Share Button

عندما تكون الفكرة هى حياة صاحبها ولا تزيد .. بمعنى أن تكون هي نفسها عنايته ورعايته كما يرعى حياته ويعتني بها, يعيشها حالة روحيّة كما تعاش الحياة الحية النابضة بالحركة والعطاء، هنالك تصبح هذه الحالة نفسها هى قمة الفلسفة وقيمتها سواء، لأن الفلسفة عقل يفكر بإرادة المعالي باستمرار ولا يكف عن التفكير, أيّاً كانت هذه الفكرة، دينية أو فلسفية أو علمية أو ما شئت أن تضيف .. المهم أن تكون حياة صاحبها يُوَقِّع عليها متنوَّع الألحان. هذا هو الإخلاص للعطاء كونه يكشف عن نشاط صاحبه العقلي. وإذا أخطاء المخلصون، ففي الغالب يقودهم إخلاصهم إلى الصواب من طريق التماس الحقيقة ما دامت سلامة النيّة قصداً موجَّهاً نحو هذه الحقيقة لا شيء غيرها, وغيرها من المقاصد والمطالب لا يُعوّلُ عليه. وهل هذا كلام يقال في حق المستشرقين وفيهم من تعمد سوء القصد وسوء النية وبخاصّة إزاء حضارة الإسلام ونبيّ الإسلام وشريعة الإسلام؟

نعم! ولكن فيهم من هو مُخلص معطاء خدم التراث الإسلامي كشفاً وتحقيقاً ونشراً, ينظر إلى الحق في ذاته ويبحث عن الحقيقة وحدها, ويخفق في جانب ويصيب في آخر, وفي النهاية يبقى تقدُّمه في البحث عن الحقيقة شاهداً على إخلاصه، وتظل أسبقيته في توجيه الطالبين لها من حيث هى حقيقة باقية للزمن وللتاريخ، فيكشف بحثه عنها عن تلك الحالة التي وصفناها بقمة الفلسفة وقيمتها حيث تكون تفكيراً بإرادة المعالي على سلامة القصد وسلامة النيّة.

من تلك الأفكار التي وقَّع عليها بعضهم، ذلك اللحن الشَّجيّ، ما توصّل إليه المستشرقون، بعضهم طبعاً لا كلهم، وهم غرباء عن اللغة والدين، وهذه وحدها كافية للإخلاص, في حق شخص النبيّ، صلوات الله وسلامه عليه : فيها الإنصاف كما ظهر لدى بعضهم الإجحاف، والجانب المنصف مشرق والجانب المجحف مظلم لا محالة، له مقاصد سياسية وعقائدية تخفي وراءها توجهات تضرب اللغة وأيدولوجيات تطعن الحضارة والدين جميعاً، ولكن التجرد للبحث العلمي ومطالب الحقيقة وحدها قصد نبيل ونادر عرفه بعض المستشرقين ولم يكن لدى جميعهم ولا أغلبهم.

كتب المستشرقون عن الإسلام ونبيه، عليه السلام؛ فإذا بالإسلام يبدو في دراساتهم وبحوثهم ديناً دولياً عاماً؛ وإذا بنبيِّه – صلوات ربي وسلامه عليه – هو الأسوة الحسنة التي يلتقي فيها شعور المساواة والإخاء والحب الكامل بين أبناء العالمين جميعاً بغير استثناء.

وللأستاذ ” كارا دي فو” كتابُ عن “المحمديّة” جاء فيه قوله:” إنّ محمداً كان هو النبي؛ والمُلهم؛ والمؤسس؛ ولم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العليا .. ومع ذلك لم ينظر إلى نفسه كرجل من عنصر آخر؛ أو من طبقة أخرى غير طبقات بقيّة المسلمين.

إنّ شعور المساواة والإخاء الذي أسَّسه بين أعضاء الجمعية الإسلامية، كان يُطبق تطبيقاً عمليّاً حتى على النبيّ نفسه”.

وإنه؛ صلوات الله وسلامه عليه:” أتمَّ طفولته في الهدوء، ولما بلغ سن الشباب أشتهر باسم الشاب الذكي الوديع المحبوب …”؛ وقد عاش هادئاً في سلام حتى بلغ الأربعين من عمره، وكان بشوشاً تقيّاً لطيف المعاشرة ” .. صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى لنبيّه صلوات الله عليه :” وإنّك لعلى خُلق عظيم “، ولم يقل وإنك لعلى علم عظيم .. لماذا؟ لأن الأخلاق مقدّمة على العلم .. ومراعاة تلمس الخيط الخلقي في شخصه عليه السلام، يعطي المفتاح إلى اهتداء الحقيقة. ولا يقف فقط عند العلم بها وكفى بل يقدر فيها السلوك الحياتي كنمط فاعل مؤثر يتقوّم عليه جانب من جوانب الشخصية النبويّة كونها خُلقيّة في الأساس : (إنمّا بعثُ لأتمم مكارم الأخلاق).

وهل نحتاج إلى ذكر كلام المستشرقين بعد ما رأينا من مدح الله سبحانه لحبيبه وصفاً في كتاب يُتلى وعبادة تدوم ولا تنقطع؟

وهل بعد قول الحق (وإنّك لعلى خُلق عظيم) كلام يُقال من مستشرقين وغير المستشرقين؟ وماذا يفيد أصلاً وفعلاً؟

وبقليل من التأمل، تجد الإجابة : نعم يفيد، إذْ نحتاج إلى منصفٍ لا يكون الإجحاف لديه هو غاية الغايات من مطالب البحث العلمي.

إذا كان الحق تبارك وتعالى قال في حق نبيّه صلوات الله وسلامه عليه إنه على خلق عظيم، فقد قاله للمؤمن المصدّق الذي لا ينفصل شعوره الديني بالإيمان بالله وملائكته وكتبه عن الإيمان برسوله المبلغ لا من حيث المحبة أو القربة؛ فتصديق الرسول أول خطوة إيمانية على الطريق بالنسبة للمؤمن، واتّباع خطى الحبيب اتّباع لله : نفسه وعينه :”قل إنْ كنتم تحبُّون الله فاتبعوني يحببكم الله”؛ فهنالك بَرَزتْ وحدة الطريق.

هذا مفروغٌ منه لا حاجة بنا إلى مزيد تكراره .. لكن مُقرّرات البحث العلمي التي يعتز بها المستشرقون – ومن والاهم ممَّن قلدوهم تقليد القرود – تفرض على السّعة معايشة الفكرة وتقدير الإنصاف في مقابل عسف الإجحاف وتقليد الأفكار المنقولة تقليداً أعمى.

وقد ضرب المستشرقون أمثلة ظالمة في الغضّ من أقدار رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ فحين يأتي منصف منهم يُقرّر مثل ما قرّره “كارا دي فو”، فهو يرد عليهم بمقررات البحث العلمي، ويقدح في الجانب المجحف التقليدي الظالم الذي لا يثبت قيمة ولا يقرّر حقيقة، ولا يؤكد معايشة صاحبه للفكرة التي يوليها العناية والاهتمام، ولا يُقيم فلسفة في الرأي بإطلاق.

بمثل هذا شهد الشاهد الذي هو من أهلها. ولم يكن شهوده عن تعصب ولا عن هوى، بل عن مقرر تقرَّر في مطالب البحث العلمي الحديث، لكنه تقرّر عن إنصاف ولم يتقرّر عن ظلم للحقيقة وعن إجحاف.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *