Share Button

 

بقلم : د. عصمت نصَّار

يواصل وجدي قراءته النقدية لكتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) بعد توضيح مقصده من نقداته وملاحظاته. غير مدفوع إلى ذلك بالصراعات الحزبية كما هو حال كتاب (الشهاب الراصد) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1926 م لمحمد لطفي جمعة (1886- 1953 م) أبرز أعضاء الحزب الوطني المعنين بالحركة الأدبية والفلسفية آن ذاك، والمناظر القوي الذي درج مراجعة كتابات أعضاء حزب (الأحرار الدستوريين) في منتصف العقد الثالث من القرن العشرين.

كما أنه يختلف عن أرباب الخصومات الشخصية والأيديولوجية من أمثال محمد رشيد رضا الذي كان يرتدي عباءة الوهابيين آن ذاك. ومصطفي صادق الرافعي (1880- 1937 م) حامل لواء الكُتاب المحافظين ورائد من رواد المناظرات الأدبية المنافحة عن التراث، تلك الوجهة المعارضة بطبيعة الحال لأحمد لطفي السيد وتلاميذه.

كما أنه يتميز عن الأمير شكيب أرسلان (1869-1946م) وعشرات الكُتاب الذين تصدُّوا لكتاب طه حسين دون أن يقراؤه واكتفوا بما قيل عنه.

 نعم، قام وجدي بنقد الكتاب بعين المنهج الذي انتهجه في كل مؤلفاته غير أمل من ذلك سوى هداية القرَّاء للحقيقة وإزالة الأوهام التي تنسجها بعض الأقلام المفتونة بالثقافة الغربية من جهة أخرى. وكشف المؤلف (أي طه حسين) في الوقت نفسه لمواضع زلاته ومواقع عثراته، شأنه في ذلك شأن الشيخ عبد المتعال الصعيدي الذي وصف “طه حسين” بأنه قد ادّعى ثورته على التقليد وحقيقة الأمر هو من أكابر المقلدين لادعاءات ومزاعم المتعصبين من الكُتاب الغربيين الذين نقل عنهم ما جاء في الكتاب. فذهب “وجدي” إلى أنه ليس من الذين يلقون الاتهامات جزافاً ولا من المروّجين للشائعات بُغية تشويه صور المخالفين له في الرأي. ومن ثمّ؛ فأنه يبرء “طه حسين” من تهمة تعمد طمس الحقائق وتكذيب البراهين التي تشيد عظمة الحضارة الإسلامية والرسالة التي أتى بها خاتم المرسلين، وسلامة القرآن الحكيم من الدّس والتلفيق والتزوير، بل هو في الحقيقة نقل عن بعض المغرضين من الكُتاب الغربيين كومة من الجيف الخبرية التي لا نصيب لها من الصحة في هذا السبيل، وذلك دون تمحيص أو قراءة واعية أو رؤية ناقدة.

 كما أنه زعم (أي طه حسين) انتحاله منهج ديكارت دون أن يتمعن أبعاده ويفطن إلى ميدان تطبيقاته. ويقول وجدي في ذلك (لا ندّعي هنا أن الدكتور طه حسين قصد إلى تشويه جمال هذه الثورة الكبرى في كتابه، ولكنه قصر في تحري أسباب الاختلاق على الجاهليين. ألتقط من كتب المحاضرات جميع ما فيها ممّا يتعلق بالاختلاق، وبالعوامل التي حملت عليه، وبالمطامع التي دفعت إليه ولم يسر على كل ذلك ما يقضي به عليه مذهب ديكارت من النقد والتمحيص بل وثق به ثقة مطلقة حملته على إصدار الأحكام جزافاً في تركيب المسلمين الأولين وتأليف مجتمعهم ممّا لا يتفق وأثر هذه الثورة التي قاموا بها في عالم الاجتماع والعلم والمدنية ولا يتلاءم وما أعترف به عنها خصومها و مناظروها قديماً وحديثاً).

 كما بيّن أن ما جاء به طه حسين من ادعاء بأن الشعر الجاهلي مختلق أو من وضع أناس غير أصحابه؛ فإن مثل ذلك يفتح الباب للشك فيما هو أبعد أي الشك في التاريخ الإسلامي والأحداث الحضارية، والارتياب في قدرة العقلية العربية على النهوض والارتقاء، ثم التأليف والإبداع، وما أكثر المقدمات الفاسدة التي تحيل إلى نتائج خاطئة وزائفة.

فقد فطن العرب قديماً بأن الدرب المأهول لا يعرف إلا بالأثر، وأن الإيمان الحق (يكون) بالدليل لا بالتقليد. ويضيف “وجدي” أن دوره ينحصر في أمرين: أولهما مراجعة طه حسين في ما جاء في كتابه عن تكوين الأمة الإسلامية التي وصفها على غير الحقيقة، وتحدث عن طبائعها وخصالها بصفات تنكرها الدراسات التاريخية والأحكام الموضوعية على ما فيها من أحوال وأقوال وأحداث.

وثانيهما : تربية العقل المصري الناشئ على الطريقة المثلى لتحصيل المعارف وهي القراءة الناقدة التي لا تقنع بالمصدر بل بالبرهنة على سلامة المعارف التي تأتي عن ذلك المصدر مع التسليم بصدقه ولا سيما في ميدان العلم والتعلم. واعترف “وجدي” بأن هذا السبيل هو عين النقطة المركزية التي انطلق منها “طه حسين” في كتابه وأشار اليها في مقدمته دون تدقيق في التطبيق. وأضف إلى ذلك مخالفته للحيدة والموضوعية في تصريحه فيما يشك من أخبار منقولة على المؤرخين العرب بشأن مرويات الشعر الجاهلي وأن تخطئتها وانعدام الثقة فيها يصل إلى درجة اليقين العقلي الرافض للبيانات المتناقضة. وقد تجاهل بزعمه هذا الجهد الذي بذله النقاد الأقدمين في تحرى الدقة فيما ينقلون أو يروون.

وليس أدل على ذلك من تكذيبهم لبعض الرواة واستبعادهم للكثير من الروايات والمرويات وشكهم فيها وحكمهم عليها بأنها مكذوبه ومنتحلة. ويؤكد “وجدي” أن منهج الشك العقلي قد استخدمه المؤرخون الأوائل؛ وتفصح عن ذلك مقارناتهم وموازناتهم بين ما هو منقول وما هو محتمل ومعقول, وقد دلل على ذلك بكتاب أبن سلام الجُمحي (طبقات فحول الشعراء) وكذا كتابات الجاحظ والأصمعي التي تحريا فيها الدقة عن أخبار الشعراء ومأثر العرب. كما أن “طه حسين” قد تجاهل جهد مصطفي صادق الرافعي (وهو يعد من المحافظين) وانتقاداته للمؤرخين والمزيفين منهم. أي أن الشك والنقد المنهجي قد عرفه الأقدمون وانتهجوه في التأليف والتصنيف وأن غيره من المعاصرين قد سبقه وعولَ على عين المنهج في دراساته عن التراث الأدبي الاسلامي. ومع ذلك فإن القديم من الدراسات وحديثها لم يقودوا أصحابها لنفس الطريق الذي سلكه طه حسين ألا وهو اتهام القدماء بالتدليس والشك في لواحق وتوابع الأخبار الكاذبة إلى درجة الطعن في التاريخ الإسلامي كله والسيرة النبوية والتنازل عن القومية وإنكار الدين والتنكر بالمشخصات التي تميزنا عن غيرنا من جهة وتوهم أن مسلكه هذا سوف يقود الباحثين والدارسين إلى آفاق الحرية العلمية والتقدّم.

ويقول “وجدي” ـ مادحاً المنهج ومنتقد التطبيق والمذهب الذي سلكه طه حسين ـ في كتابه قائلاً (أنا لا أتمالك نفسي من أن أقول صراحة إن هذا الكلام ثمين ولا أغالي إن قلت إنه أعرق في الإسلام من كل كلام قرأته قبل هذا ولا يعيبه إلا شيء واحد، وهو أنه مفرط في الخروج على الجماعة، على حين أنه مذهب القرآن الذي هو دستور هذه الجماعة. فلو كان قال إنه سيعالج البحث في الأدب العربي وتاريخه فقط غير ناسياً قوميته وكل مشخصاتها، ودينه وكل ما يتصل به، وغير متقيّد بشيء، ولا مذعن لشيء إلا مناهج البحث الصحيح، جارياً بذلك على مذهب القرآن (لا ديكارت) لكانت كلماته هذه عدت أجمل تفسير لآيات الكتاب التي وردت خاصّة بمنهج البحث عن الحقائق.

نعم، أصبح يعز على المعاصرين أن يجعلوا للدّين أو لما يتصل به سلطاناً على مناهجهم العلمية، وأضحى من لا يكون على أقصى حد من حدود الحرية الفكرية غير جدير بالثقة؛ لتقيده بآراء يعدها مقدّسة، ويحاول أن يخضع كل حقيقة لسلطانها، ونحن نعذرهم في هذا الشعور؛ لأنهم لا يعرفون الإسلام ولا يدرون أنه سن منهاجاً للبحث عن الحقائق ليس وراءه مرمى. فإن كان المانع الأنفة من الاتباع، فالاتباع حاصل لديكارت؛ فهل من مرجح للأنفة من اتباع محمد وعدم الأنفة من اتباع ديكارت؟ وهل فرق في التبعية بين أن يُقال هذا قرآني وهذا ديكارتي؟

أمّا أنا فلا أجد محلاً للأنفة من اتباع المذاهب الإصلاحية على الاطلاق، وان كنت أجد هذا فرقاً بين الإعلان بتبعيتي لمذهب ديكارت وتبعيتي لمذهب القرآن. وهذا الفرق هو أن ديكارت رجل فرنسي ليس بيني وبينه أية علاقة من جنس أو لغة أو صلة من أي نوع كانت. أمّا القرآن فهو كتاب الأمة التي أنا منها، وبيني وبينه كل أنواع الصلات المعنوية التي تربط الإنسان بشيء من الأشياء، وقد سبق ديكارت بعشرة قرون، وأسلوبه أدق من أسلوبه، وأجمع لوجوه الاحتياط منه).

وحقيقٌ بي أن أنعي ذلك النهج المفقود والأسلوب الناقد الودود، وتلك الحرية التي لا تتجاوز الأدب وتسعى في العلم إلى تعيين المنهج وتأصيل الحدود.

نعم : أوكد على مثل هذه المحاورات الفلسفية الرائدة في ميدان نقد النقد؛ قد غابت عن الحضور، وليس هناك أملاً في عودتها إلى ثقافتنا المعاصرة الشاغلة بتطاول المتعالمين وأكاذيب الذين جلسوا زوراً على كراسي المعلمين واعتلوا بتملق منابر التنويريين. أقول؛ صراحة ما أحوجنا للرجوع إلى الأمام حيث عقدت هذه المساجلات و تحاور أمثال أولئك الأعلام.

(وللحديث بقيّة)

بقلم د. عصمت نصار

 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *