Share Button

كنت أكتبُ سلسلة مترابطة حول تجديد العقل الدعوي منذ فترة قريبة، ولما حدث ما حدث على الساحة ساءني أن أكملها خشية أن يفهم كلامي للذين يتابعون على محملٍ الخطأ، وبخاصة أن بيننا اليوم أمثال الشيخ عليش رحمه الله.

ولكن الكتابة في هذا الأمر فضلاً عن أنها قناعة بالإصلاح فهي أيضاً ضرورة واجبة لا مفر منها للمجتهدين، يمليها واقع ديني وثقافي لابد من تغييره، وتغيير المفاهيم التي يستند عليها، والأخذ بالأصول التأسيسية القائمة على النقاء المعرفي لا على حشو الأدمغة بما لا يفيد.

كان الشيخ “عليش” قطباً بارزاً من أقطاب التقليد والجمود في الأزهر الشريف. وكانت له قناعاته المتصلبة نحو كل جديد : رفضه، ورفض من يدعو إليه ولو بالقوة القتالية. وكان العدو اللدود للإمام “محمد عبده” أكبر مجدّد عرفته البلاد الشرقية، ولا تزال قاعات الدرس في بلادنا مع أمثال عقلية الشيخ عليش أحد شيوخ المالكية الذين وقفوا بالمرصاد لدعوة الإمام محمد عبده، يرفضون الاجتهاد ويعادون تجديد الخطاب الديني، ولا يرون في الإصلاح إلا الكفر والبغضاء والمعاداة.

وقد وصل الأمر – فيما يرويه الإمام محمد عبده نفسه – في عداء الشيخ عليش للاجتهاد إلى درجة دفعته أن حمل حربة توجه بها ليطعن زميله الشيخ السنوسي الذي جرؤ على الاجتهاد، فخرق حرمة الدين واتبع سبيلاً غير سبيل المؤمنين؛ لأنه صنف كتاباً في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على الأصول المالكية، ولولا مغادرة الشيخ السنوسي القاهرة إذْ ذاك قبل ملاقاة الشيخ عليش، لوقعت الواقعة واغتيل واحد من المجتهدين على يدي أحد المكفّرة من دعاة التقليد.

وفي المقابل لوحظ أن جدالاً أثاره الشيخ الإمام محمد عبده في البيئة العربية، فوجد عقولاً معوجَّة تتأوّل الرأي كيما لا تفهمه؛ لا بل هى أبعد ما تكون عن التأويل، بيد أنها لا تتصف بشيء سوى كونها بعيدة عن الفهم والتفهم والتفهيم وكفى، ناهيك عمّا وجده كذلك من نفوس ملوَّثة تجرَّها آفات الضغائن وأوساخ الأحقاد إلى ما لا يليق مطلقاً بالآدميين .. ثم ماذا؟ ثم قلوبُ مطموسة خاوية لا تحمل إلا ما تكنّه دوماً وتفكّر فيه : الحقد والحسد والضغينة وشعور البغضاء وممّا لا حصر له من سواد الضمائر والقلوب. كان هذا واقعاً عاناه الإمام محمد عبده، ولم يزل يعانيه كل من يطرح لوجهة النظر آفاقاً تختلف عما يُراد له الثبات والاستقرار حتى الركود والتعفن.

ذهبوا أولئك جميعاً إلى “العار والازدراء الأبدي”، وبقى “محمد عبده” في قلوب المجّددين وعقولهم مثالاً ونموذجاً حياًّ محبوباً، وحقيقاً على الدوام بالمحبة المتجددة والحياة الدينية الصافية. إنّ الذين جمدوا على التقليد والتخلٌّف والرجعية كانوا في رأى الأستاذ الإمام أخطر خلق الله على الإسلام؛ لأنهم حَجّروا الدين وفق ما يتصوّرون وأغلقوه على ما يفهمون منه وكفى.

وكفى بهذه الضلالة طعناً في الدين من أقرب طريق. الدين الذي جاء ليرفع شعار الحرية والتّحرُّر يصبح من فوره على ألسنتهم ليس إلا دعوة للتخلَّف والرجعية والجمود على القديم. الدين الذي جاء بالتسامح مع الآخر ينقلبُ لديهم إلى عنف وإرهاب! ولكن الذين ينسون دين الله، ويذكرون ما لأنفسهم من دين؛ فيقدِّسون أنفسهم ويبحثون عن المكانة والزعامة ولا يعرفون تقديساً لشيء غيرها، هم وحدهم فقط أولى بالمحاربة والهجوم وانتفاضة الإصلاح، هكذا كان يرى الإمام محمد عبده.

وفي ظل ظروف عفنة آسنة، وتقليد يمنع حرية الفكر ويقيد خطاباتها بمقولات واهية، فليس ثمة اجتهاد على الإطلاق، نحتاج اليوم إلى عودة محمد عبده، ما دامت فينا عقلية “الشيخ عليش” العدو اللدود لأكبر مصلح تجديدي عرفته البلاد الشرقية إذ ذاك، فلا زالت عقلية الشيخ عليش تسود قطاعات كبيرة في مؤسساتنا، وتطعن في فريضه الإصلاح بمقدار ما تفسد مقومات التجديد.

في أخريات حياته قال الإمام محمد عبده حاكياً عن نفسه :” أرتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين الأول : تحرير الفكر من قيد التقليد؛ وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره ضمن موازين العقل البشري؛ وأنه على هذا الوجه يعد صديقاً للعلم، باعثاً على البحث في الكون، داعياً إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالباً بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل.

كل هذا أعدّه أمراً واحداً. وقد خالفتُ في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة : طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم. أمّا الأمر الثاني فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير، سواء كانت في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها أو فيما تنشره الجرائد على الكافة، منشأ ومترجماً من لغات أخرى أو في المراسلات بين الناس”.

هذه المنهجية ولا شك هى أساس كل نزعة إصلاحية تجديدية تأخذ بها العقول المفكرة، وتضيف عليها فيما لو شاءت، وترفضها العقول البليدة المتحجرة ولا تقبل منها المساس بما عساه أن يوقظ فيها صحوة العقل وانفتاحه على المعارف الأخرى.

لم تتمكن الدعوة إلى الله على بصيرة من أن تسود قطاعات عريضة من مجتمعات الداعين، وأظنها لن تتمكن فيما سيأتي في مستقبل الأيام، فالذي لم يجعلها ميسورة فيما سبق سيجعلها عصية فيما سيأتي على التمكين.

المؤمن الصادق، الصادق، والداعي إلى الله على بصيرة، مع كل ما أوتى من فضل الله؛ ليس يقيّد وعيه المفتوح باتجاه؛ وليس يغلُّ شعوره بأغلال الكراهية لخلق الله؛ إذ إن فضل الله هذا؛ ليسمح له بالانفتاح على الآخر؛ ومحبة الآخر، وإذكاء شعور التفاهم والتقارب مع الآخر، والبحث معه عن مجالات مشتركة ومتضامنة؛ فلو كان ترك ذاته على ما استوعبت لكان شأنه شأن كبار الروحانيين؛ مفكرين وعارفين : علامة مضيئة في تاريخ البشرية لا تتعَنْصَرْ ولا تنغلق : يطلقونها وثبة حيويّة علوية مباركة، ويندفعون بها إلى محبة الإنسانية كلها، قاطبة، الصغير فيهم قبل الكبير؛ والحقير فيهم قبل العظيم، والبعيد فيهم قبل القريب.

إنّ الدعوة إلى الله يلزمها الحبّ ولا يلزمها العسف والإرهاب. هذا الحب الذي يتناغم مع أجزاء الكون كله، ومع حركة الحياة كلها، ومع نبضات الوعي الروحي الشاعر باحترام الحياة في كل حي على هذه البسيطة : احترام الحياة التي أودعها الله في الكائن الحي ولم يحرمه هذا الحق أبداً، أعني “حق الحياة”، لأنه هو المخلوق على الصورة بأتقن صفات الخلق المنوطة به إدراك هذا الحق لمن يدرك عن الله ويفهم حكمه وحكمته في الأشياء والأحياء؛ ولأنه هو المخلوق بالنفخة الإلهية المُكرًّمة من قبيل الخالق جلّ شأنه.

إنّ لحظة الإدراك هذه؛ لهي اللحظة الكاشفة .. هذه “اللحظة” التي تمسك بالحقيقة وتقبض عليها واعية ليست لحظة تفكير عقلي ولا نظر فكري، ولكنها لحظة كشف قلبي وفتح روحيِّ مؤسس على المحبّة وعلى عشق الحياة في الكائن الحيِّ، قائم على استجماع القوى الباطنة في تذوق ما للحياة من مواهب إلهية عجيبة، وليس يقوم في التحجير والتضييق بفروض ولوازم سنها العقل البشري بحدوده المنهجية ليقول للناس كافة إنها من عند الله؛ منهج الله؛ من أطاعها وعمل بها فقد أطاع الله ورضى عنه الله. ومن عصاها وأختلف معها فقد عصى الله وسخط عنه الله؛ وهى في الحق – لكونها اتجاهاً – من حصيلته العقلية وتصورات الذهن لديه على أكثر الفروض وأرجح التقديرات.

لسنا نحن المسئولون بمحاكمة “عيال الله” بمنهج الله؛ حتى لو كنا على الحقيقة فهمناه. ولكن المؤكد إننا نتصوَّره نحن من عندياتنا وتكشفه أنفسنا لأنفسنا على ما في نفوسنا من ضيق ووهن وغفلة وكنود وتحجير؛ إنما الله وحده هو المسئول، وما نحن سوى أطفال في حجره، موتى بين يديه، لا إرادة لنا إلا فيما يريده فينا، ومنا، ولنا؛ فالتسليم له أولى من النظر إلى النفس وإتباع حظوظها؛ مع اختيار مواطن قوتها ومكامن ضعفها .. ولكن هل يجدي الادِّعاء نفعاً فيما لو زعمنا امتلاك النواصي واقترحنا على الله ما تصوِّره لنا نفوسنا في أن يعطي هذا ويمنع ذاك، يعاقب هذا ويثيب ذاك؛ يُدخل هؤلاء الجنة ويجرَّ أولئك إلى النار؛ يفعل بأولئك الشرِّ وبهؤلاء الخير..؟

اقتراحنا على الله غباء آدمي لا يُفسَّر بالغيرة على منهج الله مقدار ما يفسر بالجهل بالله؛ ولو كنا في أنفسنا مع الادعاء، من أعلم العلماء بأحكامه ومنهاجه وفروضه، ومن أقدر القدراء على توصيل هذا كله للناس .. الله غنيُّ عنا، وعن خزعبلاتنا؛ وعمَّا تصوره عقولنا باسمه تحت إعلاء كلمته وبحجة تطبيق شريعته؛ غناه عن عبادتنا، وأعمالنا، وأقوالنا، وأفعالنا، وتوجُّهاتنا، إلا أن يكون ذلك كله، لا بعضه، مخلصاً، خالصاً لله رب العالمين .. والمخلصون مع ذلك كله على خطر عظيم.

نعم! إذْ ليس للنفس في الإخلاص نصيب؛ لأنه ليس لله إلا الدين الخالص :”قل إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالمَيِنَ. لا شَرِيِكَ لهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأنا أوَّلُ المُسْلِمِين” (الأنعام: الآيتان 162- 163).

الله غني عن العالمين، وهو كذلك أغنى الأغنياء عن الشريك؛ كما جاء في حديث أبي هريرة بلفظه أن رسول الله، صلى عليه وآله وسلم، قال :” قال الله تبارك وتعالى :”أنا أغني الشُّركاء عن الشِّرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشِرْكه.

المواجهة مع الله الخالق هى غاية الغايات في إصلاح العبد المخلوق واستقامة قوله وعمله، وكل تجديد يغفل هذا الجانب مرهون بالفشل لا محالة، وكل نزعة لا تعوّل على هذا القصد مردودة لقائلها. إنّ الله لم يرسل رسله ليكونوا وكلاء على عبيده فهذا شأنه وحده لا شأن مخلوق، فكيف يجوز لأحد أن يستغرق تلك الصفة ليوجبها قسراً على نفسه، والله قد نزه رسله عنها؟ كيف؟!

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏نظارة‏‏‏

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *