Share Button

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

التصوف مرادفٌ للأخلاق مؤسسٌ عليها، أو قُل : إنّ الأخلاق الصوفية خاصّة، تتأسس على التصوف وتنفصل عن النظرية. ولكنما المعرفة تستند على الأخلاق تابعة لكل فضيلة خُلقية ولكل فعل محمود، فلا تجد عارفاً بالله يخلو من حُسْنِ الخلق.

ولو تصفحنا أقدم مصدر أصيل في تنظير التصوف، لوجدنا “السَّراج الطوسي” يتحدَّث في “اللمع” عن الصوفية الذين تكلموا في المعرفة مشيراً إلى أبي سعيد الخراز، وأحمد بن عطاء، وأبي بكر الشبلي، وأبي يزيد البسطامي، وأبي القاسم الجنيد، ومحمد بن الفضيل السَّمرقندي، ويحيي بن معاذ الرازي، وأبي الحسن النوري، وأبي تراب النخشبي، وأبي بكر الواسطي … أوائل الصوفية العارفين الذين تكلموا في علوم المعرفة والإشارة رضوان الله عليهم أجمعين.

ويفسّر الطوسي بعد أن يجمع نُبَذاً عظيمة من أقوالهم وشذراتهم في المعرفة بعض ما يمكن أن يكون مغلقاً مرموزاً من هذه الأقوال أو من تلك الشذرات حتى لتبدوا وكأنها الطلاسم ليس لها معنى واضح تدركه العقول من وراء الألفاظ؛ فليس لأحد كائناً من كان أن يظفر بمفتاح نص مغلق من نصوص الصوفية دون جراءة منه ودون تقحم وافتئات، إلّا أن يكون قلبه مشروحاً بنور الهداية ونور العرفان، ذوَّاقاً لشراب الأنس، كارعاً من معين الروح بلا ارتواء. ومن أبرز ما قيل في المعرفة قول “الشبلي” حين سُئل : متى يكون العارف بمشهد من الحق؟
فقال :”إذا بدَا الشاهد، وفنىَ الشواهد، وذهب الحواس، واضمحل الإحساس”.

وسُئل أيضاً : ما بدؤ هذا الشأن وما انتهاؤه؟
فقال :”بدؤه معرفته، وانتهاؤه توحيده.

وقال : من علامة المعرفة : أن يرى نفسه في قبضة العزة ويجرى عليه تصاريف القدرة “.
ولنتوقف قليلاً عند إشارات الشبلي؛ فإنّ الدلالة فيها أظهر من أن تغيب عنا حيث قرن بدءَ هذا الشأن بالمعرفة التي تسلم صاحبها إلى التوحيد؛ فالانتهاء إلى التوحيد هو غاية الغايات؛ إذْ ليس فوق الوصول إليه مقام ولا حال. وليست بمعرفة تلك التي لا تُسلم صاحبها إلى التوحيد، ولا تنتهي به إلى تلك النهاية، ولكنها حين تسلمه إليه لا تسلمه إلا وهو في أعلى مراحل التحقيق، وأعلى مراحل التحقيق هو : الفناء في التوحيد.

ومن إشارات الشبلي يظهر أن المعرفة هى عتبة الساحة الكبرى؛ فلا يزال الأفق بعيداً للوصول إلى القلب. المعرفة خطوة أولى تتلوها خطوات. هنالك درجة أعلى منها وأعظم وهى التوحيد؛ فهى السابقة عليه وهو المتأخر عنها، ولكن الوصول إلى التوحيد لا يتحقق بدونها، ولا يتسنى للعارف الوصول إليه بغير التحقق بالمعرفة أولاً انتهاءً إلى التوحيد، وهو المقصود تحقيقاً بالفناء.

والذي يؤكد هذا ويدل عليه من أول وهلة، عبارات الشبلي الدالة على الفناء في التوحيد : إذا بدا الشاهد. والبدء هو الظهور الخاطف. والشاهد هو شاهد الحق. فهناك المعرفة أولاً، ويعقبها الفناء ثانياً.  

حتى إذا كان المقصود بالشاهد هنا هو شاهدٌ الحق؛ فقد فنىَت الشواهد بظهور شواهد الحق، أي فنيتْ الظواهر البادية أمام الجوارح المرئية بالمُقل، المشهودة بالحاسّة الظاهرة. وذهبت الحواس، أي خمدَ الشعور بما هو ظاهر مرئي، وأضمحل الإحساس الباطن استعداداً لمرائي الشهود.

هنالك يتحوَّل الإنسان نفسه إلى غيبة وقتية لحظية؛ ليتلقى ما يتلقاه من نفثات الرَّوْع والإلهام تماماً كما يتلقى الأنبياء الوحي في مشهد الكمال.

وكلها عبارات، كما ترى، مُعبرة من أقرب طريق عن : حال الفناء في التوحيد الذي تسبقه “المعرفة” كما يتأخر هو عنها في مراتب التقريب.

هنالك يكون الفناء في التوحيد هو غاية الطريق وهدف العارف الأوحد عندما يكون بمشهد من الحق.
وهنالك يصبح التوحيد حقيقة مشهودة وواقعاً حياً ملموساً. ولا يسمى العارف عارفاً وهو لا ينتهى بالمعرفة إلى التوحيد. ولكن هذه النهاية لا تكتمل إلا بالفناء في التوحيد، المعبر عنها في إشارات الشبلي وفي لغته الخاصّة : برؤية العبد نفسه في قبضة العزة، تجري عليه تصاريف القدرة.

ولمّا سئل أبو سعيد الخراز عن المعرفة قال : المعرفة تأتي من وجهين : من عين الجود، وبذل المجهود”؛ لكأنه يريد أن يقول إنّ المعرفة هبة من الله من وجه، وجهد واستعداد من العبد من وجه آخر.

وتختلف أقوال الصوفية في المعرفة من صوفي إلى آخر على حسب الحال والوقت والسّر الذي تصدر عنه الإشارة. والحالُ في اصطلاحهم يتغير ولا يثبت على قرار بخلاف المقام الذي يدوم فيه العبد ويثبت، وما له من ملاذ يلوذ به غير هذا القرار. من أجل هذا؛ كان الحال علامة دالة على الذات الإنسانية لديهم، على فورتها الشعورية الباطنة : حيناً تراها مقبوضة، وحيناً تراها مبسوطة، وتارة تشهدها فانية، وأخرى تحسبها باقية، وفي لحظة تخالها مسلوبة الإرادة مقهورة بسيف الغلبة، وفي لحظة أخرى تخالها عزيزة بعزة صاحبها صاعداً بها تيهاً في أعلى عنان السماء.

وقد سئل أبو يزيد البسطامي عن صفة العارف، فقال :”لون الماء لون إنائه، إنْ صببته في إناء أبيض خلْته أبيض، وإنْ صببته في إناء أسود خلْته أسود، وكذلك الأصفر والأحمر، وغير ذلك … يتداوله الأحوال، ووليُّ الأحوال وليُّه”. أي؛ تتداوله الأحوال في الوقت الذي هو فيه، وولي الأحوال وَليُّه. على أن السّراج الطوسي يشرح معنى كلام البسطامي هذا؛ فيقول :”إنّ الماء، والله أعلم، على قدر صفائه بصفة لون إنائه لا يغيره لون إنائه عن صفائه وحاله، ويخال الناظر إليه أبيض أو أسود، وهو في الإناء بمعنى واحد، وكذلك العارف وصفته مع الله، عَزّ وجلّ، فيما تتداوله الأحوال يكون سرُّه مع الله تعالى بمعنى واحد”.

وعندي أن شرح الطوسي لإشارة البسطامي لا يكاد يفهم مباشرة إلا حين نفهم من الإشارة رمزيتها، وهى أن الإناءات المتعددة مجرد أغيار تتعدد بتعدّد أشكالها وألوانها، ولكنها في ذات الوقت لا تغير من طبيعة الماء المصبوب فيها؛ فالماء واحد والإناءات متعددة؛ ولذلك جاء لون الماء هو لون إنائه؛ لوحدة الماء وتعدد الهياكل والأشكال والأغيار. وتعدد الأغيار على اختلاف هياكلها وأشكالها، ليس علامة على تعدد الأسرار التي هى صفة العارف، فسرُّ العارف لا يتغير تماماً كما لا يتغير الماء إنما الذي يتغير فيه هو الهيكل البرَّانيِّ، لكنما سرُّ العارف موصول بالله وليّ الأحوال، ووليُّ الأحوال وَليُّه.

وأقوال الصوفية في المعرفة لا تحصى فهى بعدد أنفاسهم وذواتهم. قال أبو تراب النخشبي في صفة العارف :”هو ذلك الذي لا يكدِّره شيء، ويصفو به كل شيء”. وأبو سليمان الداراني قال :”إن المعرفة أقرب إلى الصمت منها إلى الكلام. ولو تمثلت المعرفة رجلاً لهلك كل من نظر إليها؛ لفرط جمالها، وحسنها، وطيبها، ولطفها، ولبدا كل نور ظلام بالقياس إلى بهائها”.

وحجة الإسلام الغزالي يرى في إحياء علوم الدين : أن أداة المعرفة الصوفية هى “القلب”، وأن القلب كالمرآة، والعلم هو انطباع صور الحقائق فيها، فإذا كانت مرآة القلب غير مصقولة؛ فإنها لا تستطيع أن  تعكس حقائق العلوم، ومتى انصقلت بالإقبال على طاعة الله، والإعراض عن مقتضى الشهوات، كانت مستودعاً لجلائل المعارف ونفائس العلوم.

على أن غاية المعرفة عند الغزالي هى التخلق بمكارم الأخلاق، والحب لله، والفناء فيه، الأمر الذي يدلك على أن الذات الإنسانية لب لباب المعرفة والأخلاق عند الصوفية. وإنّ الغزالي ليرى أن المعرفة بالله فطرية، وهى مركوزة في القلب؛ فكل قلب هو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق الإلهية؛ لأنه أمر رَبَّانيّ شريف، وهو محل الأمانة التي حمَّلها الله له وهى : المعرفة والتوحيد.

إنّ الصوفية أرباب قلوب، ومردُّ الأمر كلُّه إلى تطهير الذات الإنسانية من أدران الشهوات؛ ليصفو القلب والقالب معاً؛ فيرتحل الإنسان من طينة الأرض إلى أجواز السماء.

  بقلم : د. مجدي إبراهيم 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *