Share Button

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

إصلاح اللغة يدرأ فسادها؛ فكما يتمُّ درء الفساد لأي قيمة بإصلاحها والتوجُّه إليها وعناية قادة الرأي في الأمة بها فضلاً عن كل مخلص لها؛ فكذلك يتمُّ إصلاح قيمة اللغة بدرء الفساد عن كل ما يلاحقها أو يطعن في مصداقيتها.

إنمّا فسدت اللغة بفساد أذواق أبنائها؛ فما ترك من الجهل شيئاً من يظن أن القارئ من الجهالة بحيث لا يقف على فضيلة الصدق في كتابات الكاتبين.

وأغبى الأغبياء هو الذي يفترض الغباء في الآخرين. والصدق الاعتقادي كما تقدَّم من أعظم القيم الإيمانية وأكثرها دلالة على الشعور الديني. وموطنه القلب. والقلب – كما تقدَّم أيضاً – هو الدافع للوعي؛ فلولا القلب ما كان الوعي، ولولا الوعي ما كنا أدركنا شيئاً حقيقاً بالإدراك أو خليقاً بـ تحصيل القيمة.

وكنوز قلوبنا قاعها سحيق، ومعارف القلوب أعمق بكثير من معارف العقول والأذهان؛ إذْ كانت القلوب خزانة التجارب البشرية كلها، وهى في الأصل مستودع لكل ما هو معروف أو مجهول من وعي الإنسان.

أنا شخصياً لست أَمِلُّ من تكرار ما كان ذكره أديبنا الكبير “توفيق الحكيم” في كتابه “تحت شمس الفكر” في أسلوب الكاتب نقلاً عن “يوفون” من أن:” الأسلوب هو مزاج الفنان وطبيعته، ووسيلته الخاصّة في إظهار مكنون فكره، أو هو الشخص على حد تعبير “يوفون”. إنّ الكاتب إذْ يخلو إلى نفسه وقلبه، ويترك التصنّع والتقليد، يستطيع أن يهتدي إلى أسلوبه، لكن لا تظن الطريق هينا ً: ذلك الطريق الوعر الشاق الطويل بين الإنسان وقلبه.

إنّ القلب البشري لأعمق من أن يستكشف قراره من أول نظرة. إنّ قلب الإنسان بئر سحيقة رسِّخت فيها تجارب جنسه وأمته آلاف السنين، طبقة فوق طبقة؛ فعليه إذن أن ينزل طبقات هذه البئر..!”.

هذا صحيح، ولكن كنوز قلوبنا العميقة في الغالب لا قاع لها، بحيث يمكن للإنسان أن ينزل هذه البئر الغائرة إلى الأعماق؛ ليكتشف كنوزها الدفينة وأسرارها الخفية العجيبة.

هذه الكلمات الصادقة هى أدعى إلى التأمل وأحرى بالاهتمام وأولى بالرعاية في كل حال؛ لأنها أدعى إلى معرفة أسرار القلب البشري؛ فيما لو كانت معارف القلوب لدينا أولى بالعناية ممّا سواها.

أما أسلوب الكاتب نفسه؛ فهو شيء يدعو وحده إلى التأمل والدهشة معاً؛ لأن الكاتب صاحب الأسلوب هو نفسه الكاتب المبدع على الحقيقة. أذكرُ أنني منذ سنين طويلة كنتُ شاهدت برنامجاً تلفازياً كان يقدّمه الأستاذ الراحل “فاروق شوشة”، وهو برنامج “شريط الذكريات”، كنتُ متابعاً لهذا البرنامج الثري والداعم للثقافة والمثقفين، فاستضاف يومها الدكتورة “عائشة عبد الرحمن”، فتكلمت عن الأسلوب بعبارات قليلة ومقتضبة، استطعتُ أن أستخلص من حديثها ما يفيد أن الكتابة بأسلوب راقِ ومؤثِّر نوعٌ من الإبداع.

الأسلوب شعور، وإحساس، وجمال، ونزوع بالجملة إلى الأمثلة العليا، بالإضافة إلى كونه عقلاً، ودراية، وتحليلاً، وخبرة طويلة في توظيف مخزون اللغة.

ولماذا يكون الأسلوب الممتاز نوعاً من الإبداع؟ والجواب: لأنه مجموعة من أعصاب تتذوق وتتحرك وتلتقط من ثمار التذوق ما من شأنه أن يدل على خصائص صاحبه، على بصمته الخاصّة.

وما الإبداع إلا فكرة في أسلوب. الفكرة عقل يبدع. والأسلوب كتابة وإنتاج. لا ريب أن الكتابة بأسلوب راق نوع من الإبداع؛ إنْ لم يكن هو كل الإبداع على الحقيقة التي لا يشك فيها مبدع يبدع فكرة بأسلوب ممتاز.

كثيرون، كثيرون بغير حصر ولا تعداد هؤلاء الذين يكتبون دون أن تحمل كتاباتهم شيئاً من باطن نفوسهم، ولا أسلوباً يدل على ذواتهم، يكتبون لا لأنهم أصحاب رسالة، ولكن لأنهم يعيشون على ما يكتبونه؛ ولأنهم أقدر الناس على الكذب والتلفيق وخيانة الرسالة، وأفقرهم في لوازم التربية الأدبية والروحية : تربية الضمائر والقلوب؛ فلن تجد لأجل هذا لهم صدى، ولا لكلماتهم رغم كثرتها الكاثرة تأثيراً، لا تتجاوز أقوالهم الآذان ولا تنفذ إلى شغاف القلوب، ولا تحمل قط دلالة واحدة في سبيل التغيير؛ فما من حياتهم شيء على الإطلاق يوافق أفكارهم؛ وما من أفكارهم مورد يتكئ عليه هذا الأصل القلبي الشعوري الذي من شأنه أن يورث القارئ مواريث الفكرة المهذبة والأدب الأصيل واللغة الشاعرة والأهداف السامية، ناهيك عما ليس فيها كذلك من حال يثمره العلم النافع والبحث الجاد؛ ليدفع المرء دوماً إلى العلم المقرون بالعمل.

ما من أحوالهم – وأغلبها من ورثة المعارف السطحية والقشور العرضية – مقصد يثمر العمل البناء ويسلك القارئين – إنْ وجدوا – سلوك التغيير في الباطن قبل الظاهر، وفي المضمون قبل القشور، وفي الجوهر قبل السطح العائم والقشرة الخارجية.

لك أن تتصوّر، فيما لو شئت، كاتباً يقول وحياته هى هى قوله لا يتعداه، ويكتب وحياته هى هى فكره الذي يؤمن به ويخوضه دوماً في رحاب التجريب، ينظر ويحلل ويدون ويبين، وكل هذا كله “ذات نفسه” : حياته منشورة من أعصابه ودمه وطواياه على الأوراق، ذلك هو هو “الصدق” توخَّاه في التعبير كما تقدّم وتوخَّاه قبلاً في طريقة التفكير.

مرة أخرى: حين نقول كلمة “الصدق” فنحن نقصد بها كل ما في القلب البشري من إيحاءات روحيّة وتوجهات معرفية وإشعاعات إصلاحية في سبيل التغيير المطلوب نحو الأفضل في كل حال؛ إنْ في النفس وإنْ في الواقع؛ إنْ في الضمير والباطن وإنْ في الحياة الاجتماعية الخارجية.

وليس بعجيب عندنا أن يكون للقلب البشري صلاحيات التوجهات الكبرى للإنسان، هو لب الإنسان وجوهره الفاعل على وجه الخصوص، فالتعويل عليه كل التعويل حقيقة معرفية فضلاً عن كونها حقيقة واقعية لأنها قبل هذا وذاك حقيقة قرآنية :”إنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَار وَلكن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتي في الصِدُور”؛ حتى أن بحوث الطب النفسي الحديث تؤكد فيما رواه أحد أساتذة الطب النفسي في لقاء تلفازي – هو الدكتور أحمد عكاشة – أن بحوث علم النفس الحديثة أثبتت أن في القلب ذاكرة هى أقوى وأهم وأنفع مما يوجد في مخ الإنسان من ذاكرة، وتسمى هذه الذاكرة بــ ” الذاكرة الخلوية “، وهى لا توجد في المخ بل مكانها القلب، وأنها لمسئولة عن الكيان الحيوي للإنسان، بمقدار مسئوليتها عما فيه من وعي كوني، وهى جامعة لكل ما في الإنسان من حياة.

وقالوا: في بعض الحالات الخاصَّة، عند انتقال قلب من إنسان إلى إنسان آخر، يجيء الإنسان الذي انتقل إليه هذا القلب يحمل جميع الصفات والأفكار وجملة النشاط الحيوي، ويتصرَّف كما لو كان يتصرف الإنسان المنقول منه ذلك القلب، هى حالات فردية لكنها أثبتت أن هذا الكائن العجيب (الإنسان) فيه أسرار إلهيّة ليست ممّا يصل إليها العلم الحديث بعدُ، وأن أسرار الله فيه لم تزل تحت طور الاكتشاف، وما أوتى الإنسان من العلم في هذا الجانب وفي سواه إلا قليلاً، لكنه مع ذلك يزعم أنه جُرْمُ صغير وفيه أنطوى العالم. الأكبرُ كما قال الفيلسوف الصوفي ابن عربي.

إنّ هذه الخليّة القلبية المُعَبَّر عنها بــ “الذاكرة الخلوية” لهى مجمع الحياة فيه تظل معه يحملها في جميع مراحل حياته، لكأنما القلب أهم من المخ، وأن فعل المخ أدنى وأقل بكثير من فعل القلب، قد يظل الإنسان حياً لا يموت ما لم يمت فيه القلب، وأن القلب هو السيد، وهو القائد المتبوع، وهو المحرك للكيان الآدمي كله بغير خلاف : حقاً صدق قول الله تعالى :” إنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَار وَلكن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتي في الصِدُور”.

لم يكن جزم القرآن بنفي العمى عن الأبصار وإثباته للقلوب التي في الصدور إلا لتأكيد حقيقة “الوعي القلبي” الذي تتفتح منه آفاق المعارف الإنسانية وطاقات العلوم النورانية، ويعول عليه في كل حال ولا يعوّل في الحقيقة على سواه.

هذا الوعي القلبي هو أعم وأشمل من العقل؛ إذ العقل مهما كان وأياً ما كان محدود بحدود ما يفكر فيه، فوعيه ناشئ عن الحركة الضيقة التي يدور في فلكها وعن الواقع المشهود الذي يتقرر أمامة فيفكر فيه، بخلاف الوعي القلبي المحمل الذي يدرك الإنسان ويدرك في الوقت نفسه ما يحيط به من وعي كوني أسمى من العقل المحدود.

ومعرفة هذا الوعي القلبي خاصّة لهي المادة الأولية لمعرفة أسلوب الكاتب : لغته وحرفه. وفي هذا وحده ما يكفي لتقرير حقيقة وهى أن اللغة باقية فينا ببقاء ما لدينا من حياة القلوب الواعية المضيئة بأنوار الحقيقة الدائمة فمادام القلب هو الأصل والمعرفة التي تترتب عليه قائمة على ذلك الوعي، فليس أصدق ولا أبلغ من إظهارها عن طريق حرف الكاتب ولغته لأنهما أبلغ الوسائل التي يخرج بها هذا المكنون الخفيّ المطمور في أعمق أعماق القلب.

فلا بدّ له من معاناة، ولا بد من تجربة كاشفة تحمل قيماً، وتضيء نوراً وتشع ضياءً، وتسمو للناس ويسمو الناس بها. وإنه؛ مادامت وسائلُنا ضعيفة قاصرة وقدرتنا عاجزة مشلولة أو تكاد، فإنها لأدل دلالة كافية على عمى القلوب التي في الصدور : مصدر المعرفة ومنبع النور.

فاللغة التي هى وسيلة التعبير متصلة اتصالاً مباشرة بالوعي القلبي نقاؤها وصفاؤها من نقائه وصفائه.

النور للقلب واللغة المستنيرة تصدر من نور القلب فكل ما تنقله اللغة من معارف هو من ذلك النور القلبي؛ لذلك تثبت في القلوب التي تكون على شاكلتها : لغة سامية، مؤثرة، حافلة ببلاغة التغيير (وللحديث بقيّة).

بقلم : د. مجدي إبراهيم
أستاذ الفلسفة الإسلامية

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *