Share Button

ابراهيم عطالله

إضـــــــــــــــــاءة:

ثمّة اعتقاد راسخ في أذهان المسرحيين التونسيين وبعض من العرب مفاده أنّ المسرح التونسيّ يتصدّر قائمة المسارح العربيّة وأنّه أفضلها بإطلاق، وهو اعتقاد بات يأخذ طابعًا دوغمائيًا صرفًا، ما حوّله إلى ما يشبه النصّ الدينيّ المقدّس، ونفى عنه امكانيّة الخطأ، وجعل من الفعل المسرحيّ في تونس محفوفًا بتلك الهالة من العظمة والقداسة، دون أدنى مراجعة نقديّة لكينونته أو حالته الرّاهنة. وعلاوة على ذلك، أمام نزعة الأفضليّة والتراتبية التي يلوكها البعض من المبدعين والنقّاد في مجالات مختلفة كالندوات والدراسات أو حتّى في الخصومات المسرحيّة التي تطفو على السطح من حين إلى آخر، تعلو أصوات أخرى تدين سياسات الفعل المسرحيّ، وهي أصوات غضبيّة تشير بأصابع الاتهام إلى هياكل المسرح وطرق تسييره، سواء من حيث حماية حقوق المبدعين أو من حيث الدعم والبنى التحتيّة، بما يعني أنّ ادّعاء التفوّق الخالص يظلّ منقوصًا ونسبيًا، خاصّة إذا قرأنا المسرح لا من جهة ابداعيّة صرفة، وإنما من زوايا أخرى مختلفة، كالدراسات والبحوث والمدونة النظرية والأكاديمية، وهو ما يحملنا إلى إعادة النظر في مسرحنا التونسيّ خارج نزعتي النرجسيّة والغرور، بتسليط الضوء على سيروراته المختلفة ومجالاته وقطاعاته المتنوّعة وقضاياه الراهنة، انطلاقا من الحفر في كتاب “مسارات نحت الذات في المسرح التونسي”[1] لصاحبه الباحث والجامعي محمود الماجري، في طبعته الأولى لسنة 2015، عن دار سحر للنشر.

قلق إزاء العنوان والنصوص الموازية
ثمّة في كلّ قراءة لنصّ ما طقوس عبوره الخاصّ بما هي مرحلة أولى قبل دخول موجات متونه، والاقامة في لحمه الكتابيّ، والابحار في دم اشكالياته المطروحة، وهي طقوس تجد دليلها في ظاهرة العنونة، إذ هي الدليل والمرشد إلى النصّ المكتوب، وهي منارة ظلامه وعتمته، بوصفها “تضيء الطريق الذي ستسلكه القراءة” بعبارة عبد الفتاح كليطو، ولكنّها أيضا تمتلك شفرتها الخاصة، كأن تضعنا في مأزق منذ أوّل معالجة الكتاب المقروء، فمن سماتها الاضاءة كما التعتيم، أو الاخفاء والمواربة، وهذا ما نجد له صدى في العنوان الذي أسنده محمود الماجري لكتابه “مسارات نحت الذّات في المسرح التونسي”.

ثمّة مكر في ظاهرة عنونة هذا الكتاب، فالذّات المزمع نحتها لا تتعلّق هنا بكينونة المسرح التونسيّ، وإنّما تبحث في كينونتها الخاصّة من داخل الفعل المسرحيّ، كإطار لها، أو مكانا و فضاء، وفق ما تشير إليه الفاصلة اللغوية “في” بما تحمله وظيفتها من معان، ما يحيل إلى أن متون الكتاب لا تفصح عن ذات المسرح في حدّ ذاته بقدر ما هي تبحث عن ذواتٍ أخرى وجدت في هذا الفنّ اشتغالها وإقامتها، حتى أنّ مسارات نحتها ظلّت مرتبطة بمسارات المسرح. وأمام مخاتلة كهذه يضعنا في شراكها مؤلّف الكتاب، سيتسنّى لنا طرح جملة من الأسئلة بذات المكر: هل اللّحم النصيّ في متون الغابة الكتابية لهذه الدراسة تدين بشكل غير مباشر المسرح التونسي من حيث صعوبات زراعة هويّة له؟ وهل تلك الذّات بما هي مفهوم فلسفيّ اشكاليّ – لم يفصح عنها عنوان الكتاب بتحديدها- ما هي إلا جمع من ذوات التجارب الشخصية لبعض المسرحيين حملوا المسرح التونسيّ صخرة سيزيفيّة على ظهورهم؟ وهل ندرك بضرب من التأويل الحرّ أنّ عمليّة استنبات المسرح التونسي لم تقم على تيّارات ومدارس فنيّة ومسرحيّة بقدر ما قامت على تجربة جملة من الأشخاص؟ ألا يمكننا التسليم بنجاعة هذه الأسئلة المشكّكة لا سيّما وأنّ الاهداء الذي تضمنه الكتاب لم يذهب إلى إجراء تنويه حول تجربة مسرحيّة جماعيّة أو الاحالة إلى تيّار ما بقدر ما كان موجّها إلى كلّ من عزّالدين قنون وسمير العيادي بوصفهما قدّما إلى الساحة المسرحيّة التونسية غير القليل من المنجز الابداعيّ والفنّي!!. وإذا كان الأمر بهكذا توصيف وفق ما قدّمته لنا العتبة النصيّة لهذا الكتاب، بأيّ شكل سنفسّر النصّ الموازي الذي رافقه في صفحة الغلاف حيث أشار المؤلّف متحدّثا عن دراسته هذه بالقول: “لم تكن غايتنا من انجازها سوى تقديم رؤية عن المسرح التونسيّ حاولنا من خلالها المساهمة في الاجابة عن بعض من أسئلته، بحثا عما صنع منه مجالا مخصوصا”.؟ ثمّة إذن اعتراف ضمنيّ في هذه الشذرة تقول بأنّ المسرح التونسي يفتقر إلى رؤية واضحة وشاملة، وهنا يكمن رهان الكتاب، وثمّة أيضا بعض من أسئلته مازالت في حاجة ملحّة إلى أجوبة، ما يحيل إلى أنّ “مجاله المخصوص” يظلّ محفوفًا بنقائص ما، بما يجعل من خصوصيته الآنية أدنى من أن تجعله يتخذ صفة العظمة والنرجسية والأفضليّة والتراتبية، ولعلّنا بتسليط الضوء على القطاعات التي اهتمّ بها مؤلّف الكتاب نكتشف عوالم أخرى تفكّك سردية التفوّق لهذا المسرح وما إذا كان ممكنا في ما بعد التساؤل عن ذاته الخاصّة، وامكانيّة نحتها دون أن تظلّ صخرته مؤهّلة لنوع من التصدّع والشروخ.

البدايات: مناخ الهويّة ومصير البذرة المهاجرة
يتحقّق الفعل الثقافيّ من خلال استنباته في تربة ما، بما هو عشبتها وعنوان خصبها، ولكنّه يظل في تفاعل معها بأشكال جدّ مختلفة ومتنوعة، فما كلّ بذرة تطفو إلى سطحها، وما كلّ بذرة يمكنها أن تورق كشجرة ممتدّة الفروع، إذ يحدث أن تكون هذه التربة غير مؤهلة لاستقبال بذور معيّنة، كما ممكن أن تحبل ببعضها رغم اختلاف شروط التفاعل المشترك، ومثلما يصلح هذا الأمر من جهة علمية صرفة، فإنّه ينطبق أيضا على الفعل الثقافي والمسرحيّ إذا نظرنا إلى تاريخيّة اشتغاله في تونس، وطرق استنباته، ومراحل ذلك، بما يحدّد ملابسات هويته الأولى، بالبحث في كيفيات استقبال بذرته القادمة والوافدة والمرفدة علينا، من حيث التماهي مع خصوصيتها أو الاشتغال عليها بما يعطيها طابعا خاصا في تربتها الجديدة.

يقدّم لنا هذا الكتاب أرطالا من اللحم الحيّ حول ملابسات نشأة المسرح التونسي، فمنهجه الاستقرائي جعله غنيّا وثريّا بمعلومات متعلقة بجملة من تواريخ هذا المسرح، تفصح عن حركته ومجالاته المختلفة، وذلك من خلال استنطاق حضوره وفقا لما هو سياسي وإقتصادي واجتماعي، ووفقا لما هو متعلق بالتأثيرات الأجنبية التي تسلّلت إلى عروقه ودمه، ووفقا للجوانب الذاتية التي كان لها منظورها الخاص في بعض الأعمال المسرحية. رغم استناده إلى المراحل الأربعة الملخصة لتاريخية المسرح التونسي التي حددها محمد الحبيب، منذ مرحلة التقليد الأعمى إلى هاجس التأصيل حتى حدود رسم خارطة مخصوصة لهذا الفن، وما توّجت به من زخم فنّي كبير وتغيير اجتماعيّ فعّال، إلا أنّ محمود الماجري ينبهنا إلى أنّ حالة العقم المسرحيّ التي أصابته في المرحلة الرابعة، كانت في نفس الوقت المنعطف الذي سيجعل من الفعل المسرحي متّحذا مسارات جديدة ابداعية وانتاجية تحرّكت ضمن اتجاهين، الأول وجد اشتغاله في الخروج من الطابع النصي العربي إلى ما هو جماليّ، أما الثاني فقد اتسم بظهور الفرق المسرحية وانتاجاتها وموقف طليعة الشباب التونسي ورغبته في تثوير سائدها نتيجة تأثره بالمسارح العالمية من جهة، وارتباطه الوثيق بما يحدث على الساحة السياسية محلّيا وعربيّا ودوليّا أيضا. وقد تجلّى ذلك من خلال تجارب عديدة سمحت بظهور ببيان الأحد عشر، ثم تراجع الفرق تلك بعد وفاة بن عيّاد وظهور تجربة المسرح الجديد، ثم أفوله هو الآخر ليسمح ببروز مجموعة “فاميليا” وتجربة المسرح العضوي وغيرهما، ما جعل من المسرح التونسي يصنّف وفقا لتجارب أشخاص لا تيّارات ومذاهب، حتّى أنّ مؤلّف الكتاب صرّح بالقول “يبدو من الصعب تحديد خلفيات المبدع المسرحيّ وقراءة شواغله انطلاقا من موقفه من السلطة” وذلك في معرض تحليله لخطاب بدرة بشير التي عمدت إلى تصنيف المبدعين انطلاقا من علاقاتهم بالسلطة الحاكمة، وما يعنينا في هذا الاتجاه هو أنّه يكشف عن زاويتين مهمّتين،الأولى تحيل إلى عدم تجانس الأعمال المسرحية بما يفتح مجالا للتساؤل عن غياب مشروع مسرحيّ وطنيّ يجعل من هذا الفنّ متّخذا هويّة مخصوصة وواضحة من حيث خلفياته الايديولوجية والفكرية، أما الثانية فهي تحيل إلى أن مساراته هذه ما هي إلا حركة مازالت تراكم تجاربه المختلفة وتبحث لها عن المسالك المؤدية إلى نحت كينونته.

على صعيد آخر، أضاء مؤلّف هذا الكتاب، الجانب التنظيمي الذي شهده مسرحنا، بما هو شكل وجد اشتغاله في الجمعيات كما الفرق الجهويّة، ما يحيل إلى أن المسرح في تونس بات يشهد خارطة انتشارية كبيرة من حيث انفتاحه على الهواة والمحترفين حدّ السواء، كما أن تلك الهياكل مكنته من تحقيق حصاد ابداعيّ مهمّ، من حيث اكتشاف جملة من المؤلفين والممثلين ومخرجين، ومن حيث الاشتغال على أعمال عالمية، لكن دون أن نعرف عن ملابسات السياسات الانتاجية لها ومآزقها، خاصّة من جهة تسليط الضوء على الجماهير المتابعة للفن المسرحيّ، فرغم العدد الكبير للجمعيات والشركات وفرق التمثيل، إلا أنّه لا يمكن حصر الجمهور المتابع للعروض، ممّا دفع بالمؤلّف إلى البحث في ذلك ليصل إلى نتيجة مفادها مسالك التوزيع حتى أنّه صرّح بنبرة من التهكّم الأسود: “ألا يمكن أن نقول والحالة على ما ذكرنا أن الدولة هي التي تنتج وتستهلك في الآن ذاته؟”. هكذا نصاب برعب خفيّ نتيجة تحوّل الفعل المسرحيّ إلى فعل منغلق على ذاته، غريبا عن الجماهير. ما يزيد من هذه المخاوف أن وضع المسرح التونسي لم يتغير حتى بعد الثورة، من حيث تشريعاته وقوانينه واجراءات الانتاج وغيرها، وهو ما يتطلّب وقفة تأمّل تطيح بعنتريته وتعيده إلى ضرورة طرح تصور جديد لسائده ولراهن المهنة المسرحية بهياكلها و”نقاباتها المختلفة”.

المجالات المسرحية ومدى نجاعتها:
للمسرح التونسيّ أكثر من بيت، إذ تعدّدت خرائط إقامته بتعدّد القطاعات، المدرسية والجامعية إضافة إلى مسرح الطفل، وهي تمثّل بشكل أو بآخر بعض مجالات حركيّته، سلّط عليها، محمود الماجري، الضوء بمعالجتها ومحاولة استنطاقها، ما يحرّضنا إلى التساؤل عن مدى نجاعتها في نحت الكينونة المسرحية خارج نزعات التجارب الذاتية، أو مكملة لها جزءا أو عضوا من أعضاء الجسد المسرحي التونسي برمّته.

يتأكّد لنا أنّ مسرح الطفل شهد سديمه حراكا كبيرا قبل أن يفضي إلى أوّل جينة تأسيسية له من خلال “منظمة مسرح الأطفال والدمى المتحركة” التي تراجع دورها في ما بعد ليحلّ محلّه الاعلان عن تأسيس فرقة العرائس في منتصف سبعينات القرن الماضي، إلا أن ما يجلب الانتباه هو أن ذلك الحراك لم تبادر به المؤسسات الرسمية للدولة بقدر ما بادر به أشخاص أغرتهم التجربة، مثل منصف شرف الدين ومحمد الشريف بن يخلف ومبادرة ناصر خمير التي تمثّلت في تقديم عرض تحت عنوان “ياسمينة، الطفلة إلّي قتلها بوها”، ما دفع في ما بعد إلى ظهور تجارب مسرحية عديدة تبنّتها الشركات والجمعيات ومراكز الفنون الدرامية والمهرجانات، غذّته أيضا حماسة أبناء المعهد العالي للفنّ المسرحي تجاه هذا النوع من المسرح، وهو وإن كان يعدّ فتحا نبيلا كما وصفه مؤلّف الكتاب إلا أنه يظل أيضا في حاجة إلى مزيد من التخطيط من حيث التوزيع والبحث والمراكمة، وذلك بهدف “نحت” مستقبل الحركة المسرحية بما يوفره مسرح الطفل من مناخ مساعد في ذلك، وهو أمر قد لا يتحقّق نتيجة عدم الاحاطة به من قبل الدولة نفسها وذلك عبر ما صرّح به المؤلف بالقول بضرورة سنّ “تشريعات مخصوصة حتّى لا يظلّ على الدوام الابن الفقير للحركة المسرحيّة”.

أمّا بخصوص المسرح المدرسي، فقد أكّد الباحث والمؤلف منذ أوّل شذرة تلت عنوان العنصر المعنيّ بهذه المسألة بأنّه ثمّة إكراهات راهنيّة تقوّض ما له صلة بامكانية نحت تجربة مخصوصة خاصّةا على مستوى النظريّ، حتّى أنّه في ما بعد تمّ التغافل على مسائل عديدة لخّصها المؤلّف في أربع نقاط، ألا وهي تحديد الرهان من وجود المسرح واشتغاله في حيّز الحقل المدرسي، وتحديد البرامج بما يتلاءم والحاجة العمرية، وتمكين المرشدين المسرحيين من معرفة وضعيتهم من حيث هم مدرّسين أو مسرحيين، ثمّ معضلة الفضاءات في المدارس، وزيادة على ذلك يمكننا لفت الانتباه إلى أن هذه المسألة مازالت رغم انتشارها حكرا على مدارس دون أخرى، بما يخلق فوارق تعليميّة كبيرة بين تلاميذ هذه المدرسة أو المعهد وتلاميذ مدرسة أخرى حدّ الآن لم يعرفوا عن المسرح شيئا

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *