Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم 

عندما نتحدّث في عالم الأفكار ليس علينا من حرج حين نراعي على الجملة حديث الأذهان. وحديثُ الأذهان هو في الغالب صوري لأن الصورة التي تلازم الفكرة فيه هى صورة ذهنية في أول مقام، مفترض فيها أن يشيع من الفكر المُراد عرضه جوُّ يعبر عن حقيقية هذا الفكر .. وإلا لم نستطع أن نصفها بأنها صورة ذات مغزى فكري. ولم تكن هى بالصورة الذهنية إلا لكونها تشمل الفكرة في بعدها المُجرّد عن واقعات الحياة ..

فإنّ الفرق لأوضح ما يكون بين كونها صورة ذهنية وبين وصفها حقيقة واقعيّة، غير أنه بلا شك هو نفسه فرقُ التّجرُّد، فقد تكون الصورة الذهنية تعبيراً مباشراً عن واقعة حقيقية، ولكنها عند انتقالها إلى الذهن يجب أن تكون مُجرّدة بأقصى غايات التجريد.

عندما أصف مشهداً رأيته بعيني أو سمعته بأذني، فإنني بهذا الوصف أنقل صورة تجرّدت عن الواقع واتصلت من فورها بعالم الخيال، لأنها أصبحت فكرة في الذهن؛ لتنتقل معي الحقيقة الواقعة إلى الصورة الذهنية المُجرّدة، فما انتقلت هذه الحقائق الواقعية إلى الخيال إلا لكي يحيطها العقل، فنفكر فيها، ونحاول تغييرها إذا كانت تحتاج منا إلى تغيير، لكأنما هذا الخيال الجامح أو الساكن هو الذي يُعطي لنا الصورة الذهنية عن الواقعة الحقيقية بغية تغييرها أو تطويرها من طريق إعمال العقل فيها، ثم هو نفسه الذي يعطي لنا القدرة على التعامل مع الواقع إذا نحن أردنا للواقعات الحياتية أن تتغير، لأنه يعطي لنا القدرة على التفكير فيه بحريّة أوسع يمنحها لنا ذلك الخيال البعيد المُجرد حالما ننقل إليه حوادث الواقع مع تعدد حوادثه وتنوّع معطياته عبر حُقب التاريخ.

الخيال الخلّاق هو الذي يفرز المعرفة اذا قُصد بالمعرفة البحث عن الحقيقة بكل معنى من معانيها. ولم تكن الصورة الذهنية المرسومة للتعبير عن حقيقة واقعة أو حتى تلك الصورة الذهنية المجردة عن ملابسات الواقع المشهود ببعيدة عن ميادين الخيال الخلاق، إذا كانت الأفكار الكبرى الباقية مرهونة بصدورها عن هذا الخيال المبدع الخلاق.

وليس شرطاً لهذا الخيال أبداً أن يكون غريباً عن الواقع، عميقاً فيما يبدع، بعيداً عن متناول العقل المفكر على الدوام .. كلا بل كلما لزم البساطة عهدنا معه التحقق الواقعي.

عندما كتب الفيلسوف البريطاني ” برتراند رسل” في سيرته الذاتية، تحت عنوان “ما عشتٌ من أجله” قال: ” لقد تحكمت في حياتي انفعالات ثلاثة بسيطة بيد أنها متناهية في القوة :

(١) الحنين إلى الحبّ (أي البحث عن الوئام).

(٢) والبحث عن الحقيقة (أي البحث عن المعرفة).

(٣) والاشفاق الشديد على الذين يقاسون ويتعذبون (أي البحث عن السلام) .

هذه مبادئ كبار الفلاسفة: البحث عن الحبّ والمعرفة والسلام، تصدر عن خيال جامح مبدع خلاق، وهو في الوقت نفسه خيال لا يصدر إلا الأفكار القويّة البسيطة في آن.

ولم تكن مبادئ الفلاسفة الكبار بالتي تصدر عن عقول تجردت من القيم العلمية والأدبية، لم يبحثوا عن مطالب المادة، ولا عن رهبة العيش في ظلال هذه الدنيا الصاخبة، ولا عن منصب زائل أو جاه مرذول، ولكنهم بحثوا عن ارتقاء القلب النابض بالمحبة، وارتقاء العقل الطالب للمعرفة، وارتقاء الشعور السالم من الأنانية، الشاعر بالتعايش بين الناس بالسلم والأمن والطمأنينة والتراحم .

إنّما هى مبادئ كبرى يفتقدها عالمنا المعاصر، ولا يكاد يطلبها إلا وهو يطلب معها المستحيل الذي لا يقدر عليه، يندر وجوده ويعز في هذا الزمن الذي لا يرحم الكبير، ولا الضعيف، ولا الطفل الصغير أمام طغيان المادة.

وأمام طغيان المادة تبدّدت أحلام البسطاء. وصارت أحكامهم مرهونة بإرادة غيرهم ممّن يسومونهم سوء العذاب. فلم تعد مطالب الحبّ متاحة؛ لأن البحث عن الوئام صار معزولاً عن وقائع التطبيق. وأصبح الحب مفقوداً إلا من كلمته الواهية تجري لفظاً معسولاً غير أنه عسير التحقيق، وإذا وجد في هذا العالم الذي نعيشه فهو قشرة سطحية تتقدمها مطالب المادة بالضرورة ويفتقدها حضور الوعي مع تلك المطالب.

ويبقى البحث عن المعرفة والبحث عن السلام، وهما لا يتحققان واقعاً وأن تحققا نظراً لا حيلة فيه من الواقع في شئ.

بقلم: د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *