Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 إشارات الصوفية في رؤية الله سبحانه مُعَمَّقة ليست بالسطحية، معدنها الذوق ومسلكها الشهود ومصدرها المعيّة بغير نزاع، منها إشارة أبي الحسن النوري :”حَرَّم الله الرؤية بعين الرؤية”؛ وهى إشارة  تقطع بعدم رؤية الله بجارحة العين وتعطي من الوهلة الأولى تَصوّر الصوفية للرؤية الإلهية أنها مستحيلة في الدنيا على الرغم من أن هنالك إشارات غيرها توحي برؤية الله في الدنيا غير أنها رؤية قلبيّة شهودية تتسق ومسلك الصوفية في الكشف والشهود.

 والنوري قرين الجنيد وهو يدين في مسألة الرؤية بما يدين به الجنيد، وعندهما (النوري والجنيد) أن الرؤية لا تكون في الدنيا إلا بالقلب وليس للعبد حظ من رؤية الله في الدنيا سوى ما يقرّبه من لطفه وعنايته وتأييده ونصرته وحفظه. أما أن يراه بجارحة فلا :” حَرَّم الله الرؤية بعين الرؤية ” كما قال النوري.

وكل ما يُقرِّب العبد من الرَّب في مثل هذه المسائل الدقيقة كالرؤية والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة والمعرفة الإلهية واللدنيَّة مَعْنَاهُ لدى القوم وبخاصّة لدى النوري والجنيد هو اللطف الإلهي، والتأييد، والتوفيق، والنصرة؛ فلا يعرف الله على الحقيقة إلا الله.

ومادامت معرفته على الحقيقة مستحيلة إذْ لا يعرفه سواه لأنه محجوب بالعزة رغم قربه بالعطف؛ فرؤيته على الحقيقة كذلك من أمحل المحالات. فلئن كان قريباً من عبده بالعطف والنصرة والتأييد وكل صفات الجمال وتجلياتها فهو محجوب بالعزة وممنوع بحجاب القهر والقدرة وسائر صفات الجلال عن أن يشهده شاهد ببصر محدود أو يراه رائي بجارحة محسوسة.

هذا هو القانون الذي يسير عليه مسلك التشريع، ولكن مع هذا فقد نجد من الصوفية من يجوِّز رؤية الله في الدنيا؛ ولكن بالشهود القلبي وبالكشف الذوقي وببصيرة الذوق والإيمان. ولقد كانت هنالك مساجلات بين السّري السقطي والجنيد تدور كلها حول مسألة الرؤية القلبية والشهود المباشر سطرها الهجويري عنهما في صفحتين من كشف المحجوب, وطالعنا الجنيد بشيء منها في إشاراته المُلغزة في كتاب الفناء؛ وكتاب الميثاق. وتتلون أحوالهم في مرائي الشهود وتجارب الكشف حتى قال الغزالي ناقلاً عن أحدهم في مشكاة الأنوار :” وأرباب البَصائر ما رأوا شيئاً إلا رأوا الله معه. وربما زاد بعضهم فقال : ما رأيت شيئاً إلا رأيتُ الله قبله؛ لأن منهم من يرى الأشياء به، ومنهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء”.

وعليه؛ يمكننا أن نستخرج من نصّ الغزالي معنى الوحدة؛ فإن الذي يرى الأشياء فيرى الله قبلها فمشهده في وحدة شهود. أما الذي يرى الأشياء فيراه بالأشياء فذلك مشهد وحدة الوجود وهو مشهد كُمَّل العارفين؛ فمثل هذا الشهود هو مسلك التحقيق : الرؤية فيه رؤية قلبية ببصر السَّر, والشهود فيه لا يعتد بجارحة ولا يعترف بعين الرؤية ولا يطمح إلي شيء من تلك الظواهر البادية لكل ما يناله الحس. ومن هنا؛ يجب أن تُفَسَّر إشارات العارفين في مثل قول الرَّوْذَباريِّ: ” لو زالَ عنا رؤيته ما عبدناه”؛ فالمقصود فيها هو الرؤية القلبية والشهود المباشر بالبصيرة الإيمانية؛ وليس هنالك من تأويل قد يفسدها فيخرجها عن حظيرة الذوق والرؤية الشهودية إلى مظان التقوّل والتخريج البليد.

كان أبو يزيد البسطامي يقول :” إنّ لله عباداً لو حُجِبُوا عن الله في الدنيا والآخرة طرْفة عين لارتدوا”.

 وليس معنى الردَّة في إشارة أبي يزيد ردّة بالمفهوم الشرعي المعروف، ولكن معناها ردة في قانون الطريق، أي : لارتدوا عن مراتب الشهود ودرجات التقريب، فهؤلاء العباد الذين أختصهم الله بخصوصية القربة ومراتب الشهود لا يحتجبون عنه تعالى طرفة عين لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنهم دائماً في معيته يرونه بشواهد اليقين مشاهدة قلبية ليس فيها حجاب ولا فيها مانع من موانع الرؤية عن مراقي الشهود. ولما أن سئل الجنيد : هل تحب أن ترى ربك؟! قال :” لا ! ، فسئل لمَ ؟ فأجاب : إن موسى عليه السلام لما طلب أن يراه لم يره، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يطلب ذلك فرآه، ثم عَقَّب الجنيد على هذا التخريج الصوفي بالتأكيد على أن آمالنا هى أكبر الحجب التي تُبْعدنا عن رؤية الله؛ لأن الإرادة النفسانية في عرف المحبة معصية، والمعصية حجاب حتى إذا ما فَقَدتَ المراد في هذه الدنيا نَلْتَ المشاهدة، ومتى نلت المشاهدة لا تجد فَرْقاً بين هذه الدنيا والأخرى.

وفي ضوء هذا التخريج تُفهم إشارة أبي يزيد :” إنَّ لله عباداً لو حجبوا عن الله تعالى في الدنيا والآخرة لارتدّوا “؛ ويحمل معناها على أنه تعالى يكرمهم بدوام المشاهدة ويُبْقيهم أحياءً بحياة المحبة؛ ومن كان متمتعاً بالمشاهدة ثم حُرِم منها كان في قانون الطريق ولاشك كافراً؛ فالرؤيةُ هَا هنا مشاهدةٌ قلبيةٌ في الأساس. ومن عبارات سهل بن عبد الله الجامعة لأصول التوحيد:” ذَاتِ الله موصوفة بالعلم غير مُدْركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دَار الدنيا، وهى موجودة بحقائق الإيمان من غير حدِّ ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى ظاهراً في ملكه وقدرته، قد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته ودَلَّهم عليه بآياته؛ والقلوب تعرفه والعقول لا تدركه؛ ينظر إليه المؤمنون بالأبصار من غير إحاطة …”.

على أن موضوع الرؤية قد لاقى من الجدل بين الصوفية المتكلمين والفلاسفة أكثر ممّا ينبغي. ونحن فيما سيأتي من مقالات سنقوم بمناقشته، حسب ما ورد فيه من إشارات سَنَحَتْ بها خواطر الصوفية، ولكننا هنا تجدر الملاحظة بأن الموضوع كله مثارٌ في دائرة علم الكلام، ومدفوعٌ من قبيل الصوفية كما لو كان شبهة أرادوا أن يدفعوها عن أنفسهم ويدرؤوا عنهم شبهة القول بها.

ومن المقرر في كتابات الصوفية الأوُّل أن رؤية الله تعالى بالأبصار في الدنيا مما أجمع الشيوخ على نفيها، بل زادوا أن الرؤية لا تكون أبداً –  فضلاً عن الأبصار –  بالقلوب إلا من جهة الإيقان؛ وقال الكلاباذي في التعرٌّف :” ولا نعلمُ أحداً من مشايخ هذه العصبة المعروفين منهم والمتحققين به، ولم نرْ في كتبهم، ولا مصنفاتهم ولا رسائلهم، ولا في الحكايات الصحيحة عنهم، ولا سمعنا ممن أدركنا منهم، زعم أن الله تعالى يُرى في الدنيا أو رآه أحد من الخلق؛ إلا طائفة لم يعرفوا بأعيانهم. بل زعم بعض الناس أن قوماً من الصوفية أدَّعوها لأنفسهم، وقد أطبق المشايخ كلهم على تضليل من قال ذلك وتكذيب من أدّعاه، وصَنّفوا في ذلك كتباً، منهم أبو سعيد الخراز. وللجنيد في تكذيب من أدَّعاه وتضليله رسائل وكلام كثير. وأضاف الكلاباذي أنهم :” زعموا أن من أدعي ذلك فلم يعرف الله عز وجل، وهذه كتبهم تشهد على ذلك”.

فهذا ما يقرّره الكلاباذي ويصر على تقريره، وهو في إصراره لما يقرر يبدو وكأنه يريد أن يدفع شبهة عن المتصوفة وهى دعواهم برؤية الله :”… في الدنيا بالأبصار ولا بالقلوب إلا من جهة الإيقان “؛ فكأن مسألة الرؤية كانت مثار جدل كلامي أنتقل برمته إلى أذواق التصوف ومواجيده ثم أختلط الجدل الكلامي بمواجيد الصوفية فتناول كتابهم الأوُّل المسألة تناولاً كلامياً وتناسوا أذواقهم ومواجيدهم ومنهجهم في معالجة الموضوعات العقائدية الكبرى بمنهج غير منهج علم الكلام، وهذا عندي خطأ وقع فيه كتاب التصوف الأوُّل : خشيتهم من التصريح بحقائق التصوف كما هى عليه، وهى خشية تُضَاف إلى علم الكلام ولا تحسب من التصوف في شيء. وينقل الهجويري أن الجنيد قال :” لو أن الله تعالى قال لي : شاهدني ! لأقولن له أنا : لا أشاهدك؛ لأن النظر العيني في عُرْف المحبة غِيَرٌ عن الله وشرك؛ والغِيَر يمنعني من النظر إليك، وحيث إني في هذه الدنيا طلبت أن أراك بغير واسطة عيني فكيف أستعمل هذه الواسطة في الدار الآخرة “.  

وواضح من قول الجنيد هذا : رفض الرؤية عن الله من وجهة نظر كلامية بحتة. إن للتصوف منهجه وقانونه الذي يختلف عن منهج المتكلمين أو الفلاسفة كل الاختلاف؛ فكل موضوع فيه من ثمَّ ينبغي أن يعالج وفق هذا المنهج لا يشذ عليه. ولك أن تلحظ إشارة البسطامي هذه أو تقرأ إشارة ذي النون إذ قال : ” راحتي حين أفتح بَصَرَ السّر إلى ذاته”، وتتأملها جيداً لترها آخر الأمر بعد التأمل ذوقاً كلها خالصاً لا تدع منهجاً آخر سوى الذوق يمضي فيها أو حتى يستوعبها فضلاً عن أن يستوفي الكلام فيها، ومن حُرم الذوق عز عليه البيان. فهى لا تحتاج لمناقشة جدلية لإدراكها بل من المؤكد أن يتوافر في مدركها شرط التذوق على بصيرة، لاحظ علاقة بصر السر وهو هنا مفتوح على ذات الله ، أي : التوجُّه والتعلق.      

 (وللحديث بقيّة)

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *