Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

المعصية، وإن كانت مُقدّرة، غير أنها تورث ظلمة وحجاباً في أعماق النفس السّويّة، متعبة فعلاً وقصداً، تستنفذ الطاقة الباقية، وتثقل الروح بوحل أثقال الطينة الترابية. الفرار منها غاية القاصدين، والبقاء معها مرغ الفاسدين. المعصية سواد في الوجه، وظلمة في نور الروح، ونكتة سوداء في فؤاد الذاكرين .. المعصية نداء الطين وحكم الغريزة البهيم، وتناقض الطبيعة وتفسخ التوازن، واستلاب الحركة في جهاد الثائرين.

والعصيانُ مانع لعطاء الله، وإن أعطاه مع المعصية فهو مستدرج. وفي الحديث : إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو قائم في معاصيه، فاعلم إنما ذلك استدراج.

وبأصرح الصراحة، المعصية هى آفة نفس ملوثة، أو ضعيفة لم تتربى، ولم تتهذب، فالاستقامة بالنسبة لها عسيرة. ومَنْ استولت عليه الغفلة صَرَفَتْ قلبه لا محالة عن التوحيد والعبودية : صرفته عن التّفقد لخواطره والمراعاة لأسرارها، فليس يجد من المراقبة ـ نظراً لغفلته ـ ما يدفع به شهواته الثائرة ودواعيه الغلابة دوماً على نفسه.

ولكن مع ذلك كله؛ فإنّ في العاصين كباراً ورجالاً، وفي أصحاب الخطايا أممٌ أقرب إلى الخير وأدنى إلى الفضيلة، وفيهم من هو أرق قلباً وأدق ذوقاً وأكرم سجيّة وأنفس طويّة من أصحاب الطاعات الذين يتيهون على خلق الله صلفاً وغروراً بطاعاتهم وعباداتهم، والله وحده يعلم نيّة العاصي إذ عصاه، وطاعة المطيع إذ أطاعه، وإنما الأعمال بالنيّات، ونيّة المرء خيرٌ من عمله كما جاء في الخبر الصحيح.

على أن المعصية، من جهة أخرى، تحتاج إلى بذل مجهود مكثف لإزالتها من طريق الصفاء والاستقامة، ولا تزال آثارها في العقل الباطن مؤلمة .. إذا ذكرها صاحبها وهو يقظ الضمير أرتدت عليه أسفاً ونكوصاً. وإذا سلم منها وتغافل عن ذكراها توارت قليلاً لتفجأه مع الأيام بوثباتها القاتلة، ولهذا كانت التوبة مقاماً من مقامات العارفين غير مشروط فيها نسيان الذنب، وبخاصّة للمبتدئين، لوجوب اليقظة الدائمة واستعظام حجم المعصية. ولذلك، قال سهل بن عبد الله التُّستريّ “التوبة : هى ألا تنسى ذنبك”.
والمعنى هو أنك ما دمت تذكر ذنبك لم تغفل عنه، فأنت ذاكرٌ لربّك، مستغفره، طالباً الأوبة والرجوع على الدوام بغير إنقطاع. ومن غلبته نفسه وقع في المعصية التي تغضب الله. وأن الأصل في كل معصية وغفلة وشهوة هو الرضا عن النفس؛ وأصل كل طاعة ويقظة وعفة؛ عدم الرضا منك عنها، ولأنْ تَصْحَبْ جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خيرٌ لك من أن تَصْحَبْ عالماً يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرضى عن نفسه؛ وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟! ولله درّ ابن عطاء .. كفانا الله وإيَّاكم شر نفوسنا.
تلك كانت مرحلة أولى.

أمّا المرحلة الثانية، فإنها تبدأ من حيث الاستغراق في الذكر، فإذا قادك الذكر والاستغفار إلى الفناء عن المعصية أو عن الطاعة سواء، وأصبحت في معيّة الله على الدوام، فالأولى هو أن تنسى ذنبك، ذلك ما أجاب به الجنيد البغدادي لما سئل عن التوبة ما هى؟ فقال : “أن تنسى ذنبك”.

والمعنى هو أنك في هذه الحالة لم تعد تشهد لنفسك أثراً لا من جهة العصيان ولا من جهة الطاعات، فأنت في حال إذ ذاك يُقال لها حال الفناء، غيبة عن حظوظ النّفس بالكلية، ووقوف بها عند مراد الله، فليس يلزم لك ذكر الذنب لأنك لا تشهده، ولا تشهد لنفسك وجوداً بالمرة .. وهذه توبة الكبراء : نسوا ذنوبهم، لفناء نفوسهم وحظوظها، ولشهودهم المعبود الحق في حال ذكرهم وعبادتهم .. لكن إجابة سهل بن عبد الله تلزم المبتدئ في الطريق ألا ينسى ذنبه؛ لوجود القواطع وشهود الأغيار؛ فنسيان الذنب في حقه تلف ومكابدة.

أمّا إجابة الجنيد؛ فتخصّ الأكابر ممّن استغرقهم الذكر والوجد والفناء، فذكر الذنب بالنسبة لهم نكوصٌ وتردي، وربما يكون قطيعة من قواطع الطريق عن الطريق في الطريق.

للأولياء أسرارٌ في التعبير عن الأحوال يعجز عن تفسيرها من لم يكن مُصاحباً لإشاراتهم وأذواقهم، عارفاً بمعدنها، مقدراً لأقدارهم فيها. ومردُّ هذا العجز إختيار الجانب المظلم المنظور إليه في نفس ذات العاجز المقصر لفهم تلك الإشارات، لو أنه أحب لأضاءوا له أسرار الطريق، ولانفتحت روحه إلى فهم الإشارة من سرّ العبارة.

أمّا الغطرسة وقلة الأدب والتعالي، فلن تفيد تعاملاً مع علوم القوم ورموز الطائفة في قانون الطائفة.

L’image contient peut-être : 1 personne, lunettes

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *