Share Button

د. مجدي إبراهيم

تنهض اللغة فينا ولا شك، وتنهض حياتها وفاعليتها على الأمم والشعوب، بمقدار نهضة الروح العربية نفسها، ولا شيء يعطي القدرة على حفظ اللغة العربية من التدهور، غير التدريب عليها بمعرفة أساليبها القديمة، وقوة التجديد بعد المعرفة على تلك الأساليب وتطورها من زمن إلى زمن، ومن عصر إلى عصر، ومحاولة الوقوف على أسرارها العربية في عيونها الأصيلة، واتصال الجديد دوماً بالقديم فيها، وحفر قنوات معرفيّة بين الأحقاب التاريخية المختلفة للوقوف على الروابط المشتركة بين طارق وتليد أو بين أصيل وجديد.

إنّ العيون التليدة في لغتنا العربية لهى مظهر تجليات اللغة فينا، والتعبير عن حقبها المتلاحقة في مواردها العربية التي كان أجدادنا يعيشون عليها في سالف الزمان ثم صرنا نحن ورثة الأجداد نعيش بروح غير الروح وفؤاد غير الفؤاد، إنما هو مسئوليتنا نحن قبل أن يكون مسؤولية أحد سوانا.

وكشف اللثام عن اتساق المعنى والقيمة والدلالة بين تلك العصور والأحقاب، وامتداد هذه القيم الفاعلة فينا كلها عبر الأزمنة المختلفة هو أيضاً تبعة مرهونُ قيامها بنا بمقدار تحملنا لها، والحفاظ عليها، واتصالنا بمصدرها، ووجوب القيام بتحمل تبعاتها مهما كانت الظروف مواتية أو معاكسة، ومهما كانت الأوضاع التي تجيء فيها تلك الظروف عاملة ناهضة أو خاملة ساقطة.

فلئن اختلفت لدينا طرائق العيش، وتطور الزمن بنا تطوراته المفروضة، فلا أقلَّ من أن نجعل من لغتنا العربية : مزيّة التّوحُّد وفضيلة الاتصال المباشر بين الأبناء والأجداد، مادة حيوية فعالة تحفظ فينا الهوية؛ ونحن إذْ ذَاك على وعي بإرادة اللغة فينا، شئنا ذلك أم أبينا، وعي تحدوه المعرفة بالأمل في الإصلاح على كل حال، وعلى أية حال.

اللغة (أولاً) كالوطن؛ لك أن تتصور أحداً يهجر وطنه، ويعيش مجرداً عن لغته في أوطان الآخرين، لا يعرف له أرضاً تقلَّـه ولا سماء تظله؛ فهو عالة على أرض غير أرضه وسماء غير سمائه، يتكلم بلسان غير لسانه, ويشعر بالغربة الدائمة، وهو – إنْ كان سوياً – لا يملك القطيعة مع وطنه، ولا يستطيع، لكنه لا يلبث إلا أن يشتاق إلى هذا الوطن؛ ليتنسم آخر الأمر نسمات التَّحَرُّر من رق الاغتراب.

اللغة كالوطن؛ لا يستطيع المرء الأصيل أن يهجرها إلى غيرها، وإنْ فرضت عليه الظروف مثل هذا الهجران؛ فالعودة إليها من المؤكد من ظمأ الشوق عنده في غالب الأحوال.

وليس أدل على ذلك؛ من تكتل الجاليات العربية في البلاد الأجنبية وتلاحم بعضهم مع البعض الآخر؛ فإنهم يجدون السعادة في تقاربهم حتى لو كانوا أعداءً في أوطانهم لا يمكن التأليف بين قلوبهم. أما في الغربة؛ فيجمعهم حبّ الوطن ولسان اللغة وعافية اللقاء.

لم يكن حديثاً مفترى ذلك الحديث الذي كان جرى في القرن الماضي، وخاض في أمره الكتاب والمؤرخون، وأرجعوا اتصال أسباب القومية العربية إلى عِدّة أمور، منها الأرض، واللغة، والدين، والجنس والعادات والتقاليد، والتاريخ المشترك.

وإذا كانت هناك أمم في العالم كسويسرا تتكلم ثلاث لغات هى الألمانية والفرنسية والإيطالية ومع ذلك تجمعها بغير تفرقة راية واحدة، فمن باب أولى أن ينسحب ذلك على الأمة العربية التي تتكلم لغة واحدة، فتظل اللغة عنصراً قوياً من عناصر الهوية العربية والقومية العربية سواء؛ لأننا إذا قلنا قومية عربية فقد قلنا في الوقت نفسه هُوية عربية بامتياز، فإن لهذه الهويّة العربية دعائم أصيلة تتأسس عليها بمقدار ما تأسس القومية العربية : على دعائم الحرية والمساواة، والخير، والعدالة، والسلام، والتسامح، وهى القيم الحضارية الكبرى في الإسلام، وهى التي غزت بها القومية العربية العالم منذ أربعة عشر قرناً من الزمان؛ ولأن اللغة لا تنفصل عن الحضارة، إذ كانت عنصراً فاعلاً من عناصر الحضارة، وكانت أعظم أداة من أدواتها؛ فلقد قامت بالدور المبهر في التوسط بين الشرق والغرب، إذ فرضته عليها مكانتها الجغرافية المتوسطة بين دول الشرق مثل فارس والهند والصين ودول غرب أوربا فكانت واسطة لنقل الحضارات وتفاعلها بين الشرق والغرب.

وكما قامت اللغة بهذا الدور الوسيط قامت به العناصر الحضارية الأخرى فيما بعد من علوم وفنون وآداب وصناعات. وهى في ذلك كله تعدُّ لغة أدب وفن ودين وعلم، استطاعت التعبير عن كل ما يدور بخلد الإنسان : خواطر نفسه وخوالج روحه ووجدانه.

واللغة (ثانياً) هى النموذج البنَّاء، والصالح للبناء، في عقيدة المسلم، بل هى النموذج الصالح للبناء في جميع عقائد الإنسان على التعميم؛ فما من لغة على وجه الأرض إلا وفيها عقيدة تخدمها. والعلاقة بين اللغة والعقيدة كالعلاقة بين الروح والجسد، لا ينفصلان : تخدم اللغة العقيدة من جانب، بمقدار ما تخدم العقيدة اللغة من الجانب الآخر، وفي تعبيرات اللغة شيء من حياة الروح لا يعرفه إلا مجربوه. في جمال الكلمة عقيدة روحية وفكرية عجيبة، ومن هنا كانت قيمتها؛ أعني قيمة اللغة من قيمة الكلمة لأنها الطريقة الإدراكية التي يتمُّ بها التعبير عن وعي الوجدان – إحساساً وشعوراً – في الإنسان، وكلما أحكمت تلك الطريقة، كان لزاماً إحكام إدراكات الفرد على وجه العموم لأنها في المجمل إحكام لحركة الذهن وإدراك للعمليات العقلية والشعورية فيه.

واللغة والإدراك لا ينفصلان؛ لأنهما في الأصل يقفان على رؤية واحدة، وعلى همِّ واحد، لا يتباين بتباين المواقع ولا يختلف باختلاف الظروف والأحوال في جوهر الوجود الذي لا يقيد الفرد ولا يحدُّ في طريقة تفكيره الصالح للمعرفة والتثقيف والوعي والإدراك، بمقدار صلاحه لسائر الأمور التي ترتبط بالحياة الإنسانية أوثق رباط وأشمله وأعمَّه وأحكمه. ذلك أن الإحساس باللغة من الأهمية بمكان بحيث يجعل روح الإنسان صاعدة على الدوام في طريقها الواعي بكل عمليات التفكير وعمليات الإدراك.

فمن الأهمية بمكان كذلك – كيما نحافظ على الرمق الأخير من لغتنا – أن تستمر الحملة النشطة على فاعلية الكلمة المطبوعة حملة تبين خطورتها تلك؛ لتفرز الغث من الثمين والصالح من المعطوب فيُطالعها القارئ والكاتب على السواء، وتحفظها رفوف المكتبات وأجهزة الحفظ الحديثة لتكون مع الزمن عنواناً دالاً على كاتبها، بل هى من المؤكد العنوانُ الدالُ على عقول الأمة في فترة زمنية حدث فيها شد وجذب، وأخذ ورد، وانفتاح وتثوير لكل القيم الوجودية الحيوية بغير استثناء، تماماً كما حدثت فيها حروب ظالمة على الأوطان العربية أفسدت روابطها الشعورية وإحساسها بالكلمات.

وفي أزمان الحروب (ولأن الحرب تطهير) يكثر التعلق بثوابت الوجود العربي، وخاصة اللغة العربية فيه التي تدعو إلى التسامح فيما لو أحسن ورودها عليه، ويدعو إليها لو أحسنت قبولها له، وتسع ألفاظها آفاق السلام مجتمعة بكل لغات العالم.

وفي لغتنا العربية حياة حية نابضة فيها شرايين الحياة؛ إنْ في كلماتها وإنْ في إيحاءاتها ودلالاتها؛ إذْ لولا اللغة لما كانت هنالك في الحياة عموماً تلك المكانة التي يسمو إليها الكيان العربي بأسره، ويتطلع إلى الوصول إليها في كل ساعة وفي كل حين، أعني مكانة أن يكون العربي مستقلاً في الوجود وفي الكرامة مقدار استقلاله في لغته وفكره وتعبيره وتفكيره، حتى إذا ما رأيت اليوم مكانة العربي مهددة ووطنيته ممزقة وهويته غائبة وأيديولوجيته مفقودة وأمنه مضطرب؛ فاعلم أن ذلك مردود بطبيعة الحال إلى اللغة؛ لأنها عنوانٌ دالٌ على الهُويَّة فيما لو غابت هذه غابت تلك. ولِمَ لا ؟! واللغة شارة التواصل الوطني وقيم القومية العربية، لو غابت هذه تمزق الوطن العربي، وصار بلا كيان ولا وصال!

حقيقةً، يوم أن نبذنا فكرة القومية العربية ودعائمها الروحية والخلقية خارج سياق الأحداث الجارية في الوطن العربي فقدنا بالتالي هويتنا الحضارية فلم نعد ندرك لها معلماً واحداً نتعلق به، ولم نعرف لنا من القيم ما عسانا ترسو عليه ركائبنا. تقترن الوطنية العربية بأوصال هذه الفكرة القومية وتتصل بها أحكم اتصال.

واللغة (ثالثاً) روح الأمن والأمان والطمأنينة، فيما لو اتصلت بين أبنائها بروح الفكرة ووحدة المبدأ وشمول العقيدة وخلوص الاتجاه وَرُقي الأداء؛ فكل تلك المعاني “قيم من اللغة” فيما لو فُعّلت تدفع إلى التواصل والتماسك، ولا تؤدي إلى التَّفَرُّق والانقسام.

واللغة (رابعاً) هى وعاء الفكر وهى الدلالة عليه. ولا يوجد فكر جيد بغير لغة جيدة، ولا تكون لغة جيدة ولا يحملها فكر جيد. واللغة والفكر كما تقدَّم صنوان لا ينفصلان؛ فالعبارة التي تقولها مكونة من جمل، والجمل من كلمات، يقولها العربي في كل بلد لأنه عربي، هى في نفس الوقت تحمل فكرة دالة على معنى بمقدار دلالتها على هَمِّ واحد مشترك، وليس هناك في اللغة شيء بلا فكر؛ ليس هناك في العربية لغة تقول شيئاً، وفكر يقول شيئاً آخر؛ هنالك وحدة بين القول والفكر حتى هذا الذي يسمونه “إنشاءً” يجيء وقعه على قلوب الغافلين سخرية واستهزاءً. أقول؛ حتى هذا الإنشاء قائم على عصب التفكير وعنت الشعور والوجدان. أعطيك هنا مثالاً واحداً فقط على فن صناعة الإنشاء كما رآها الشيخ محمد عبده من وجهة نظره :

لو كان الأزهر الشريف مع احترامي لكل من فيه، وما فيه، قد استمع لنصيحة الإمام محمد عبده رحمه الله ولم يضرب بها عرض الحائط؛ لأصبح حاله اليوم غير الحال، ولخرَّج أجيالاً قادرة بحكم تكوينها على اكتشاف الحق الجديد دون حاجة ماسّة إلى التقليد.
كان الشيخ مصطفي عبد الرازق يحضر دروس الإمام محمد عبده، وروى فيما رواه، أن الشيخ المفتي “محمد عبده” قال لهم يوماً في درس “دلائل الإعجاز” حيث ذكر صناعة الإنشاء، وتهاون الأزهريين بها ما يأتي: فماذا قال؟!

“باطل ما يقولون من أن ملكة البيان سهلة التحصيل هينة الخطر، وأنهم إن شاءوا لما أعجزهم أن يقولوا فيحسنوا ويكتبوا فيجيدوا؛ لا وربك إنهم لأعجز شيء عن أدنى مراتب البلاغة، وأن أدمغتهم لمحشوة بشروح التلخيص وحواشيه وتقريراته ولكنها خلوّ من ذوق البيان، بعيدة عن فهم أسرار البلاغة. تلك علالات يخدعون بها أنفساً ضعيفة فلا تسمعوا لهم. واعلموا أن فن الإنشاء فن عزيز المنال شرف الفائدة. قضيتُ في تعلم الإنشاء خمسة عشر عاماً – هكذا يقول الشيخ محمد عبده – وما أظن ملكة كاتب تنضج في أقل من هذا الزمن مع حسن الاستعداد، والأخذ بجد في تحصيل الوسائل والإكثار من التمرين. أقرءوا – هكذا ينصح الإمام محمد عبده – كتب الأدب وأحفظوا من مختار الشعر وجيد النثر، وحركوا أفكاركم وخيالاتكم، وهزوا ألسنتكم وأقلامكم”.

“إن أحدكم ليستطيع أن يجعل لكل يوم صحيفة يقيد بها ما يمر به من الخواطر والملاحظات، وما يسترعي نظره من الحوادث أو يقص فيها ما عمله في يومه، ولهذه الطريقة فوائد جمة؛ لأنها فوق نفعها فى تمرين ملكة الإنشاء تحمل الإنسان على مراقبة نفسه وتصفية حسابها في منتهى كل يوم”.
هذا القول الكريم لرجل كريم هو الذي خرَّج جيل العمالقة والقمم والشوامخ في الأدب والفكر والفلسفة ممَّن كانوا استمعوا مصيخين وبإخلاص لكلمات الأستاذ محمد عبده في حين كاد الأزهريون أن يتهاونوا فيها. هذا الدّأب المتواصل على التحصيل هو الذي يخرّج الكاتب المستنير، فالتمرين والتدريب على فن البيان عمل شاق لا يأتي بين يوم وليلة، ولكنه يؤهل كاتبه لصناعة الرأي الرشيد والمعرفة السامية.

نعم! ليس هنالك في العربية لغة تقول شيئاً وفكر يقول شيئاً آخر إلا في حالة واحدة اللهم إلا إذا كان الكلام فارغاً لا يؤدي إلى معنى ولا يهدف لمضمون.
ولا يخلو تفكيرُ المفكر من لغة تنقلُه من الباطن إلى الظاهر، ومن الداخل إلى الخارج، ومن المطمور إلى الجلاء والظهور، واللغة هى الأساس الذي ينقل كل هذا، ويتعامل مع هذا كله بفكرة حرة ودلالة لا قيود عليها. فالذي يُنْشئ من العبارات كيفما يشاء له الإنشاء إنما هو ينشئ معنى يخلقه تفكيره، ويصور فكره غابت فيها قريحته غيبة التحقيق وعانت في هذه الغيبة حتى أخرجتها من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وهو في هذا ينحت من اللغة معنى جديداً، ويظفر بالجديد في كل إنشاء جديد ويصوغ عبارة يظنها لم تعرف طريق النور إلا على سنان قلمه، ذلك القلم الوَلَّاد الذي أنشأ الجديد من الفكرة الجديدة، في لغة جديدة أحسّها وأستشعرها ولو كانت قديمة.
هنالك لا يكون التجديد تجديداً بغير تحصيل القديم، تحصيلاً يكشف عن معرفة حقيقية به، وينمُّ عن إحاطة واسعة وشمولية، تقوم على النقد البناء، تؤهل من يتصدى له لتخريج مبدع أصيل وخلَّاق يعرف باسم “المجدد”. أما الذين يتخذون من التجديد ستاراً للعيِّ الذي يُلاحقهم فلا ينفكون عنه، فهم لا يُجَدِّدون بل هم يَعْبَثون، وفي كل واد إلا وادي التجديد يهيمون. (وللحديث بقيّة).

بقلم : د . مجدي إبراهيم
أستاذ الفلسفة الإسلامية

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏نظارة‏‏‏

اهــرام مــصــر

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *