Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

في إطار رؤيتنا حول تجديد العقل الدّعوي، والنزوع به إلى الناحية العملية والجوانب التطبيقية الحياتية كيما يتمكن المسلم من درء التعارض بين العقيدة والسلوك الذي يقوم عليها، ومن سدّ الهُوّة السحيقة بين ما يعتقد وما يعمل، تلافياً للشعور بالانفصام الداخلي والغُصّة الجوانيّة مماّ قد تسبّبه مُفارقة الاعتقاد عن العمل.

وفي إطار فهم بناء لا يفترق فيه سلوكه عن إيمانه، ولا قيمه الدينية عن أفعاله اليوميّة. وفي إطار ما سبقت إليه الإشارة؛ كون العقيدةُ حياة إيمانية خالصّة تبقى بعد مفارقة الأوراق والدراسات، وتُطلب بالمواجهة القلبية فيما يتقوّم جوهريّاً بالإيمان، ويتصل بمعدنه الأصيل، ولا يُجافي القلب ولا العقل ولا العلم ولا المعرفة وعلى الحياة الحيّة الباقية على التعميم؛ في إطار هذا كله يمكننا استكمال الفكرة التي كنّا بصددها وهي : أنه إذا قسنا عناية المسلم بعقيدته فيما يملأ النفس لا ما يملأ الرؤوس أو الصفحات، فعلى هذا المقياس يكون قياس العقائد الدينية بمقدار حظها من شعور القداسة.

وليس هذا الشعور في أصل عنصره الرفيع سوى الإيمان.

• وهل من فارق بين العقيدة والإيمان؟
• وما هو دور العقل في تكوين العقيدة؟
• وكيف تتكوَّن العقيدة أصلاً ؟

أسئلة مثيرة للتأمل تَجْدَرُ مناقشتها على هدى ممّا تقدَّم في المقال السالف، وفي ضوء نظرتنا إلى تجديد العقل الدّعوي الذي هو جزء لا يتجزأ من تجديد العقل العربي بوجه عام وتجديد الخطاب الديني على مقتضاه؛ فإنّ النظرة المحيطة بموضوع الإيمان وموضوع التفكير؛ لتفرِّق تفرقة حاسمة بين الإيمان من جهة، والعقيدة من جهة أخرى؛ فهناك الإيمان أولاً وهو قلبي في أول مقام، فالذي يؤمن يصدِّق ويُسلّم من طريق القلب، ثم بعد أن يؤمن يتفكّر فيما آمن به، فيحاول تعقّل هذا الإيمان، بمعنى أن يُعْمِل عقله في موضوع الإيمان، حتى إذا ما أستوى إيمان المؤمن مع قناعاته العقلية، أستطاع أن يهتدي إلى عقيدة تستقر عليها قناعاته الداخلية وبواطنه القلبية، وتتسق مع ما كان قد توصَّل إليه من كثرة تفكيره في الإيمان كموضوعٍ بعد تسليم وتصديق.

ومن جهة أخرى، لا ينفي التصديق ولا التسليم دور العقل في طلب المعرفة؛ لأن التعقل شرط العلم، وللعلم دوره الفاعل في الحياة العقلية بل له الدور الفاعل أصلاً وقصداً في كل حياة مستقيمة حتى ليمكن القول إنه لا قيمة لحياة على الإطلاق بغير تفعيل العلم فيها، وقيامها بالأساس عليه.

فلئن خلت الحياة من العلم، فإنها تصبح حيوانية بهيميّة لا جدوى منها ولا هدف ولا غاية؛ فالعلم هو من يرقيها فيجعل لها النفع والجدوى، ويحقق منها الهدف والغاية؛ فالعلم من أجل ذلك روح الحياة هكذا نقرّر بكل قطعيّة وطمأنينة ووثوق.

وكما يكون العلم هو باطن الحياة تكون المعرفة كذلك باطن العلم وروحه، والعلم طريقٌ لها بغير نزاع، فالمعرفة رُوح العلم تماماً كما يكون العلم رُوح الحياة. والعلمُ هو العلم النافع الذي يتماشى مع وحدة القصد الإلهيّة، ويكون خالصاً لله وحده دون سواه.

ومع ذلك بل ومن أجل ذلك؛ فليس شرطاً للعقل أن يستوعب كل ما هو غيبي، بل يتفكَّر في حدود عطاياه الإيمانية. ومن هنا تختلف العقائد على الإيمان الواحد وتتشاكل وتتشابه تارة، وتتباين وتختلف تارة أخرى.

على أن العقيدة ليست عقدة مؤبَّدة لا تنفصم؛ ولا هى بالتي لا تتفكك عُراها مطلقاً؛ ولكنها قابلة للتغيير والتبديل، بمقدار قابليتها للمراجعة والفحص والإعادة والتكوين؛ تبعاً لقراءة العقل لموضوع الإيمان، ثم تطوره مع هذه القراءة وترقيه فيها واكتشاف الجديد فيما يلاحظه بصددها، ومواكبة ما يفهم منها على مقدار ما يُلْهَم.

وكثيراً ما يُسَاءُ فهم الإيمان تماماً كما يُسَاءُ فهم قراءته، فتجيء نتيجة تلك الإساءة عقيدة مغلوطة أو جامدة متحجِّرة ليس فيها من روافد الشعور ولا من سلامة الإدراك ما يحييها ويقوِّيها ويُغذي مناشطها الرُّوحيّة والعمليّة : فقيرة مُجدِبة في جانب على حساب جانب آخر، مخلوطة مشتتة غير قاصدة ولا مُوَحَّدَة؛ مُوَزَّعة فيما ترى وفيما تفكر وتنظر وتستسيغ.

وقد يميل القارئ إلى فهم الإيمان وفهم موضوعه وفهم مطالبه ومصادره في أصل الفطرة وبواطن الشعور وفي سريرة الضمير؛ فيقرأه بالعقل قراءة نافذة فاعلة بعد أن يكون في الأصل قد تغلغل في أعمق أعماق طواياه وتعمق في قلبه غاية ما يُصيبه التَّعمق في القلوب من رسوخ وتمكين واستقرار؛ فتجيء القراءة العقلية إذْ ذاك مواكبة للحقيقة الإيمانية الباطنة تضيف إليها ما يزيدها شرحاً ووضوحاً فوق الزيادة المرسوخة في التمكُّن من أصالة الشعور.

فالعقلُ وحده – وآلته المنطق – بمعزل عن الإيمان ليس كفيلاً ولا كافياً أن يعطيك تصوِّراً صادقاً أو صحيحاً عن العقيدة الإيمانية فيما لو كانت على استقرار الرسوخ والتمكين؛ أو هو قد يعطيك عقيدة فكرية بحتة لا شأن لها بتعقُّل الإيمان إلا من خارج.

والإيمانُ شعورُ وفهمُ واستدلالُ – كما يذهب القديس أنْسِلم – شأنه في ذلك شأن القديس أوغسطين الذي نادي بتعقل الإيمان؛ لأن الإيمان يُوَلِّدُ في النفس المحبّة، ومن خصائص المَحَبة أن تدفع إلى استعجال الرؤية الآجلة بالاستدلال.

كان “كانط” يقول:” إنّ الدين هو شعور بالأمر الإلهي، وليس بواسطة العقل، إذْ العقل عنده لا يوافق حقيقة الأشياء. وعلى ذلك يكون الدين بهذا المعنى شعوراً إلهاميّاً محضاً. فالإيمانُ من ثمَّ شرطُ التَّعقل؛ وقد قال. “أشعيا”:” إنْ لم تؤمنوا فلن تفهموا “؛ فالذي لا يؤمن لا يشعر بموضوع الإيمان؛ والذي لا يشعر لا يفهم. والشعور بالإيمان يفوق مُجَرَّد سماع الحديث عنه، والتَّعُقُّل وسط بين الإيمان في الحياة الدنيا، ومعاينة الله في الآخرة؛ هو اقتراب من علم الله !

إنّما العقل المحدود المفصولُ بالكلية عن شعور الإيمان الديني العميق، والمعزولُ عن فهم دخائله ومراقبة خلجاته وطواياه؛ لا يَمَسُّ الحقيقة الدينية في شيء، فعقيدتُه محضُ فكر خارجي يُصلح للعلم والتفكير المحسوس: يصلح للصخور والمعادن والأحجار وري الأرض وحفر المجاري ومدِّ القنوات ونقل المزابل؛ ولا يُصْلح لتأمل الحقيقة الإلهية.
هنالك فرقٌ؛ وفرقٌ كبير؛ بين العقل المُروَّض على التعامل مع الحقيقة الإلهية، والتي موضعها القلب إيماناً، ومُدْركُها الفكرُ تعقُّلاً وعرفاناً؛ وبين العقل العابث المخلوط بأهواء صاحبه، إنْ هو أدرك فلا يدرك إلا الهوى، وإنْ هو أصاب فلا يصيب إلا الدَّنِيَّة من الدين والدنيا على السواء.

هذا العقل المغموس بعكارة النفس الملوَّثة إذا تَعَرَّض للإيمان أفسد معانيه. إنه فريد الدين العطار؛ الشاعر الصوفي الفارسي البديع هو الذي صوّر عجز العقل (باعتباره ملكة الاستدلال) عن إدراك الحقيقة الإلهية تصويراً يفوق الروعة ويعلو على خيال الملهمين؛ وذلك حين قال :” ذهبنا وراء عالم العقل والفهم، العقل لا يُجدي عليك، إنما يأتي بما يأتي به غربالٌ من بئر، إنما يحاول العقل أن يدرك هذا العالم، ولكن هذا العقل الذي يفقد نفسه بجرعة من الخمر لا يقوى على المعرفة الإلهية. العقل أجبن من أن يرفع الحجاب ويسيرُ قدماً إلى الحبيب”.

أمّا العقل المُروَّض على التعامل دوماً مع الحقيقة الإلهية؛ فشأنه شأن آخر كما أن العقيدة الفكرية في مجال الدين هى الأخرى شأنها شأن آخر؛ إذْ هى تُسلِّط أضواء العقل على الإيمان القلبي كيما تجيءُ العقيدة مجموعة ضوابط فكرية مستخلصة من قراءة العقل المستنيرة للإيمان.

ومن هنا تتكون العقائد؛ والأصل فيها الإيمان لا العقل : العقل مجرد شارح للإيمان، يحاول أن يفهمه، يتعقَّله، يحسَّه، يتذوَّقه، يوازن بينه وبين أفراد غيره آمنوا، وأفراد لم يؤمنوا، ويدرس أحوالهم وفوارقهم في الشعور والإحساس، وفي العقول والمدارك، وفي الوجهات والمصائر. وعلى الجملة؛ يدرس فوارقهم في بواطن السّريرة؛ ليتبيَّن له على اليقين البرهاني الذي لا مِرْية فيه مثل هذا الفرق الفارق بين حقائق الإيمان البصير وبين أباطيل الغفلة والجهالة والتعطيل.

العقل هنا يستخدم خصائصه لفهم موضوع الإيمان؛ وخصائصه خاضعة لما كان كوَّنَ لنفسه من قناعات وشكل لها من تصورات أصيلة ومتأصلة لا تقوم بمنأى عن الإيمان ولا بمعزل عن دفعته الحيويّة ونبضته الشعورية.

والإيمان يزيد أحياناً وأحياناً ينقص : يزيدُ بالتجربة والممارسة وإثارة الحيوية والتجديد الديني المهييء لصلة القربة بين الخالق والمخلوق، وينقص بالإهمال؛ إهمال الامتثال، وكل ما يُقام على الإهمال من آفات النقص وعلامات الخزي وإمارات الخذلان.
والعقل تابعٌ للإيمان في قراءته لتجاربه المعرفيّة، فالثوابتُ التي يقف عليها دوماً ولا يتزحزح عنها، إنما هى مبادئ كان قرَّرها مُسبَّقاً لا يحاول أن يتعَقَّل عطاياها النظريّة المحدودة، فيرتفع ما أمكنه الارتفاع عن حدودها وقيودها كيما يسمح بمساحةٍ للنفاذ إلى قرارة ما استقر عليه إيمانه القلبي، عساه من بعدُ يدرك بالتجربة المعاشة الحيَّة عمق الإيمان؛ فيعقله. ومساحة العقلانية مطلوبة خلال فعل التأمل الدائم في أجواء المعايشة الإيمانية.

فمطلوبٌ من العقل إذا هو أراد أنْ يكوِّن لنفسه عقيدة صالحة في فهم الإيمان وتعقله وشرحه والبَصَر به أن يدور مع الإيمان دورته الحيوية حضوراً وغياباً؛ وجوداً وعدماً، زيادة ونقصاناً، يرتقي في مرتقاه كيما يعلم رُقيَّهُ بالغاً ما بلغ هذا المرتقى فيه، وليعلم أن حضوره ووجوده وزيادته من رقيه وتفاعله معه، وأن غيابه وعدمه ونقصانه من خموله وخموده ونقص الهمَّة فيه؛ حتى إذا ما رأينا اختلاف العقائد بين قوى وضعيف ومقبول ومنبوذ وقابل للممارسة والحياة ومطمور مهجور لا يَرْقَى برقى الشعور، علمنا على الفور دور العقل في تعقل الإيمان واقتداره على تكوين العقيدة الصالحة للممارسة والتفاعل والحياة.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *