Share Button

د. مجدي إبراهيم

شاعت في مصر منذ سنوات ثورة صُحفية على اللغة العربية بين مؤيّد ومعارض، حول كتاب كان ظهر يومها بعنوان “لتحيا اللغة العربية .. فليسقط سيبويه”! نحن لا ندري بالحقيقة: علام استقرت فيها النوايا؟! أإلى خمود ووجوم وعزوف وإعراض، ثم اعتبار هذا الذي حدث كله مثل “زوبعة في فنجان”! أم إلى تفجير طاقات العمل الجاد نحو ما ينبغي عمله إزاء اللغة التي ندين لها بالهُويَّة والمحبة والتواصل والعرفان؟!

فلئن كانت “الثورة” أسفرت عن ركود وضمور، كأن ما حَدَث لم يكن من الأصل قد كان، فهو اللعب الفارغ بالضمائر والعقول، والتسْرية التي لا موضع لها ولا ضرورة فيها في هذه المرحلة الزمنية الحرجة التي تفترض التماسك والترابط والتخلي عن الشكليات الباردة في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى حفظ الهُويَّة معصومة من عوامل التشتت والتمزق والبلبلة والتفريق.

ولئن كانت “الثورة” قد أنتجت نظاماً تجديدياً يمنح الواقع المصري قوة بعد ضعف، وتماسكاً بعد فُرقة، وإعادة بناء في العملية التربوية والتعليمية بعد قشور فارغة وسلبيات مستشرية؛ فهو المُراد بالتغيير المرجُوِّ وهو الأمل المأمول بكل تأكيد. وأغلبُ الظن عندي أن هذا الافتراض الأخير لا يمسُّ الواقع الفكري والثقافي ولا حتى الواقع الفعلي بكل ضروبه في شيء، كائنة ما كانت مثل هذه الثورات المفتعلة التي تقوم في الأغلب الأعم بغير روح مسنودة على كيفية الوعي المدرك لفكرة التغيير، بل تتكاتف فيها أنظمة التعصب والشللية البغيضة، وألاعيب صبيانية صغيرة تفترق أحياناً وتجتمع، ولكنها حين تجتمع لا تجتمع إلا على سوء ما اجتمعت عليه.
أغلبُ الظن عندي مرة ثانية؛ أن الذي حدث منذ سنوات كان “مقامرة لاهية” بين فريقين، أحدهما: لا يجد ما يقوله إذْ يعتمد على فضول القول وقشور الآراء فيما يأخذ من هنا ومن هناك مادةً قديمة لا يُعمل فيها عقله ولا فكره ولا ضميره ولا روحه، قد سبق أن أثارها الناس ولا يزالون يثيرونها بين حقبة وأخرى؛ تحت حجة التجديد المختلق وذريعة التطوير الذي تفرضه الضرورة العملية. وإنه لاضطراب يُشاع من أجل تفتيت مقومات الأمة العربية والإسلامية في أعز ما تملك، بادئ الرأي فيه سلامة النية، وباطنه على التحقيق حملة عنيفة كاسحة (أو إنْ شئت قلت: حملة كاسدة) بدأت مع طلائع حملات التبشير الذي سبق الاستعمار الغربي للبلاد العربية والإسلامية، بل استعمار الشرق كله فيما لو استطاع، يهدفُ إلى تدمير اللغة العربية، ومحاربتها بأشد صنوف المحاربة، والاعتداء على حرمتها؛ وبخاصّة إذا كانت هى لغة القرآن: لغة الدين ورمز الوحدة التي يريدون لها أن تتفرّق فلا تعود أبداً لا تعود !
هذا هو الفريقُ الذي أثار الزوبعة القديمة فقالوا عنه غافلين: إنه ألقى بحجر في مياه راكدة. وفي الحق؛ ما كانت مياه اللغة لدينا أبداً راكدة، بل نحن أبناء العربية .. نحن الراكدون!
أما الفريق الثاني؛ فهو الفريق المدافع عن اللغة الغيور عليها، وينقسم هذا الفريق إلى قسمين: الأول؛ تشتمُّ في كتاباته رائحة المجاملة على حساب الولاء للقيم وتخفيف حدة البيان المضاد الذي من شأنه إزاء الكوارث أن يشتد ويحتد ولا يعرف – من ثمّ – مثل هذه “المحسوبية” الخبيثة؛ ولو جاءت من الصديق، والعزيز، والأخ، والأستاذ. وعذر هذا القسم من ذاك الفريق أنه يحسب أن معارضة الاجتهاد غبنُ للمجتهدين، ولو فطن إلى الحقيقة لأدرك أنها فوضى من فوضى، ولها بالفوضى نسبُ عريق.

أما القسم الثاني – وكاتبُ هذه السطور منهم – فهو الذي يرفض رفضاً باتاً وقاطعاً كل محاولات المساس باللغة في قواعدها وإعرابها واشتقاقاتها، وإيحاءاتها ودلالاتها، أو تحويلها إلى عامية تافهة، ولا يعيب اللغة في ذاتها بمقدار ما يعيب المنتسبين إليها ممن صرفوا عنايتهم كلها نحو الدِّعة والاستكانة وهاموا بعيداً عن أصولهم هيام السوائم نحو ما يشتهون؛ فإذا باللغة وقد تبدَّت عندهم جوامد صخرية صلبة تحجَّرت فلم تتطور منذ أن نزل بها القرآن الكريم، الموصوف من قبيل الله تعالى باللسان العربي المبين.

كانت لغة العرب قبل القرآن هى ترْيَاقهم وحياتهم الروحية والشعورية، وهى إعجازهم وتفردهم بها بين الأمم؛ ولما أن نزل القرآن الكريم زادها إعجازاً، ونزل بالإعجاز فيما تميزوا به، ولكنه الإعجاز الذي يُعجز العاجز عن البيان أن يسيغه ويتذوقه ويتحلَّاه. ومن هنا؛ فقد أراد من أراد للغة أن يجمِّدها ويحجِّرها، نظراً للعِيِّ الذي لا يرقى قط إلى بلاغة البلغاء، ونظراً للجهل وللغفلة، ونظراً للنكوص وللتردي.

أقول؛ أراد من أراد للغة أن تتوقف وتجمد ويُسْتبُدَل مكانها، ولا تجري جريانها على الألسن والقلوب كما كانت تجري سليقة وتذوقاً يوم مهدها وعنفوانها وقوتها وحيويتها من غير أن يعيقها عائق من طبع النفس أو من سليقة الذوق والأداء، ومن غير أن يصدَّها تغرير العجز والعيّ تحللاً من القواعد والأصول.

يريدون أن يجدِّدوا فيها القوالب المتحجِّرة أو لعلهم يكسروها لو استطاعوا، ولسان حالهم يقول:”إنّ لغة القرآن ثابتة كما الحجر لا تواكب تطورات العصر الحديث بكل ما فيه من كشوفات العلم واختراعات التجارب الجديدة”. ما هذا السَّفه؟! وما دخل العلم الحديث: كشوفاته واختراعاته بذوق اللغة العصرية؟!

كل شيء تريدون أن تقحموا العلم المادي فيه، كل شيء؛ فبدلاً من أن تلوموا أنفسكم الوانية، وتنعوا عليها فقدان الإحساس بجمال الكلمة العربية، تثورون من فوركم عند أقرب زوبعة عارضة على اللغة الشاعرة: ألفاظها ومعانيها، وإعرابها ونحوها وصرفها، وثراؤها اللفظي الخصيب.

كثيرون هم الذين يزعمون لأنفسهم أنهم مجددون لأنهم يغيرون الألفاظ من سياق قديم إلى سياق جديد، ويقتصرون في تجديدهم على المباني اللفظية ناسين أو متناسين أن التجديد في الواقع يقع على الروح: الروح هى التي تبدع الفكرة، الروح هى التي تحتمل أن يكون فيها التجديد لأنها هى مصدر الفكرة الخلاقة، وليس التجديد مطلقاً ينصب على المبنى، ولن يكون تجديداً وهو مُجَرَّد تغيير في طريقة التركيب اللفظي وكفى. إنّ هذه التقاليع الغريبة إنما هى كزازة طبع يعافها وعي الإنسان المضبوط بضوابط الإدراك العلوي، لا ريب أن الروح التي تنبض شاعرة بهذا الوعي لهى التي تجدِّد ثم تعطي التجديد حقه من العناية والرعاية فيما لو شاءت تلك الروح أن تعطي هذا المستوى من “إدراك القيمة” في الوعي، وفي العقل، وفي التطبيق.
وأنا بدوري في تلك الخطوط العريضة من هذه الدراسة, لست أنوي مطلقاً أن أردَّ على ما كان جاء في الكتاب السالف الذكر, فقد سبق لي الرد عليه في حينه يوم نشرت مقالاً بالأهرام المسائي بتاريخ (7/9/2004 م)، هادماً بذلك فكرة الثورة التي أثارها الكتاب (لتحيا اللغة العربية فليسقط سيبويه) يوم ذاك من أساسها؛ غير أنه كان هدماً في إطار القيم، وفي مستوى ما كانت تعالجه الفكرة المعروضة في حينها، ولكنني أنوي أن أضع خطوطاً رئيسة واضحة، نستطيع من خلالها أن نستخرج قيماً من اللغة تتحدث عن ذاتها، وترد على من يهضمها حق الرد أو حق البقاء بين شعوبها وأبنائها.

إنّا لنتناول بعض الملامح التي لا يستغني عنها العربي إذا هو أراد للغته أن تنهض، بمقدار إرادته لعروبته أن تحيا في نفسه وفي نفوس الآخرين حياة طيبة مُعَافة من اللغط يحترم فيها هذه النفس ما بقى على قيد الحياة، وبمقدار ما يستشعر الضرورة الواجبة نحو لغة قومه ووطنه وبلاده، وهى ضرورة تدفعه دفعاً إلى مزيد من معرفة لغته وإلى مزيد من حرص عليها وعلى أسرارها ورفعتها بين قومه، وتطورها مع عوارض التطور الذي لا تخلو منه لغة من اللغات البشرية.

إنما اللغة تسامح؛ واللغة فكر، واللغة أدب العروبة الأصيل، واللغة علاقة حميمية بين كاتب يبدع وقارئ يتلقى على أريحية الصفاء والموافقة مثل هذا الإبداع، واللغة إدراك لكل المزايا العربية، والحفاظ عليها حفاظ في الوقت عينه على تلك المزايا في الوجدان العربي، والانخلاع عنها انخلاع في نفس الوقت عن ربقة العروبة والوطنية والدين والأصالة على التعميم.

هل تصدِّق لو قلتُ لك: إنّ ظواهر العنف ومشاكل العصبية تـُرَد في أول مقام إلى “اللغة”، وأنه كلما اتَضعت اللغة وانحط استخدام الناس لها زادت بينهم العداوة والبغضاء، وتمادوا في العنف إلى أسفل درجة، وكثرت مشاحناتهم على غير سبب معقول أو مقبول حتى ليقالُ عنهم إنهم: إرهابيون لا يعرفون الرحمة، ظلاميون لا يرون النور، جاهلون لا يأخذون بالعلم، متخلفون لا يدركون عوامل التقدم، متعصبون لا يفهمون التسامح، مستبدون لا ينشرون الحرية، ضعفاءُ لا يعرفون القوة، مرضى لا تبدو عليهم علامات العافية، فقراءُ لا يدركون الاستغناء، عجزة لا يقتدرون على البناء، مفلسون بضاعتهم الكلام، جبناءُ لا يملكون الشجاعة، مقلدون لا ينشدون التجديد، مفسدون لا يأمِّلون الإصلاح، دكتاتوريون لا يطيقون الديمقراطية، منغلقون لا يقصدون الانفتاح، متشددون لا يعرفون التسامح، انعزاليون لا يبتغون المحبة، عدوانيون لا يحققون السلام، أشرارُ لا تتقدم لديهم مقاصد الخيرية قيد أنملة !

كلُ هذا، وكثير غيره، من اللغة، وفي اللغة، يظهر!
هل تصدق لو قلتُ لك: إن العنف مرتبط بالفساد اللغوي, وإن فساد اللغة بين أهلها لهو عين مظاهر الإرهاب والظلام والجهل والتخلف والضعف والمرض والفقر والجُبن والعجز والإفلاس والتعصب والاستبداد والشرور التي قَلَّ أن يحصيها قلم أو تعددها كلمات؟

كل فساد مرهون بالتحلل من القواعد، وكل انحراف عن الجادة مرَدَّه إلى انحراف عن المعنى والدلالة والقيمة والوجود الحق والحقيقة الباقية، وكلما انحرفنا عن المعنى لم يبق لنا إلا القشرة السطحية والغلاف البرَّانيِّ، وضاق بنا الوجود تحت شمس الفكر المستنير والحرية المسئولة فألتمسناه في المضايق المتحجرة من ظلمات الجاهلية البعيدة السحيقة المتخلفة!

وليس من شك في أن مكانة اللغة لهى من مكانة الشعوب، تتخذ قوتها ونشاطها وتقدمها، وكلما اهتممنا بمكانة لغتنا فينا، اهتممنا تباعاً بمكانة وجودنا على هذه الأرض حتى إذا ما أردت أن تعرف قيمة الشعوب العربية الآن – كيما تعرف مكانتها بين الأمم – فما عليك إلا أن تنظر إلى حال لغتها: ماذا عَسَاهَا تكون بين عقلاء أبنائها ناهيك عن وضعها بين من لا يتخذون العقل قبلة لهم وهداية؟

فإذا أنت وجدتها مُهلهلة مخلخلة تافهة ساقطة، فاعلم من فورك أن الشعوب العربية بمثل تلك الصفات من التدهور والانحلال والتفاهة السقوط وخلخلة الصفوف، وبخاصة خلخلتها في منظومة القيم، وأهمها وأقربها في هذا السياق “قيمة اللغة”.
أنا لا أعقلُ أمة قوية ناهضة تمضي بعزم في طريق الأسوياء الأصحاء الناهضين، ثم تهدم أخص خصائص هُويّتها بيدها وبيد أبنائها: تهدم ماذا؟ تهدم اللغة بمقدار ما تهدم الفكر؛ ففي هدم اللغة هدمُ للفكر بكل تأكيد. ولما كان الفكرُ هو اللغة، وكانت اللغة هى وعاء الفكر؛ فلا ريب صار هدمها للغة هدماً لطريقة التفكير والتعبير، بمقدار ما هو هدم في نفس الوقت للمواطن الحيوية الفعالة في وعي الفرد ووعي الجماعة على السواء؛ إذْ بفقدان اللغة يفقدُ العربي طريقة تفكيره، ويفقد خصائص هذا التفكير وأصوله ومبادئه وثوابته التي تقوم عليها ثقافاته وحضارته، أي يفقد أيديولوجيته؛ وإذا فقدت منه أيديولوجيته، فقدت حياته الحيَّة القويَّة والمؤثرة كلها على الجملة فضلاً عن التفصيل؛ لأن فقدان الأيديولوجية معناه فقدان الهُويَّة الخاصة المميزة له دوناً عن سواه. (وللحديث بقيّة).

بقلم: د. مجدي إبراهيم

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *