Share Button
يستدلُ العراقي بوجود وحدة عضويّة في العمل الذي قرأه على صفةٍ يتأكد فيها البعد الأول الذي ذكرنا، وهو أن مؤلف الكتاب على وعي تام بأبعاد التصوف الإسلامي وشخصياته؛ ليعرض عناصر الفصل الأول مرتّبة على النحو التالي :
(1) موضوع المعرفة وأداتها عند أبي سعيد
(2) الشريعة والحقيقة
(3) النفس والمعرفة
(4) النفس وإسقاط التدبير
(5) المعرفة بين الكسب والوهب
ولم يكن دفاع مؤلف الكتاب عن العديد من أفكار الصوفيّة من خلال الكشف عن حقيقة آرائهم في نظر العراقي إلا ليستخلص منها في هذا السياق وقوف الجزار على حقيقة الصراع الدامي بين الفقهاء والصوفية، واتهامهم للمتصوفة بالكذب والتلفيق؛ بأنهم يهملون الأمور الشرعيّة حين يركّزون على فقه الباطن أكثر من تركيزهم على العبادات الظاهرة.
من أجل ذلك؛ يسوق العراقي هذا النّص من كلام الدكتور أحمد الجزار مؤلف الكتاب ومُقرّر من هذه الجهة أهميّة العمل الشريف كدعامة معرفيّة وصولاً للغاية الشريفة حيث يقول : إنّما العمل أو المجاهدة والتحمّل على وجه التحديد عند أبي سعيد لا يمكن إسقاطه أو تجاهله في أمر المعرفة من حيث إنّ الشريعة، وهى أول نقطة يبدأ منها العبد في طريقه إلى الله تعالى وصولاً إلى الحقيقة، هى في جوهرها أفعالٌ في أفعال، ومن ثمّ يكون الطريق إلى معرفته تعالى يدخل فيه العمل ومقاساة الجهد كسبيل للوصول إلى هذه الغاية الشريفة، وهى شهود الحق تعالى ومعاينة كمالات صفاته وأسمائه، ومثل هذا إنّما يكون بالعلم بالشريعة أمراً ونهياً، ثم العمل بكل ما جاءت به، فكل حال ووقت لا يكون إلا بالعلم ونتيجة المجاهدة فيه، وإن قلّ فضرره أكثر من نفعه، حتى ولو بلغ أحدُ به أعلى المراتب من المقامات (ص 44 من كتاب المعرفة).
على أن الدكتور أحمد الجزار مؤلف الكتاب، يؤكد حسب عرض وتحليل أستاذنا الدكتور عاطف العراقي رحمه الله، أهميّة العبادة والعمل عند أبي سعيد باعتبارهما قوام الشريعة؛ إذ كانا قوام الحياة الروحيّة بإطلاق، وما دامت الشريعةُ تتأسس عليها معرفة الله، ولا تتأسس على الجهالة والتعطيل كما تقدّم، فلا نزاع في أن تأكيد أبي سعيد على شرط الإخلاص في العمل – فيما يقول المؤلف – طلباً للمعرفة بالله، هو في حقيقته شرط الكمال الروحي في الإسلام، وهو من ألزم ما يكون في كل عمل وعبادة يتقرّب بهما المؤمن الكامل في إيمانه إلى الحق تعالى، ولو تحقق هذا الأمر لصار العبد هو الصوفي حقيقةً، لأن حقيقته هو عالمٌ عمل بعلمه على وجه الإخلاص. وليس علم التصوف إلا معرفة طريق الوصول إلى العمل بالإخلاص لا غير، ولو علم العالم بعلمه على وجه الإخلاص، لكان هو الصوفي حقاً (ثورة النقد : ص 734).
ولمّا سُئل أبو سعيد عن التصوف ما هو؟ قال : أن تتخلى عن كل ما في دماغك، وتجود بكل ما في يدك، وألاّ تجزع من شئ أصابك” (جامي : نفحات الأنس : ص 342).
وليس هذا التعريف ببعيدٍ قيد أنملة عن الإخلاص؛ فالتخلي عن كل ما في الدماغ تخلي عن الوهم المعشعش في الرؤوس المطموسة والعقول الغفلانة، وهو لا يعرفه إلا مُخلص أختبر بحُسن المعاملةٍ طريق الإخلاص لله. والجودُ بما في اليد نزاهة وتجرُّد، لهما بالإخلاص رابط وصلة. والجزع ُمن المصيبة حرصُ على الدنيا ليس من خصال العُرفاء.
بادي الرأي عندي، أنّ لفتةً عميقةً يقف عليها الدكتور أحمد الجزار في كتابه، لمّا شرط الكمال الروحي بالعمل الدائب والعبادة الكاملة، ولمّا سدّ ذرائع التكاسل والخمول والتواكل التي تجلب الأمراض النفسيّة، ولا تعود على الفرد أو المجموع إلا بضروب التخلف والدُّونيّة. ولا كمال مطلقاً مع الجهالة والخمول أو مع التسويف الذي تظلُم معه اليقظة والمبادرة.
وليس يلزم للكمال الروحي أكثر ممّا يلزم للإخلاص على هذا الشرط، وليس من شرط يعزّز المُضيء فيه غير الصفاء النفسيّ الذي تتأتى أضداده، وهى الكدورة، فتنقض العمل كما تنقض العبادة.
وبما أنّ التصوف كُلّه صفاءٌ في صفاء؛ فالكدورة آفة تأتي بالضد منه ولا شك؛ إذ الكدورة شرٌ يتقابل مقابلة الأضداد مع الصفاء.
وإذا كانت المعرفة الإلهيّة تقع من التصوف موقع الحقيقة التي تتقدّم على سواها ويتأخّر سواها عنها، فإنّ هذه الحقيقة ولا شك أيضاً لا تقوم مع العمل والعبادة والقلوب كدرة، والأرواح خاملة هزيلة بفعل الآفات التي تطعن بالجملة في شرط الإخلاص.
ويعوّل الدكتور الجزار على العمل القلبي فيما يتصل بالزهد؛ إذ يربط صلة العمل والعلم بالزهد كونها صلة تجئ في سياق متصل، وتقترب بالمشابهة لتكون في سويداء القلب كالتوحيد : سّراً من أسرار الحق لا يُضطلع عليه أحد ولا يكاشف به أحدٌ وهو عين الإخلاص؛ فكأنما التوحيد بؤرة الشعور بالجناب الإلهي، وأعمال القلوب تؤدي إليه وتسير في ركابه.
وعليه؛ “فيمكن القول إنّ الزهد في كل ما سوى الله ضرورة في كمال العمل والإخلاص فيه من أجل معرفته تعالى، وحينئذٍ لا يصبح الزهد في الدنيا مجرّد الحرمان من المأكول والمشروب، وإنما يكون في القلب شأنه شأن التوحيد (ص 48 من كتاب المعرفة).
ولهذا كان أوفى تعريف للزهد وأجمعه هو : برودة وقع الأشياء على القلب، يعني لا فرح بالموجود، ولا حزن على المفقود، ولا سرور بالمدح. الأشياء تجري على القلب عرضاً لا جوهراً وتمرُّ عليه مرور الكرام لا مرور اللئام، يفقد المرء معها التعلق؛ إذ كان تعلقه دائماً بمولاه.
لم تكن قراءة العراقي لكتاب الجزار تعني التقريظ لمُجرّد التقريظ وكفى، ولكنها كانت ذات دلالة في التخريج لرأي المؤلف وفق ما يراه في موضوع ألمّ بجوانبه وأحاط بنقاطه وأوفاها بالرجوع إلى عديد المصادر والمراجع الهامّة قديمة كانت أو حديثة كما يقول الدكتور عاطف العراقي، الأمر الذي يدلُّ في رأيه على اهتمام المؤلف الفائق بموضوع بحثه؛ إذ لم يقتصر على مُجرّد عرض هذه الفكرة أو تلك من أفكار أبي سعيد بن أبي الخير، ولكنه يلجأ إلى ربط كل فكرة بأخواتها ممّا يتصل من قريب أو من بعيد بالفكرة الأم.
وإذا كان مؤلفنا لم يكتف في دراسته، بعرض آراء أبي سعيد، فهو من جانب آخر يُقارن بينه وبين كثير من آراء الصوفية، وهذا يعدُّ شيئاً بالغ الأهمية. يعلّل العراقي ذلك، بالإمساك على تلك القاعدة المنهجيّة التي كان يفضّلها في القراءة على الدوام، وهى أن من لم يقرأ أفلاطون لا يفهم أفلاطون؛ وذلك لأن الدارس إذا هو أقتصر على دراسة أية فكرة من أفكار الشخصيّة التي يبحث فيها ويتحدّث عنها دون ربطها بالأفكار الأخرى عنده، وعند غيره من الشخصيات، يصبح حاله كحال من يضع الكتاب أمام عينيه مباشرة، فلم يعد يرى إذ ذاك شيئاً.
ويلفتُ النظر حقاً أن العراقي يلحظ في عرض الكتاب حديث الجزار عن التصوف بوجه عام من خلال حديثه المباشر عن المعرفة عند أبي سعيد، لأنه في هذا السياق يريد فهم آراء أبي سعيد فهماً دقيقاً تطبيقاً لتلك القاعدة الفلسفيّة التي سبقت إليها الإشارة، ويأخذ من أجل هذا قبساً من كلام مؤلف كتاب المعرفة حيث يقول : ولا نزاع في أنّ كل هذه الآراء إنّما ترتدُ إلى تجارب الصوفيّة، ولكل واحد تجربته الخاصّة، وهو أمر يشكّل ماهية التصوف من ناحية، ثم هو في الوقت ذاته لا يقدح في قيمة تلك التجارب، وما قد يصدر عن أصحابها من آراء من ناحية أخرى، من حيث إنّ التجارب الدينية ترتدُ إلى مواهب كل شخص وقدرته، حينئذٍ فلا غرابة أن تكون هناك صور من هذه التجربة الدينية بعدد المتدينين أنفسهم، لهذا وجب أن نلتمس معنى التصوف في حياة الصوفية لا في منطق مذهبهم (ثورة النقد : ص 744).
وربّما يتفق الدكتور أحمد الجزار، تحديداً في تلك الجزيئة الأخيرة : أعني التماس معنى التصوف في حياة الصوفية لا في منطق مذهبهم، مع الدكتور أبو العلا عفيفي، رحمة الله عليه، وهو عندي اتفاق يؤيّده إجماع البحث في ميدان التصوف، وبخاصّةٍ في هذه النقطة، ولا يؤدي الخروج عنه إلّا كما يؤدي النبوّ الذوقي عن غفلة ونكوص.
يرى الدكتور عفيفي : إنّ التصوف ينفردُ من بين جميع الأساليب التي حاول الإنسان أن يشبع بها رغبته في معرفة الحقيقة بأنه لا يفترض وجود “حقيقة مطلقة” وحسب، بل حقيقة مطلقة يمكن معرفتها والاتصال بها، فهو ينكر أن تكون المعرفة الإنسانية قاصرة على معطيات الحسّ أو على نتائج أساليب الفكر، أو على تكشّف ما ينطوي عليه العقل من معلومات؛ فإنّ هذا تحديد لمدى النشاط الروحي عند الإنسان، وتخطيط ناقص لميدان الحياة الروحيّة. ولهذا؛ وجب أن نلتمس معنى التصوف في حياة الصوفية لا في منطقهم؛ في ذلك القبس الإلهي الذي ينير صدورهم، وفي ذلك الشهود الذي يتحدّثون عنه والمعرفة التي يتذوّقونها (التصوف : الثورة الروحيّة في الاسلام، ص 16).
وقبل أن ينهي العراقي قراءته للفصل الأول من كتاب المعرفة، يرى أن مؤلفنا الدكتور أحمد الجزار قدّم دراسة تحليلية مُستفيضة تكشف عن قدرة علميّة واضحة، ثم يعمد إلى نصّ من كتاب المعرفة عند أبي سعيد (ص 54 – 55) هو الذي أنهى به الفصل الأول لينقل عنه قوله : خلاصة القول أن المعرفة عند أبي سعيد بن أبي الخير لا ترتد إلى العقل ولا إلى الحواس؛ فهما يقصران في حال معرفة الله المعرفة التي تليق بكمال ألوهيته وصفاته، ولهذا كان القلب عنده هو أداة المعرفة، ولكنه لا يتأتّى له المعرفة بالله وعن الله إلا إذا خلص من حجاب النفس بوصفها تقف عقبة كؤود في تلقي إشراقات الحق على قلب عبده، فإذا أمكن أن يخلص من تدبيرها ويتجرّد من علائقها؛ ففي هذه الحالة يكون فارغاً من كل ما سوى الله، وحينئذ يصبح محلاًّ لأنوار المعرفة الربانيّة. فقد يختار الحق تعالى عبداً من عباده ليكون وعاءً لتلقي أنواره لا بمحض عمل هذا العبد ودوام اجتهاده وحده، بل بعناية الله وتوفيقه، وفي تلك الحالة يكون هذا العبد هو وليّه الذي اختاره بمحض فضله وكرمه، وتصبح المعرفة الحاصلة لهذا الوليّ بدورها من جنس هذا الاجتباء الإلهي أو من فضل تلك المنّة الإلهيّة، ومن ثمّ تتوثق العلاقة بين المعرفة والولاية”.
وعلى نصّ الدكتور أحمد الجزار، تبدو الصّلة أظهر ما تكون بين أداة المعرفة وهى القلب وإسقاط التدبير الذي هو للنفس؛ فلن تكون المعرفة محقّقة بالفعل في قلب العارف ما لم يتخلّص من سطوات نفسه بإسقاط التدبير فيها؛ إذ ذاك يصحُّ أن يكون قلبه قابلاً للإشراقات الإلهيّة، وما دام قلبه أستعد لقبول تلك الإشراقات، وتهيئت لطيفته الباطنة لتجلي الأنوار؛ فقد ثبُتت ولايته وكمُل اصطفاءه ولمعت على مُحيّاه فضائل العرفان.
ويعلّق العراقي على هذا النّص في عبارة يراها بالغة الدلالة؛ لأنها تفرّق بين الأدلة البرهانيّة الفلسفيّة، والأدلة الجدلية الكلامية من جانب، وبين الطريق الذوقي القلبي الوجداني وهو طريق الصوفية من جانب آخر. فالصوفيّة يعرفون الله بالله تعالى، وليست معرفتهم آتية عن طريق أدلة نظرية كتلك الأدلة التي قدّمها لنا علماء الكلام والفلاسفة، إنهم ليعرفون الله بالله لا بالعقل؛ لأن العقل الذي يتخذه علماء الكلام والفلاسفة هو – من العجز بحيث لا يدلُّ إلّا على عاجز مثله، وقد أكدت أنظار المتصوفة ومن بينهم ذو النون المصري والغزالي هذا المعنى، وإن كان رأي الصوفية هذا يحتاج، كما يرى العراقي، إلى وقفة كنّا ننتظرها من جانب الدكتور أحمد الجزار في هذا الكتاب الهام (ثورة النقد : ص 744-745).
لم تكن هذه القراءة إذن مُجرّد إعجاب بالمؤلف وكفى، ولم تكن تخلو من الموضوعيّة العلميّة، ولا من بيان التفاوت في التقدير وإبراز الوقفات النقديّة اللازمة من المؤلف لتوجُّهات الصوفيّة، ولكنها كانت قراءة تكشف عن إنصاف مُشبع بالقناعة العقليّة، مُجرّد عن الهوى؛ المعياُر فيه إحقاق الحق ودفع الباطل والارتقاء صعداً في مدارج القيم العليا التي ينبغي أن تنغرس فينا كما تنغرس العشبة النافعة في الأرض الخصيب لتنبت وتثمر؛ ولأن هذه القيم العليا ذاتها لم تخلق لتخلو من آثارها في الأنفس والقلوب أو لتكون نقوشاً نزركش بها صفحات الكتب والمعاجم، ولكنها خُلقت لتكون أسساً تُقام عليها معطيات العقول، بمقدار ما تُقام عليها الحياة الفكريّة والعلميّة في كل جيل.
(وللحديث بقيّة)
بقلم : د. مجدي إبراهيم
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *