Share Button

بقلم : د. عصمت نصار

تباينت تعريفات المعنيين بالدراسات الرُّوحيّة قدماء ومحدثين حول مصطلح (التصوف الاسلامي) فعرفه بعضهم بأنه هو : التخلق بالأخلاق الإلهيّة، وبالوقوف مع الآداب الشرعية، ظاهراً : فيرى حكمها من الظاهر في الباطن، وباطناً : فيرى حكمها من الباطن في الظاهر، فيُحصل للتأدُّب بالحكمين كمال. ويعرفه المحدثون بأنه : هو العلم الذي يصوّر المثل الأعلى الإسلامي في الأخلاق. بينما يعرفه خصومه بأنه علم الشطط والبدع، وأن في ممارسته مروق وتجديف. وينزع منكروه الى أنه ضربٌ من ضروب الجهالة والخرافة، وأنّ أربابه من المشعوذين والمتواكلين وأراذل الناس، وهذا الرأي لا يخلو من المغالاة والافتراء.

أمّا عندي هو الحكمة العمليّة للحب الجامع بين كمال العبودية وجمال وجلال الربوبية, وجوهره المجاهدة والاجتهاد والجهاد؛ فالمجاهدة لتلك النفس التي لم تعرف كيف تحب فأغرتها اللذائذ المادية وغوتها الشهوات الحسية وأماتتها الوسوسات الشيطانية. والاجتهاد في فهم ما استتر ومعرفه ما خفى من الخبر وتأويل ما بطن وما ظهر من كلام البارئ، وسنة خير من بعث وشكر، والجهاد في نشر السماحة والسلام والعمل على إسعاد كل الأنام وغرس المحبة والرفق باللئام قبل الكرام، ومدح كل ملة تنزه وتعظم الرحمن وتدين بالإسلام. وقد استلهمنا هذا التعريف من فيض وروح تعاليم مفكرنا وكلماته. فقد عبر مفكرنا في دراساته وتحقيقاته عن تلك المعاني وذلك الجوهر وهاتيك المناهج والطرائق والسُّبل. هو الدكتور محمد مصطفى حلمي          (1904 – 1969) رائد الدراسات الصوفية العربية في العصر الحديث، والمفكر المصري الذي أثرت مؤلفاته وتحقيقاته وترجماته المكتبة الفلسفية العربية، وهو المتفلسف الذي نظر الى الفلسفة باعتبارها أفعال وأن التصوف منها سلوك وليس مظاهر وأقوال.

ولد مفكرنا في حي شبرا بالقاهرة، في أسرة إسلامية الخصال والفعال فجميع أعضائها يدين بالورع ويمقت الجشع والطمع، وعُرفوا بين الناس بأنهم عشّاق المساجد وأهل المروءة والتسامح، فنشأ الصبي في معيّتهم على حبّ النبيّ وخصاله وسنته، وتلقى تعليمه الأوليّ في مدارس شبرا حتى حصل على الثانوية القسم الأدبي عام 1923م، وفي هذه الآونة وهو في ريعان الشباب أبتلاه الله بكف البَصر، فلم يجزع بل حمد وشكر، واتخذ من بلوته دافعاً لاجتياز كل العقبات وراح يعبد الله بنفسً راضية في مقام الجهاد.

وقد دوَّن هذه المحنة في مذكراته التي بدأ في كتابتها قبل إصابته بكف البصر بشهور أي عام 1922م، وجاء فيها بصيغة الغائب (وقد تعرض – صاحبنا – لمحنة من أشد المحن على نفس شاب في مستهل عهده بالشباب، فإذا هو يُمسي ذات مساء يوم من أيام الشتاء، وقد أكفهر وجه السماء، وأرخى الليل سدول الظلماء، فأسدل معها على عينيه حجاباً لم يبقي له إلا مساغاً لشعاع من ضياء، ولكنه قد كان إيمانه بالله ومشيئته إيماناً قوياً، واطمئنانه الى الله وقدرته اطمئناناً نقياً، لم يسعه إلا أن يقف من المحنة موقف الصابرين، ومن الله موقف الشاكرين، وكان في ذلك، وفي كل ما عرض له بعد ذلك من المتفائلين الراضين؛ لأنه قد رسخ في عقله وفي قلبه أن الله خيرٌ فلا يمكن أن يريد به إلا خيراً).

وفي عام 1925م أصر على دخول الجامعة ليدرس الفلسفة اقتناعاً منه بأنها السبيل الأوحد الذي يمكنه من التعرّف على العالم ببصيرته وأريحيته وذهنه إذا ما أحسن تعلمها، وذلك عوضاً عن بصره الذي فارق عيناه، وفي عام 1929م حصل على ليسانس الآداب بقسم الفلسفة، ثم عين مُعيداً عام 1932م ثم حصل على الماجستير وكان موضوعه (نظرية الجوهر عند ديكارت وسبينوزا) عام 1937م تحت إشراف الفيلسوفين الفرنسيين أندريه لالاند وإميل برييه، ثم حصل على الدكتوراه عام 1940م بعنوان (ابن الفارض والحب الالهي) تحت إشراف الشيخ مصطفى عبدالرازق بمرتبة الشرف الأولى. وعُيّن مدرساً عام 1941م في نفس القسم، ثم أستاذاً مساعداً عام 1948م. وفي عام 1954م تقدّم لشغل وظيفة أستاذ كرسي الفلسفة بكلية الآداب مع زميله الدكتور عثمان أمين، وقد اقرت اللجنة المحكّمة بأحقيتهما معاً بالدرجة، غير أن الفساد الإداري حال بين مفكرنا وبلوغ ما استحق، ومنحت الدرجة لزميله الآخر دون تبرير. وقد قابل مفكرنا ذلك الظلم بصبر جميل وروح ضاحكة ومتهكمة على طمع الطامعين فحمد الله وشكره على ما قدّره وفعله ليختبر تلك النفس المحبّة لوجهه دون سواه.

وبعد بضع سنوات عاد مفكرنا للتقدّم مرة ثانية للحصول على نفس الدرجة ولم ينلها بحجة أنه لم يتقدّم بأوراقه في الموعد، ثم تقدّم للمرة الثالثة عقب إعلان الجامعة عن حاجتها لمن يشغل هذه الدرجة فتقدّم إليها فاعتذرت إدارة الجامعة عن قبول طلبه بحجة اقترابه من سن المعاش عام 1964م.

ويبدو أن ظلم ذوي الاحتياجات الخاصّة له جذور مكينة ومتينة في ثقافة المجتمعات والإدارات والهيئات المريضة والنفوس التي حاق بها العطب بعد أن شغل منها الحقد موضعاً لا شفاء منه، وأصابها العمى الذي حجب أعينها عن رؤية طريق الصلاح والفلاح.

وخلال عمله بالجامعة كان مثالاً لكل – ما نفتقده الآن من خصال – الأب والمعلم والعالم الأريب المحنك الراغب في تثقيف النشء وصنع عقول الرجال وتربية وتوعية طلابه وأصدقائه ومريديه، وأنموذجاً رائعاً للوفاء والإخلاص لأساتذته ورفاقه، وذلك لأن الحبَّ والبر قد منحهما الله له عوضاً عن نور مقلتيه.

وقد رَشَّحه مقامه الرفيع في ميدان البحث الفلسفي لشغل العديد من المواقع البحثيّة والعلميّة؛ فقد أنتدب لتدريس التصوف الإسلامي في جامعة عين شمس, والإسكندرية, والخرطوم، وكلية أصول الدين بالأزهر، ومعهد الدارسات الإسلامية بالقاهرة. وعمل خبيراً للفلسفة بمجمع اللغة العربية، كما شارك في كتابة الردود والتعليقات على أبحاث المستشرقين في موسوعة (دائرة المعارف الإسلامية الفرنسية) النسخة المترجمة إلى العربية.

ولم يقف دور مفكرنا عند عمله الأكاديمي في الجامعة بل كان كاتباً تنويرياً من الطراز الأول؛ إذ أخذ على عاتقه رساله تنبيه الأذهان بحقيقة الحياة الروحية الإسلامية وتوضيح دور التصوف العملي في إصلاح المجتمع ومؤسساته وتقويم أخلاقيات الفرد وسلوك الأسرة، وتشهد بذلك مقالاته في: مجلة الرسالة، تراث الإنسانية، الفكر المعاصر، الإسلام والتصوف، عالم الروح، الأزهر، منبر الاسلام، مجلة كلية الآداب.

ويلخص مفكرنا مشوار حياته بقوله : “ما الحياة في الدنيا إلاّ نفس يتردد في الإنسان يوم قدومه إليها، وإلا نفس آخر يتصعَّد يوم رحيله منها؛ فيفنى المرء وتبقى ذكراه، وتُبْلى عظامه ولا تبلى آثاره، ورحم الله امرءاً قضى حياته في علم يحصِّله، أو أدب يكتسبه، أو خير يؤتيه أو نفع لوطنه يؤدِّيه؛ فإنّ هذا لهو الخالد أثره، الباقي ذكره، الجنة مأواه، ونعيم الخلد مثواه”.

أمّا عن منهجه في دراسة التصوف الإسلامي، فيمكن إلتماسه في ذلك النهج الذي أوصى به لتلاميذه قبل شروعهم في التصنيف عن الصوفية ونقد آرائهم وتحليل كتاباتهم في هذه النقاط :

  • عدم الفصل في تناول الخطاب الصوفي بين المتلقي والدارس والمعايش؛ وذلك لأن هذا العلم من العلوم الذوقيّة فلا يمكن إدراكه إلا لمن ألفه وتذوقه، شأن سائر الفنون، وقنع به قناعة المحب لمحبوبه فهو ليس من العلوم التلقينية بل يدرك عن طريق التحصيل بالتجربة الذاتية : من ذاق عرف ومن ولج الأبواب تفتح له.

لذا نجد مفكرنا يضع أصول منهجه على نحو لا يُفرّق فيه بين الدارس والمتذوق الحقيقي اعتقاداً منه أن الذي يدرس التصوف من الخارج لن يستطيع فهمه أو الحكم عليه أو معايشته أو إدراك اللحظة الإشراقية التي كتب المتصوفة بمقتضاها أشعارهم وشذراتهم المُلهَمَة.

  • يجب على الدارسين البدء بتحقيق أقوال الصوفية اعتماداً على الدارسات التاريخية التي تثبت صدق انتساب النصوص الى أصحابها من جهة والتحليلات الفيلولوجية اللغوية المقارنة لتحديد البنية التعبيرية في الشعر والنثر للصوفي من جهة ثانية؛ الأمر الذي يُمكننا من القطع بسلامة التحقيق وصحّة المصدر الذي يمكن أن نعوّل عليه في دراسة شذرات المتصوفة ووجهتهم ومنازعهم؛ بالإضافة الى ذلك كله نقد البنية الثقافية للعصر الذي عاش فيه الصوفي بوجه عام للتعرف على أحواله والسلطات المهيمنة والأصوات المسيطرة.

  • بالإضافة الى تحليل بنية الأقوال والأشعار للوقوف على دلالة الألفاظ ومفهوم الاصطلاحات، الأمر الذي يمكّن الدارس من عقد المقارنات والكشف عن مواطن التأثير والتأثر بين المتصوفة، والتحقق في الوقت نفسه من صحة النصوص الأصيل منها والمنتحل، وقد طبق مفكرنا ذلك في دراسته عن ذي النون.

  • يجب تسليم الدارس بأن هناك نظريات ونحل قد تسللت الى بنية التصوف في أطواره المتأخرة، ومن ثمَّ كان لزاماً عليه العودة الى أصولها الثقافية والعقدية والفلسفية للكشف عن مبلغ آثارها في كتابات المتصوف، وقدر تأثره بها وفي أية مرحلة من تصوفه، وبيان ما طرأ عليها من تغير عند إلحاقها أو إدخالها على بنية التصوف الإسلامي وتأويلات الصوفية لها والتنبيه على أنها مؤثرات دخيلة على بنية التصوف السُّني.

  • توضيح الجانب الإيجابي من الحياة الروحية الإسلامية وإثبات أن التصوف رياضات ربانية لمجاهدة النفس والجهاد في معايشة الحياة، وتوضيح أن التصوف الإسلامي لم تبنَ قواعده وأصوله بمنأى عن العقل والحقائق البديهية حتى لا تلوث معارفه بالخرافات والبدع، كما يجب التأكيد على أن هذا التصوف يقوم على الإرادة الحرة، ومن ثم لا يخضع إلى المُسايرة والتقليد إلا في أضيق الحدود؛ فمتابعة الطالب أو المريد لشيخه أو إمامه دون تدبر من الأمور الغريبة على مسلك الصوفية الأوُّل، فلا محاكاة – عندهم – واقتفاء سنة إلا بالانقياد للسُّنة النبوية والصحابة والتابعين ولا سيما في المسلك وأداء الفرائض والخلوة والاعتكاف.

  • ضرورة قيام العلاقة بين المريد والشيخ أو طالب هذا العلم والأستاذ على لغة الحوار الحُر حتى لا يكون التحصيل عن طريق التلقين والتبعية العمياء، شريطة أن يكون دستور هذا الحوار هو السياج الخلوق الجامع بين أدب المعلم وأخلاقيات المتلقي.

وهذا الدرب من دروب التعليم هو الأساس في التربية الإسلامية؛ فيحق للطالب أن يستوضح المعاني ويستجلي الدلالات ويستفسر عن الغامض من حديث المعلم، وينبغي على المعلم أن يحاور التلميذ بقدر ما يطيق وما يفهم وما يستوعب، وأن يتجنّب توبيخه أو لومه إذا ما بدر منه ما يوحي بالحمق أو ما يبدو من قلة الفهم، وبالجملة أن يتحلى المعلم والمتعلم بالسماحة والأناة؛ لأن الطريق شاق ووعر.

  • يجب أن يكون الصوفي صادق مع نفسه بعد أن يعرفها وينتهي من ترويضها بالتخلية والتحلية، ويقول: (إنِّ من الخير لمن أراد بنفسه الخير إنما هو أن يعرف الإنسان نفسه أولاً فيأخذها بالتصفية والتحلية والترقية : التصفية من شوائب الجهالة والضلالة والرعونة والغواية، والتحلية بأفضل الفضائل وأكرم الأخلاق وأحمد الخصال، والترقية بالإقبال على العلم الذي يبدّد بنوره ظلمة الجهل، ويكشف عن القلب كل حجاب، ويفتح من دونه عن العقل كل باب. وإذا كان ثمّة أحدٌ أحرى بأن يستقي مبادئ حياته في العلم والعمل من هذه المنابع الثلاثة فهم الشباب الذين يحتاجون إلى ما يقوم نفوسهم، ويثقف عقولهم، وينقي قلوبهم، ويضبط سلوكهم).

  • ضرورة التنبيه على المبتدئين وطلاب الحقيقة الصوفية على أن النصوص الإنشائية والأشعار الصوفية تحوي معنيين ودلالتين للألفاظ : أولهما، مباشرٌ يفيد صدق العاطفة. والثاني: رمزي باطن يحتوي على مَعانٍ مستترة خلف الكلمات لا يفقه معانيها إلا المتبحّرون في العشق. وكذا النظريات التي صاغها كبار الصوفية مثل : نظرية وحدة الأديان والإنسان الكامل والنور المحمِّدي؛ فإنِّ هذه النظريات لها وجهان أولهما : نبوة المصطفى وما حوته رسالته من شرائع، وما كانت عليه سيرته قبل وبعد البعثة وما أمرت به سنته من فضائل تعدُّ الجانب العملي من التصوف الإسلامي. أمّا الجانب الفلسفي فيمكن التماسه في المعنى الباطن لهذه النظريات، ويبدو في تلك الحقائق النورانية والكمالات الإنسانية التي لا يصل إليها إلا الواصلون والعارفون والفانون في حبّ الله فتزول من أمام أعينهم الحُجب وتنكشف أمامهم مئات الأسرار العلوية التي تبدو في عيون الخلائق خفيّة، ويمكن التعبير عنها بالعلم اللَّدني أو المعرفة الصوفيّة.
    (وللحديث بقية)
    بقلم : د. عصمت نصَّار 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *