Share Button

إعداد / محمـــد الدكــــرورى

ونكمل الجزء السادس عشر مع فضل الحديث، وقد توقفنا أن ليس لنا عن السنة غناء، وأن بيانها للقرآن أمر واجب لا مندوحة عنه، استوجبته صياغة القرآن الكريم ودلالاته وطرائق بيانه، وأن القرآن قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم على أساس أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ببيانه، كما يدل على ذلك ما جاء به القرآن في هذا المعنى من آيات أشرنا إلى بعضها فيما سبق ذكره، وأنه سبحانه وتعالى قد أوحى إليه بهذا البيان، وأمره بتبليغه، وإنه ليرى أن بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في العبادات مما قام عليه الدين من أركان، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، جاء كذلك في بيان ما حواه القرآن الكريم من الأصول العامة، والقواعد الكلية، التي أسست عليها الأحكام الشرعية الفرعية، سواء منها ما تعلق بالمال، كالبيع، والربا، والتجارة، وما تعلق باقتراف المحرمات، كالسرقة، والزنا، وقتل النفس، والاعتداء على المال، وما إلى ذلك، وبيانها في الحالين، وأمرها فيهما ونهيها سواء، فإذا كان واجب الطاعة والاتباع وجوبا مطلقا غير مقيد بوقت في الحال الأولى، فهو كذلك في الحال الثانية، لتساويهما في المصدر، وتساويهما في الدلالة، وتساويهما في بيان ما أمر به الله في كتابه، وتساويهما في الحكمة والغاية، وإذا لم يكن ما أمر به الله في كتابه مؤقتا، فكذلك بيانه يجب ألا يكون مؤقتا، لأن البيان ملحق بالمبين، تابع له.

ولازم لا ينفك عنه، وبهذا يظهر زيف ما يهرف به المخالفون المنحرفون من أن بيان السنة للقرآن إذا كان متعلقا بالعبادات وأصول الدين كان بيانا مطلقا واجب الاتباع دائما ما دام للمبين قيام، أما إذا كان في شؤون المال والمعاملات فهو بيان تطبيقي روعيت فيه ظروف صدوره، وأعراف عصره، وحال أهله، فكان موقوتا بزمنه وعصره، ينتهي بانتهائه، ويستدل على ذلك بتغيير الظروف والعادات والأعراف، إذ إن بيانه صلى الله عليه وسلم لا يراد منه إلا تحقيق المصلحة العامة، وتوفير الخير والسلام للناس، فإذا ما تغيّر وجه المصلحة وأصبح العمل بالبيان، وبما دل عليه من حكم مؤديا إلى حرج الناس، وعنتهم فقد انتهى وقت العمل بذلك الحكم، ووجب على الناس أن يجتهدوا في تحقيق وتحرير ما أراده الشارع وهدف إليه، من ملاحظة قيود أو خصوص أو عموم، فكثيرا ما يجيء العام ويراد به خاص، وما يرد الخاص ويقاس عليه غيره، أو يكون من الملحوظ تقييده، وهكذا مما يكون للاجتهاد فيه مجال، وهذا كما يرى لا يصلح دليلا على ترك العمل بالسنة، إذ مؤداه أن العمل بالسنة إنما يترك إذا ما تغير وجه المصلحة وانتفت علة الحكم، وأصبح في بقائه ضرر وعنت بالناس، وفي هذه الحال ينتهي الحكم ولا يكون له بقاء، وفرق بين انتهاء زمن العمل بالحكم، وبين ترك العمل به مع بقائه، وعلى الجملة فليس هذا من قبيل ترك العمل بالسنة.

وإنما يعد من قبيل بيانها، وهذا القول مع ملاحظة ما فيه من تقييد بعض ما جاء من الأحكام مطلقا، ومن تخصيص بعض ما جاء من النصوص عاما، قد يرى فيه الجنوح إلى تحكيم الرأي، واعتباره قاضيا على النص بتخصيصه أو بتقييده أو نحو ذلك، بناء على اجتهاد أساسه ادعاء المصلحة التي يجب أن تكون مصلحة كلية قطعية ضرورية أو حاجية، حسب اختلاف الظروف والأحوال، ولا شك أن ذلك من مزالق الأفهام التي ترجى عندها العصمة، وتطلب فيها من الحكيم الرحمن الهداية، والشطط فيها والركون إليها مهلكة، ويجب أن يكون الرأي فيه عن إجماع من ذوي الضلاعة في الدين العالمين بأصول الشريعة وأسرارها، وأما عن رد الشبهة الثانية، فقد اختلفت الروايات في كتابة السنة على عهده صلى الله عليه وسلم فقد روي ما دل على كراهتها، وروي ما دل على إباحتها، وأشهر ما روي دالا على كراهتها ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ ” وقال همام أحسبه قال” متعمدا فليتبوأ مقعده من النار” وما روي أيضا عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه، قال جهدنا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لنا في الكتاب فأبى، وفي رواية يقول استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فلم يأذن.

وما روي عن أبي هريرة رضى الله عنه، أنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نكتب الأحاديث فقال “ما هذا الذي تكتبون؟” قلنا “أحاديث نسمعها منك” فقال صلى الله عليه وسلم “كتاب غير كتاب الله؟ أتدرون ما ضل الأمم قبلكم إلا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله تعالى” وأمّا أشهر ما رُوي عن إباحتها فما رواه عبدالله بن عمرو رضى الله عنهما كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا أتكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب وفي الرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه، وقال ” اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما خرج مني إلا حق” سنن الدارمي، وما روي عن أبي هريرة رضى الله عنهن أنه قال ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر مني حديثا عنه مني إلا ما كان من عبدالله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب” فتح الباري، وأن رجلا من الأنصار كان يشهد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحفظه، فيسأل أبا هريرة رضى الله عنه فيحدثه، ثم شكا قلة حفظه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم “استعن على حفظك بيمينك” وما رواه رافع ابن خديج أنه قال قلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها؟

قال صلى الله عليه وسلم “اكتبوا ولا حرج” وما رواه أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “قيدوا العلم بالكتاب” وما روي عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الناس بعد فتح مكة فخاطبهم، فقام رجل من أهل اليمن، يقال له أبو شاه، فقال يا رسول الله اكتبوا لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” اكتبوا له ” رواه أحمد، وما روي عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لما اشتد المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده” قال عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” قوموا عني ولا يبقى عندي التنازع ” رواه مسلمن وقد اختلفت الآراء في التوفيق بين ما ورد من السنة دالا على كراهة كتابتها، وما ورد منها دالا على إباحتها، إذ الظاهر من أحاديث الأمر بكتابتها أن الأمر فيها يراد به الإباحة والإرشاد لا الوجوب، بدليل عدم شيوع كتابتها، وعدم انتشارها في عهده صلى الله عليه وسلم إذ لم يقم بكتابتها إلا القليل الذي لم يكتب مع ذلك إلا جزءا قليلا منها، كما روي ذلك، فذهب بعض العلماء إلى أن النهي عن كتابتها إنما كان في بداية الإسلام خشية اختلاط السنة بالقرآن، فإن العهد كان عهد بداوة، ولم يكن يعرف القراءة والكتابة من المسلمين يومئذ إلا القليل.

ولم يكن من الميسور له الحصول على ما يكتب فيه إلا أن يكون شيئا من العسب، واللخاف، ورقيق الحجارة، ونحو ذلك مما لا يتسع لكثير من الكتابة، ولا يتيسر الحصول عليه بكثرة، فكان من المحتمل القريب الوقوع أن تكتب السنة والقرآن في مكتوب واحد، ولا يكون من وراء ذلك إلا الاختلاط، كالذي حدث لبعض الناس من الخلط بين القرآن، وما ألحقه به بعض القراء من كتابة كلمات أريد بها تفسير بعض كلماته، فظن بعض من شاهد ذلك أنها من القرآن، ولما شاع القرآن بينهم وانتشر حفظه، وعمت معرفته زال هذا الخوف، فنسخ النهي عن كتابة السنة، وأصبحت كتابتها جائزة، وإلى هذا ذهب كثير، منهم الرامهرمزي في كتابه “المحدث الفاصل” وابن قتيبة في كتابه “تأويل مختلف الحديث” ورجحه بعض العلماء استنادا إلى أن حديث أبي شاه كان في أواخر حياته صلى الله عليه وسلم وإلى أن أكثر ما روي عن أبي هريرة رضى الله عنه كان في إباحتها، إذ إن إسلام أبي هريرة رضى الله عنه كان متأخرا لم يدرك النهي عنها إلا مدة قصيرة، وإلى ما رواه ابن عباس رضى الله عنهما من طلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤتى بكتاب في مرضه ليكتب فيه ما لا يضل الناس بعده، ثم إقدام أبي بكر الصديق رضى الله عنه على كتابة بعض الأحاديث، ومحوها خوفا من أن تكون كتابته ذريعة إلى ترك بعض الأحاديث التي لم يكتبها بحجة أنها لو صحت لكتبت كما روي ذلك عنه.

وهذا إلى تفكير عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته في جمعها، ثم عدوله عن ذلك كما روي خشية إكباب الناس عليها وتركهم كتاب الله، وإلى انتشار كتابتها وشيوعها بعد ذلك، فكل هذا يرجح أن النهي عن كتابتها قد كان ثم نسخ، وذهب بعض العلماء إلى أن النهي عن كتابتها إنما كان بالنسبة لمن يوثق بحفظه، ممن لا يخشى عليه الغلط، خوف اكتفائه بالكتابة، وعندئذ لا يؤمن معها التحريف، ولا عدم الضياع، أما الإذن فقد كان في حق من لا يوثق بحفظه كأبي شاه، لأن ذلك هو الميسور له على أن من علماء الحديث من قال إن حديث أبي سعيد الخدرى رضى الله عنه حديث موقوف، فلا يصلح معارضا لما ورد من آثار دلت على إباحتها، ودونه جميع ما روي عن كراهتها، وهذا رأي ذهب إليه البخاري وغيره، وذلك ما روي في النهي عن كتابة السنة والأمر بمحو ما كتب منها، وما روي في معارضته، ومنه يتبين أن الوضع في ذلك لم يكن وضعا مستقرا، وأنه على الأقل كان محل خلاف بين الصحابة، خلافا مرده إلى التقدير واختلاف الظروف والزمن، ومع هذا الوضع يكون من التجاوز في الرأي والقول أن يقال لو كانت السنة أصلا في الدين لم ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابتها لأن النهي عن كتابتها يعد نهيا عن نشرها، أو يؤدي إلى ذلك فعلا، كما يؤدي إلى نسيانها، وعدم العناية بحفظها، وذلك ما لا يتسق مع وجوب العمل بها.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *