواقع الذي تعيشه الممالك المتقدّمة؛ فالاشتراكية أو الماركسية في نظر “وجدي” لا تعدو أن تكون في أروبا مجرد أحزاب لا ينتمي إليها الأغلبية وأنه من العسير تطبيق نظام الاشتراكية الإنجليزية في الممالك التي تقوم نظمها على الرأسمالية إلا إذا استحال الرأي العام القائد إلى نظام آخر في المستقبل وتهيئت المجتمعات لقبول تلك الفلسفة الحالمة بالعدالة والمساواة.

ويقول : (يجوز أن تصبح الاشتراكية في عهد من العهود المستقبلة مذهب الناس أجمعين، ولكن ذلك لن يكون إلا إذا بلغ الناس حداً من التعاطف الإنساني، والترابط الأخوي، ومن عدم الأنانية، والتنزه عن الذاتية، بحيث تنعدم في نظرهم الفوارق الشخصية. وهذا، إن لم يكن مُحالاً؛ فلن يكون إلا بعد أدوار عديدة من التطور العقلي والنفسي لا يمكن أن نتخيله تخيلاً؛ لأنه لا يوجد في هذا العالم بعد بلوغ الثقافة إلى هذا الحد الذي وصلت إليه اليوم ما يدل عليه).

وللحديث بقيّة)

بقلم: د. عصمت نصار

 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *