Share Button

إعداد / محمـــد الدكــــرورى

ونكمل الجزء السابع عشر مع فضل الحديث، ومن التجاوز في الرأي والقول أن يقال لو كانت السنة أصلا في الدين لم ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابتها لأن النهي عن كتابتها يعد نهيا عن نشرها، أو يؤدي إلى ذلك فعلا، كما يؤدي إلى نسيانها، وعدم العناية بحفظها، وذلك ما لا يتسق مع وجوب العمل بها، واتخاذها شريعة تقوم عليها معاملات الناس في مختلف أوطانهم، يكون هذا تجاوزا في الرأي إذ لم يثبت أنه كان من النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن كتابتها بصفة قاطعة، وعلى وضع مستمر دائم، حتى ترتب عليه آثاره ومعقباته، ثم إذا لاحظنا أن السنة ليست إلا بيانا لكتاب الله وتطبيقا له قام بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بأقواله وأفعاله، رأينا أن كتابتها في زمنه صلى الله عليه وسلم لم تكن بالأمر الذي يتوقف عليه العمل أو العلم بها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم في أصحابه، يستطيعون أن يرجعوا إليه في كل ما يعرض لهم فيبين لهم حكمه، مراعيا في ذلك ظروف الواقعة وملابساتها التي لا تستقر ولا تدوم، فيكون بيانه هذا عندئذ أوفى بيان، ولم تكن كتابة السنة يومئذ بالأمر الميسور المستطاع حتى يأمر بكتابتها، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينا وشارعا، بقوله وفعله، في حله وترحاله، وفي حضره وفي سفره، وفي ذهابه وإيابه، وفي بيته وفي خارج بيته، وفي زيارته وفي سوقه، وفي مسجده.

وفي معاملته، فلم يكن لبيانه وقت محدود، ولا مكان معين، وذلك ما لا يمكن جمعه ولا يستطاع تتبعه وحصره، وما فيه إرهاق وعنت شديد في محاولته مع الاستغناء عنه بالأمر الميسور المستطاع، وهو الرجوع إليه صلى الله عليه وسلم حين تعرض الحاجة، فإن عرضت في مكان بعيد فقد رخص لمن عرضت له أن يجتهد وأن ينظر ما أمكنه ذلك، وأن يعمل بما يؤديه إليه اجتهاده إلى أن يتيسر له عرض الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك كان منهج أصحابه في حياته صلى الله عليه وسلم وهو منهج يرى أن كتابة السنة معه وجمعها أمر غير ميسور، وغير محتاج إليه بالنسبة إليهم، وأن في الترخيص لهم بالاجتهاد إذا ما تعذر عليهم اللقاء والعرض غناء عن محاولة أمر متعذر هو حفظ كل ما نطق به الرسول في مختلف أحواله أو كتابته، وذلك ما كانوا يفزعون إليه دائما إذا ما خفي عليهم حكم ما عرض لهم من الكتاب والسنة، بعد البحث والسؤال عنه، دون حرج يجدونه في ذلك، ذلك ما كان عليه الأمر حال حياته صلى الله عليه وسلم أما بعد وفاته فقد كان من الصحابة من أحجم عن كتابتها متابعة منهم لما حدث من بعضهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصا منهم على سلامة الكتاب، وعدم الاشتغال عنه بالسنة المكتوبة بل حرصا منهم أيضا على السنة نفسها إذ كان من المتعذر استيعابها، ولو اكتفى بكتابة.

ما عرف منها لم يؤمن أن يترك منها ما لم يعرفه الكاتبون بحجة أنه لو كان صحيحا ما تركت كتابته، وكان منهم من أقدم على كتابتها وكتبها تلاميذهم بين أيديهم بل وأمروا بكتابتها، كما ثبت ذلك، مما روي عن الإمام علي بن أبى طالب، وعن ابن عباس، والحسن، وأنس، وغيرهم، رضى الله عنهم أجمعين، بل كان منهم من كتبها بعد أن كان كارها لذلك أول الأمر، لما قام عنده حينئذ من أسباب المنع، فلما رأى أنها قد زالت كتبها وأمر بكتابتها، ونرى ذلك فيما روي عن ابن مسعود، وأبي سعيد الخدرى رضى الله عنهم أجمعين، إذ كانوا يكرهون كتابتها، ثم كتبوا بعد ذلك، فقد روي أنهم كتبوا التشهد والاستخارة، وليس ذلك إلا من السنة، ثم هم جميعا مع هذا كانوا شديدي الحرص على العمل بها، لا يرون لأنفسهم مندوحة في إغفالها وتركها، فكانوا إذا عرض لهم من الأمور ما ليس في كتاب الله حكمه رجعوا إلى السنة، فبحثوا فيها وسألوا عنها، لا يألون في ذلك، حتى إذا عجزوا أن يجدوا فيه سنة اجتهدوا واسترشدوا بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عملا بقوله تعالى ” فإن تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول ” وإنا لنرى أن في كتب الخلفاء إلى أمرائهم وولاتهم فيما سئلوا عنه منهم مما أشكل عليهم حكمه مما لم يعلموا فيه سنة، وما كانت تحويه هذه الكتب من سنة في حكم ما سئلوا عنه، دليلا على عناية الخلفاء بنشر السنة وإبلاغها.

وأن ذلك إنما كان منهم عند الحاجة حيث كان الظن بالأمراء والولاة أنهم من المختارين الذين هم على علم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وطريق اجتهاده صلى الله عليه وسلم وأنهم قل أن يعرض عليهم ما يجهلون حكمه أو يجهله من معهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا لم تكن هناك حاجة داعية إلى نشر السنة على الأمراء والولاة في قراطيس ترسل إليهم، لما كان عندهم من علم، وعلى ذلك كان من التجاوز في الرأي أيضا قول هؤلاء المنحرفين لو كانت السنة أصلا في الدين لعمل الخلفاء على نشرها، ولم يكن منهم شيء من ذلك، أما ما روي من عدم إقبال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على روايتها والتحديث بها عند الحاجة إلى ذلك لأنهم أحرص الناس على ألا يحق عليهم قول الله تعالى في كتابه ” إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ” وإنما كانوا زاهدين في ذلك عند عدم الحاجة إليه، خوفا من أن يحمله عنهم من لا يضبطه، فيزيد فيه أو ينقص، أو من يرويه بمعناه فيخطئ في فهمه، ويرويه على غير وجهه، وفي المرويات الكثيرة المتواترة المعنى ما يدل على مبلغ حرص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على العمل بالسنة وعدم مخالفتها، وأن ما كان من خلاف بينهم في أمر جاءت به .

إنما كان مرده إلى الخلاف في الفهم دون جنوح من أحدهم إلى إرادة الخروج عليها وعدم العمل بها، وعلى الجملة فوجوب العمل بالسنة والعمل بها كان أمرا مجمعا عليه عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأمصار والولايات، ولم يظهر خروج عن ذلك إلا بعد ظهور الفتن وظهور الفرق، كالمعتزلة، والفلاسفة، والجهمية، وغيرهم، ممن لا وزن لخلافهم بعد هذا الإجماع الذي استمر نحو قرن من الزمان، وأما القول بأن السنة قد تأخر تدوينها إلى زمن أوهن الثقة بضبطها، فهو قول أملاه الهوى والغرض على صاحبه لأنه أغفل ما كان لعلماء السنة من جهود كبيرة شاقة في مكافحة التحريف والتغيير والوضع، مما أمن معه عند تدوينها في النصف الثاني من القرن الأول أن يكون فيما دون منها شيء من ذلك، وذلك بقدر ما وصلت إليه جهودهم، وبخاصة إذا لوحظ ما أتاحه الله لها من طرق حفظها، وصيانتها التي ظلت متصلة عبر تلك المدة التي سبقت تدوينها، حتى تم تدوينها على خير ما أدت إليه الرغبة الشديدة الملحة والقدرة الدائمة المتمكنة، مما لا يرتفع إليه شك ولا تصاحبه ريبه، وكان الأمر فيها رجحان الظن بصحة نسبتها، وبراءتها من التغيير والتحريف، مما أوجب على جميع المسلمين العمل بها، وأما عن رد الشبهة الثالثة، وهى رواية الحديث بالمعنى، فإنه ليس لهذه الشبهة قيام إلا إذا كان من أثرها الشك في صحة الحديث.

وفقدان الظن بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والسنة كما نعلم منها المقطوع به، ومنها المظنون، والمقطوع به لا يصلح محلا لهذه الشبهة، إذ في القطع به إزالة ونفي لكل شك ولكل ريبة، أما المظنون فهو الذي يصلح أن يكون محلا لبحث هذه الشبهة والنظر فيها، والمظنون كما تعلم إذا كان الظن بصحة نسبته راجحا وجب العمل به، وإلا لم يجب به العمل، وبناء على ذلك لا يكون لهذه الشبهة أثر إلا فيما عمل به، إذا كان من أثرها الشك فيه وعدم الظن بصحة نسبته، أما مع وجود هذا الظن بصحة نسبته فالعمل به واجب، ولا أثر لاحتمال الخطأ بروايته بالمعنى، لأنه احتمال يبعده الدليل، ولقد كان الصحابة والتابعون وأتباعهم يتثبتون في قبول الأخبار وروايتها، شديدي الورع والخشية عند روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد أن يعلمهم إياه، من بيان في دين الله، أو حديث في إفتاء أجاب به في سؤال رفع إليه، أو قضاء في نزاع فصل فيه، وذلك إذا ما دعا إلى روايتهم ذلك حادثة عرضت لهم، يود الراوي منهم لو كفي مؤونة ذلك، مخافة ألا تكون روايته على وفق ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ما دلت عليه آثار عديدة، رويت حول تثبت الصحابة في الرواية، وميل بعضهم إلى الإقلال منها مخافة الوقوع في الخطأ، ولقد كان كثير منهم شديد الحرص على نقل الحديث بألفاظه، كما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكما يدل على ذلك كثير من تلك الآثار المروية، وكما كان منهم من ترخص عند الحاجة في الرواية بالمعنى، فكان لا يجد حريجة في روايته حديثا بمعناه إذا ما أعوزه اللفظ لنسيان، مع الإشارة إلى أن ما يرويه ليس بما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لفظ، وذلك بأن يضيف إلى الحديث ما يدل على ذلك من نحو، هكذا، أو نحوا من هذا، أو قريبا من هذا، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وذلك لوثوقه من فهمه، ومن معرفته باللغة العربية، ودلالتها، وأساليبها، وطرائق استعمالها، والإحاطة بمعاني ألفاظها، وخلاصة القول في ذلك أن رواية الحديث بالمعنى كانت محل خلاف بينهم، فمنهم من منعها وأبى ألا يروي حديثا إلا بلفظه الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نقل عنه، ومنهم من أجاز ذلك بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرع للناس في جميع أحواله وأزمانه، وفي كل مكان يحل فيه، وليس من المتيسر أن يوجد معه في كل أوقاته وأماكنه الحافظ الضابط الذي يستطيع حفظ لفظ كما سمعه، والمحافظة عليه دون نسيان أو تغيير، وللناس جميعا حاجة فيما شرع، ولا تندفع إلا بإبلاغهم، وليس يتيسر إبلاغهم دائما بما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبارة، لذلك وجب الاكتفاء بإبلاغ المعنى مع المحافظة عليه، وذلك أمر ميسور، ولا مشقة فيه، وإلى هذا كان من شرعه ما هو تقرير لما حدث أمامه من قول أو فعل.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *