Share Button

جذر الفعل (وَزَنَ) هو أساس العلاقة بين اللغة والحياة الروحية المستقيمة؛ فإذا كان الوزن هو أساس اللغة عندنا، فالتوازن هو أساس الحياة الحيّة المستقيمة؛ فلغتنا العربية لغة اشتقاق تقوم على الوزن، بخلاف اللغات الأجنبية تقوم على النحت، ولا علاقة لها بالوزن على الإطلاق.

لا يُلاحظ في الكلمات الأجنبية أنها توضع على وزن معين، لكن هذا يُلاحظ في الكلمات العربية. وليس هناك كلمة واحدة في اللغات الأجنبية لها وزن، في حين كل كلمة في لغتنا العربية لها وزن معين : وزن الفعل، ووزن الفاعل، ووزن المفعول. فعل، يفعل، فعال، كلها أوزان يتغير بها المعنى من الفعل إلى الاسم، ومن الاسم إلى الصفة تبعاً للوزن.

ولا يظهر في تركيب اللغة شيء أظهر من أصالة الوزن فيها؛ فالمصادر فيها أوزان، والمشتقات أوزان، وأبواب الفعل أوزان، وقوام الاختلاف بين المعنى حركةٌ على حرف الكلمة تتبدل بها دلالة الفعل بل يتبدَّل بها الفعل فيُحسب من الأسماء أو يحتفظ بدلالته على الحدَث حسب الوزن الذي ينتقل إليه.
هذه أصالة في موضع الوزن من المفردات والتراكيب لا يستغرب معها أن يكون للوزن شأنه في شعر هذه اللغة، وأن يكون شأنها في نظم أشعارها على خلاف المعهود في منظومات الأمم الأخرى ولو صرفنا النظر عن أثر الإنشاد الفردي في تثبيت القافية واستقلال فن العروض عن فن الغناء في القصائد العربية.

إنّ اللغات السامية كما يقول العقاد في كتابه (اللغة الشاعرة ص ١١٩) تجري على قواعد الاشتقاق وتوليد الأسماء من الأفعال. ولكنّ المقابلة بين هذه اللغات في أقسام مشتقاتها وتفريع الكلمات من جذورها تدل على تمام التطور في قواعد الأوزان العربية، وعلى نقص هذه القواعد أو التباسها في أخواتها السامية بل تدل في باب الإعراب خاصّة على تفصيل في العربية يقابله الإجمال أو الإهمال في أخواتها، وفي غيرها من اللغات الآرية التي دخلها شيء من الإعراب ..

فالوزن هو أساس اللغة عندنا.

وكما يكون الوزن هو أساس اللغة عندنا، فالتوازن هو أساس الحياة الروحيّة. التوازن هو النوتة المفتاحية لبلوغ الروحانية؛ إذْ لما كان الإنسان يتكوّن من روح ومادة فهو يحتوي بداخله عوالم المعادن، النباتات والحيوانات، وكذلك عالم الملائكة وعالم الجن. ومهمته تحقيق التوازن بين جميع هذه الأجزاء دون أن ينسى أنه خُلق لا ليكون روحانيّاً كالملاك أو مادياً كالحيوان. وإذْ يتوصَّل الإنسان إلى الوسط الذهبي؛ فإنه سيكتشف بالتأكيد الطريق الذي يجب أن يسير عليه والذي سيقوده مباشرة إلى الهدف :”الأبواب ضيقة، والدّرب أيضاً ضيق” : ضيق لأن كل خطوة منحرفة إلى جانب تبعد عن طريق الحقيقة إلى الطريقة الموازية. في الحركة تدوم الحياة؛ والتوازن هو الذي يُبقي الحركة تحت المراقبة. التوازن شيء فطري طبيعي : فما هو الطريق الذي يسلكه الشخص في الحياة لكي يحقق التوازن؟

وجد الصوفيون – كما في كتاب تعاليم الصوفيين، لحضرة عناية خان- المفتاح لذلك التوازن، وهو أن يصبح المرء منفصلاً داخل ذاته، بمعنى أن يرقب ذاته ويلاحظها من الباطن، وبالتالي يستطيع أن يحقق التوازن الكامل مع ذاته بذاته، فنوع من العزلة يتحقق عن طريق الولوج في الذات متخلصاً من كل التأثيرات الخارجية، يكتسب الإنسان فيها إمكانية تهدئة الموجات الداخلية.

لا يوجد في الدنيا سعادة أكبر وغبطة أعظم من النشوة الروحيّة تتأتى إليه صادرة من فعل الطمأنينة القلبية. أعتاد الإنسان أن يفكر :”أنا ذاك الذي أرى تلك القطعة من اللحم والدم والجلد، هذا هو أنا. لكن أثناء الوجد يتحرَّر الوعي من الجسد، هذه القشرة المقيدة، وينتقل إلى كينونته الحقيقية التي تسمو فوق المآسي والأحزان والآلام. إنها السيادة العظمي : أن ندرك، وأن نحافظ على رقابة جسدنا ومشاعرنا التي من خلالها نتعرَّف نحن إلى هذه الدنيا، هذا يعني أن نكتسب الاتزان والرصانة، وهذه أسمى الحالات (ص ٧٣).

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن : كيف يمكن بلوغ الرصانة والاتزان؟ هذا سؤال يطرحه كتاب “تعاليم المتصوفين”، وهو بلا شك سؤال مفيد؛ لتجيء الإجابة عليه قابلة للإفادة كذلك في إطار فهم التوازن كونه لبّ النشاط الروحي الإنساني، ويزيد.
هنالك توازن بين النشاط والراحة، بين النوم واليقظة. إذا وثق الإنسان إنه سيصبح عظيماً فيما لو نام كثيراً، وبالتالي سيعوّد نفسه على ذلك، فهو سيتحول إلى غريب الأطوار، وليس إلى إنسان؛ لأن الجسد الممنوح له من أجل التعرُّف على العالم لن يستخدم.

وإذا كان هنالك شخص آخر رفض النوم نهائياً، فخلال أيام معدودة سيُصاب باضطراب عصبي. وإذا أحدهم مارس الصوم بكثرة؛ فهو بالطبع سيصير بلا جسد. سيكون بمقدوره أن يرى عالم الآخرة، وستكون لديه خطط مغايرة. نفس الفكرة إذا أدرك أحدهم طريق الإلهام؛ فإن الإلهام سيجيئه، لكن ذلك الجسد، أي تلك الأحاسيس ستضعف، بحيث لن تتمكن من إدراك العالم، أي أن تنجز المهمة التي من أجلها كانت قد مُنحَتْ لنا؛ فالتوازن على هذا هو أساس الحياة المستقيمة الجادة.

ولكن من جهة أخرى حسبما يشير “برجسون”: ” كل منّا هو جسد خاضع لنفس القوانين التي تخضع لها كل الأجزاء الأخرى من المادة. وإذا دفع جسمنا، فهو يتقدّم، وإذا سحبناه، فإنه ينسحب، وإن رفعناه وتركناه، يسقط. ولكن إلى جانب هذه الحركات التي تنبعث بصورة ميكانيكية، بفعل سبب خارجي، هناك حركات تبدو آتية من الداخل، وتختلف عن الحركات السابقة من حيث إنها غير متوقعة فيقال عنها أنها حركات “إرادية”، فما هو سببها؟ إنها ما يُعَبِّرُ عنه كل منّا بكلمة “أنا”. فما هو “الأنا”؟ إنه شيء يظهر، خطأ أو صواباً ويتجاوز من جميع النواحي الجسد المتحد مع هذا الأنا، إنه يتجاوز في الفضاء كما يتجاوز في الزمن” (الطاقة الرُّوحيّة، ترجمة على مقلد، ص ٣٠).
يتعلم الصوفي التوازن عن طريق الوضعيات التي تتضمَّن مراقبة أنشطة الجسم من خلال الصلوات، التعبُّد، الذكر (التراتيل)، وهو يتعلم توازن الفعل بواسطة التركيز.

هنالك في الهند – كما جاء في تعاليم المتصوفين (ص ٧٣) – يوجد روحانيون يلقّبون بال (Madizub)، وهم بلغوا أقصى درجات الروحانية. نسوا (أنَاهم) الخارجية. تخلصوا نهائياً من عذابات هذا العالم. لكن التّطرُّفَ غير مرغوب فيه سواء كان هذا التّطرُّف جيداً أو قبيحاً. النوم واليقظة، العمل والراحة، أن تأكل وتصوم، أن يتكلم المرء ويصمت، هذا هو المقصود أن تكون في حالة توازن.

* * *

لا صلاحيّة لإنسان في غيبة التزامه بتعاليم السماء. لا صلاحية له بالمطلق، قولاً وفعلاً وغاية، ثم هدفاً يرومه في هذه الحياة. وحين نقول (لا صلاحية) إنما نعلّقها على وجود الطاقة الروحيّة من عدمها؛ فحيثما تكون هذه الطاقة حاضرة في الوجود الإنساني تكون صلاحية الإنسان، ويكون اقتداره من طريق الصدق على الفعل، والصدق على القول، والصدق على الغاية، والصدق على الهدف الذي يرومُ به وجوده الروحي وحقيقته الأصليّة في تلك الحياة.
ومن المعلوم أن الإنسان لديه طاقة ما خفيّة، حافزة للحياة ثرية وغنية، ولكن هذه الطاقة كما هو معروف إمّا أن تكون طاقة إيجابية أو تكون طاقة سلبية على حسب نوايا الإنسان الباطنة. وعلى تلك النوايا كما جاء في الحديث النبوي الشريف تتوقف الأعمال، فلا يَتَحَدَّد خير العلم من شرِّه قيد أنملة إلا بنيَّة صاحبه :
(إنَّمَا الأعمالُ بالنيَّات)، (نيةُ المرءِ خيرٌ من عمله)، (خيرُ العمل مَا أكرهت نفسك عليه) يُولِّد العمل بهذا كله على المنهج والفضيلة لا شك طاقة روحيّة، إذْ يصدر عن طاقة روحيّة هى مصدر العمل الطيب على التحقيق، وإذا هو صدر عن سواها كان العمل شرّاً لا محالة؛ وجاء بغير قيم علويّة : نكداً لا ينفع صاحبه، ولا ينفع المجتمع الذي يعيش فيه “والذي خَبثَ لا يخرج إلا نكداً”.

أمَّا حين يصدر العمل عن تلك الطاقة الروحيَّة خاصَّة؛ فلا ريب يكون خيراً فيما لو تعلق بجملة من القيم العاملة النافعة، لكن كنْه هذه الطاقة لم يَتَعَرَّف عليها العالم المعاصر حتى الآن.

صحيحٌ هنالك حالياً أجهزة متطورة تكشف سرّ هذه الطاقة الروحية – كما كان يقول المرحوم الدكتور مصطفي محمود – إذْ ربما تكون تلك الطاقة على شكل هالة ذات ألوان وخطوط تحيط بالإنسان، ويكون شكلها على حسب خيره وشرِّه أيضاً؛ فالإنسان الروحاني تكون طاقته زاهية بهيّة منتظمة في شكلها.

والإنسان المادي الذي لم يقتصر اهتمامه إلا على متطلباته المادية : جسده المادي كالطعام والشراب والجنس والنوم، تجيء طاقته مشوّهة ومظلمة.

فلئن كانت تلك الأجهزة المتطورة كشفت عن هذا السّر الذي تكلم عنه الأنبياء والأولياء، وأشار إليه المستنيرون عبر تاريخ الإنسان، فهى أجهزة مع تقدِّمها تثبت ولا تنفي تلك “الهالة” ذات الألوان التي تحيط بالإنسان لتحدِّد وجود طاقاته الروحيّة من عدمها. من ذلك أن كل ما يصنعه الإنسان بيده يأخذ من طاقته وأفكاره : فمثلاً لا ينصح بأن تطبخ الأم لأسرتها إذا كانت نفسيتها في حالة من التوتر أو الغضب أو الحقد أو الحسد أو الاكتئاب؛ لأن كل هذا الأمراض النفسيّة تؤثر في الطعام، ومن ثمَّ في الأكل يأكله أفراد الأسرة وتنتقل إليهم من ثم هذه الطاقة (السلبية).

وأهلٌ الله وخاصته من العارفين يملكون حسَّاً شفافاً عالياً يكشف طاقات ما حولهم؛ فيعرفون ما في نفوس الناس من خير وشر؛ لأن كل ما يكتمه الناس ظاهر في هالاتهم وطاقاتهم المحيطة بهم، ولا يراها إلا صاحب طاقة روحيّة شفافة نقية غير ملوثة.

د. مجدي إبراهيم
أستاذ الفلسفة الإسلامية

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *