Share Button

من فلسفة السؤال إلى السؤال الفلسفي (2)

(قراءة في فلسفة “مل”)

بقلم : د. عصمت نصار

سوف تُعنى قراءتنا – لهذا الجانب من فلسفة جون ستيوارت مل عن الحرية الفردية والفكر الليبرالي – بالمواضع التي تُثار حولها الأسئلة وهي المتعلقة بالجانب التطبيقي والأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي أيضاً. وذلك للكشف عن مدى اتساق خطابه أو اضطراب أفكاره وموضوعية أحكامه ومدى إدراكه لتباين الثقافات، وتوفيقه بين استبداد سلطة الأغلبية وخطر آراء الجانحين في مسائل العقيدة من جهة، ومشروعية قانون الدولة وحجتها في الإباحة أو المنع من جهة أخرى، (وذلك كله بإيحاء من المسابقة التي عقدها الأستاذ كمال دسوقي في مجلة الرسالة كما أشرنا سلفاً في المقال السابق).
س1: هل للمجتمع المتمثل في العقل الجمعي أو الحكومة بوصفها السلطة الشرعية الحق في مُسائلة المجترئين أو الجانحين عن أقوالهم أو أفعالهم؟ وهل البغض أو الشجب والتنبيه والتحذير يُعد ردعاً كافياً لمثل هؤلاء بحجة أن اجتراءاتهم لم تصل إلى درجة الطعن أو القدح أو السب في معتقدات الأغيار أو مقدساتهم، وأن مجونهم لم يُلحق السلام الاجتماعي بأي ضرر ولم يخالف نصاً صريحاً من مواد القانون التي تجرّم الخروج عليها أو المساس بها؟
س2: إذا كان “ملّ” يكفل للرأي العام القائد حق مراجعة الجامحين والجانحين والشاطحين، ومناقشتهم ومثاقفتهم في إبداعاتهم المختلفة أدبية كانت أو فنية أو سياسية، وإبداء النصح لهم دون المساس لحريتهم الشخصية، فلما يفرض على الأغلبية أو الرأي العام التابع أو الجمهور بعض الأفكار عن طريق الإعلام الموجه أو التوجيه غير المباشر، ويطلق أحكاماً في بعض القضايا الإنسانية وبضع مسائل مُختلف عليها من مجتمع إلى أخر مثل “مساواة المرأة بالرجل” و”حرية التعليم والتعلّم للبالغين بمنأى عن رغبة الأبوين وسلطة الدولة”، والاعتراض على العقيدة المورمونية – بأمريكا الذي أسسها جوزيف سميث الأبن في عام 1830م المنشقة عن البروتستانتية ونسخ الشريعة الكاثوليكية وعدم تحريمها تعدد الزوجات في المسيحية، وتقديم الإيمان على العمل؟ أليس مثل ذلك يُعد شكلاً من أشكال الاستبداد الثقافي؟ وهل قول “ملّ” بــ (إن قوانين المجتمع ليست في حقيقتها إلا هوى الجمهور …. ليس لجماعة أن تحمل غيرها على الرقي والحضارة عفوًا؛ بقدر ما تستطيع التبشير ومحاربة العقائد الفاسدة في عقر دارها بوسائل التنوير والإقناع، ولكنه المجتمع يشرع دائماً وفق هواه، ثم يستبد بحجة الرأي العام) يشكل اضطرباً في نسق خطابه على الحرية الفردية؟ وهل تجاهله لتُجار الكلمة ومزييفي الوقائع يدرج أيضاً ضمن الحقوق الفردية؟
س3 : لمَ لمْ يعامل المفكرين والمبدعين والعلماء بمنطق التجار الذين يعرضون بضائعهم في السوق ويحددون أسعارها وفق العرض والطلب، ولمَ جعل الحكم على مهارة العُمال والحرفيين، ومن كان على شاكلتهم لرؤساء الطوائف أو النقابات دون سلطة الدولة (فالواجب أن نجعل كل طائفة بحيث تصلح حكومة بذاتها. وأن نعوِّد الأمة الاعتماد على النفس، ونخلق منها عناصر جديدة ولا نحتكر المواهب في طبقة منها؛ بل نعمل دائمًا على تنشيط هممهم وحفز عزائمهم وإنماء كفايتهم؛ فإنما قيمة الدولة بأفرادها)؟ وكيف تبرر قوله (يجب إطلاق منتهى الحرية للتجار في الدعاية والعرض والإعلان وتجويد الأصناف وتحديد الأسعار، حتى لا يتحكم فيها إلا حرية المشترين وتفضيل صالحهم فيسير العرض والطلب على قاعدة الحرية للمنتج والمستهلك… أما بإزاء التحريض على إتيان أفعال شخصية يعتبر الجهر بها إخلالاً بالآداب كبيع الخمور وفتح بؤر القمار، في أماكن عامة. ابتغاء المنفعة الشخصية فيجوز تدخل الحكومة لحمل هؤلاء على التحجب والخفاء، وحصر هذه في أقل نطاق ممكن، بفرض ضرائب باهظة على المُسكرات تقلل من طلابها وتحرمها على غير القادرين، وتحديد عدد الحانات ومراقبة سلوك أصحابها وموعد عملهم والترخيص لهم)؟
س4: هل يمكننا اعتبار خطاب “ملّ” عن الحرية مشروعاً أم مجرد أفكار قابلة للتطبيق تبعاً لطبيعة الثقافة والعقل الجمعي والرأي العام القائد فيها الذي يضمن لها الرقي والتقدم؟ وهل تتفق مع المفتونين بالفلسفة الليبرالية الذين ينظرون إلى كتاب جون ستيوارت ملّ عن الحرية باعتباره عتبة الرقي والتقدم والتمدن؟ وهل حجب صورة الذئب عن عيون الصغار يحميهم من خطره أم يوقعهم بين أنيابه لجهلهم بشره؟
 وخليقاً بنا أن نتساءل إلى أي حد كان جون ستيوارت ملّ كاتباً يوتوبياً أو خيالياً عندما تجاهل هذه الوقائع: (عنف رأس المال وأثره على جُل القرارات الأيديولوجية بأوسع معانيها سواء في الحدود الدولية أو المجتمع العالمي ومؤسساته الخارجية، وتطرف أرباب الفيتو وأصحاب القوة العسكرية ونظرتهم للعالم والشعوب الأمنة الراغبة في الحرية) وأثر ذلك كله على رأي الجمهور وحكم النُخب وتشريعات السلطات القائمة؟ هل كثرة القوانين الوضعية والمقدسات الدينية حدت من انتشار الفساد وتزييف الوعي في ظل احتراف المؤسسات الدولية والحكومية والنخب ألاعيب الكذب والخداع وتجارة النظريات والمذاهب؟ هل نجحت فلسفة “ملّ” في تحرير الإنسان من مطامع اللذة وعذابات الألم وخلصت العقول من القيود القامعة لأحلامها وإبداعاتها وغشامة الحمقى وإرهاب المتجمهرين وتأمر المتنمرين والمثبطين؟  وأخيراً : كيف تجاهل “ملّ” معوقات الاغتراب والشيفونية والغيرية في حديثه عن حرية الأفراد في مجتمع محدود بعقل جمعي يختلف بالضرورة عن عقل الفرد في مجتمع آخر وليد ثقافة مغايرة وطموحات مختلفة، ومعنى للحرية بعد عن تلك التصورات المطروحة؟
وللحديث بقية عن فيلسوف آخر وقراءة جديدة للأسئلة التي يمكن أن تكشف لنا عن طبيعة الفلسفة الكامنة وراء السؤال.

بقلم : د. عصمت نصار

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *