Share Button

 

في خاطرة عابرة قلت إن الصياغة والأسلوب في الكتابة هما فن وذوق وإحساس، ليستا بالهرتلة الفارغة من كل معنى؛ لأنهما يُعبّران عن معاناة شديدة وباطن نظيف، سواء كانت الصياغة في الفكرة أو كان أسلوب الكتابة في التعبير عن الأفكار.

للأسف قد تكون النوايا طيّبة، والمعلومة حاضرة، ولكن استخدمنا للكلمات مع حسن النيّة بطريقة خاطئة يُفسد المعلومة ويجعل من حسن النوايا أسوأ ساحة للعراك المتبادل وقلب الحقائق واندثار المفاهيم المشتركة.

ودار حوار مع صديقي قال فيه تعليقاً على ما خطر لي إذ ذاك :” تخيّل إن المعاني والأفكار التي تنتقل من خلال فرد للآخر، تنتقل بنسبة 55% من خلال لغة الجسد، و35% حركة الجسد للأمام مثلاً أو الخلف، و8% فقط من خلال الكلام ولغة التخاطب، إحصائية قدّمها الدكتور إبراهيم الفقى مُقدّم تطوير الموارد البشرية، أذهلتني تلك الإحصائية”.

وأذهلني أنا أن حوار الصديق العزيز أو قُل مجرّد تعليقه، نقلني على الفور إلى المفاضلة بين القراءة والحركة أو بين لغة الجسد ممثلة في الحركة، ولغة التخاطب مجسدة في القراءة.

وعلى ذكر التنمية البشرية عرضاً في الطريق، ومقدّمها إبراهيم الفقي عليه رحمة الله ، راحت خواطري تتابع ردوداً على تعليق الصديق بعد تساؤلات أثارها في ذهني تعليقه : أيهما أفضل، القراءة الجادة الواعية، أم الحركة المصاحبة للعملية التعليمية كما يستفاد ممّا تقدّمه التنمية البشرية ووسائلها ؟ الأمر الذي أذهل معه الصديق الكريم.

أخذت نفسي وقفتها تستجمع قواها لأقول : ولذلك؛ كانت الرواية على المسرح، والقصة حينما تمثل وتخرج للسينما أو التليفزيون أثبت وأفعل في ذهن المتلقي من القراءة .. ولكن ليس معنى هذا أن القراءة أو لغة التخاطب ليستا على المستوى الأعلى بل بالعكس، والعكس هو الصحيح.

الفرق يكمن في الخيال، ففي الحالة الأولى، الخيال جاهز والصورة حاضرة، وفي الحالة الثانية، حالة القراءة، لابد من أن تقوم بنفسك في خلق عملية الخيال. وصناعة الخيال وتربية الخيال، تتأتّى من الكدح الدائم في المقروء والمكتوب. وما لم يكن لديك خيالٌ ليس بعاطل ما استطعت الصبر على القراءة مطلقاً.

تعالى مثلاً نقرأ رواية لنجيب محفوظ أو توفيق الحكيم، ثم نشاهدها على شاشة السينما .. ما الّذي يحدث؟

ستجد الرواية لا تنقل بتفاصيلها حين كتبها قلم الأديب، بل سيحتاج الأمر لنقلها إلى سيناريو وحوار آخر غير ما خطّه الأديب بقلمه .. وماذا يفعل السيناريست؟

يفعل أمرين في منتهى الخطورة :

الأول: يقضي على الروابط العقلية والمنطقية في الرواية، ويفرّغها تماماً من النقلات الذهنية، ويحوّل السّرد الفني الذي يخلقه خيال الأديب تحت سنان قلمه إلى حركة ظاهرة. ومعنى ذلك، أنه يستفرغ الوعي الباطن من مضمونه، ويقتصر على الحكي فيما يمسُّ الشعور فقط.

والثاني: أنه يستغرق في الحواس الظاهرة، أمّا الحواس الباطنة التي تشكلها القراءة وينمّيها الصبر عليها فلا شأن له بها. والاستغراق في نقل الحواس الظاهرة هو الذي يسبّب، مع الاندماج، حالات مثل البكاء والفرح والتأثير السلبي. ويكون سلبياً، لأنه في الغالب تأثير خارجي برّانيُّ لا يتغلغل في الأعماق الشعورية الباطنة، ولا يغيّر.

وبما أن الحركة الظاهرة تستغرقه كليةً، فلا ينفذ إلى أعماق الشعور كما تنفذ القراءة الواعية بصاحبها، فتغيّره.

الغريب في الأمر، أن هناك دراسات حديثة أثبتت أن إدمان مشاهدة الأفلام والمسلسلات تصيب المُشاهد بالتخلف العقلي .. وهذه حقيقة تؤكد أنه كلما ابتعدنا عن القراءة الجادة الواعية انزلقنا – من فورنا – في حضيض التّسفُل والانحطاط.

ومن هنا، ومع فقدان هذين الشرطين السابقين، يكون الفن، ولأنه وصفي يأتي بعد الحدث، تابعاً للفكر، والفكر أسبق منه، وأعمُّ منه وأشمل. ومن أجل وجود هذين الشرطين في القراءة، وفقدانهما في السيناريو كانت القراءة صعبة للغاية لا يطيقها أكثر الناس، وكانت المُشاهدة سهلة جداً تجذب أكثر الناس.

الفرق بين الحالة الأولى والحالة الثانية، هو فرقٌ بين رجل يفكر، ورجل ينتظر أن يُقدّم له التفكير، فرق هو هو الفرق نفسه بين صناعة التنمية البشرية من جهة، وبين تجربة حقيقية وحياتية دونها كاتب أو أديب أو ناقد أو فيلسوف.

فرقٌ كبير جداً بين من يطبخ، ومن يتناول الطعام جاهزاً من غير تعب ولا معاناة.

ومع أنني لا أشجع ممارسات التنمية البشرية واعتبرها سبّوبة ارتزاق يقوم بها الفاشلون، ومع أنني قرأت كثيراً للمرحوم إبراهيم الفقي إلا أن التنمية البشرية لا تشكل شخصيّة فكريّة يُعتد بها، هى عبارة عن (نتش) من هنا ومن هناك، الفاشلون وحدهم الذين يقولون ما لا يفعلون، هم من يقومون بها، ولا يجيدون سوى عبارات التشجيع والدّعم النفسي من نوعيّة (أحبّ ما تعمل حتى تعمل ما تحب!)، وهى عبارات من أردأ ما جادت به قرائح شياطين التنمية البشرية، لعنها ولعنهم الله. الوسيلة الوحيدة كي يحب المرء ما يعمل هى أن يكون بالفعل ممّن يعملون ما يحبون في ظروف عمل يحبونها، تؤهلهم للعمل، وتحقق لهم مآربهم فيما يعملون فيه.

عندي أنه : لا فائدة من صناعة التنمية البشرية كلها إذا لم تكن دعايتها الإيجابية تقابل فلسفة إيجابية يعتنقها المتلقي نفسه ويفعّلها أولاً في ذاته، ولا ينتظر من آخرين يتحفونه بكتابات عن “تنمية الذات” و”تطوير الذات”، لماذا؟ لأننا لا تقبل على الدعاية الإيجابية إلا إذا كنّا إيجابين أصلاً ، ومتفائلين فعلاً، ومن ثم ننمي ذواتنا على قناعة، ونطورها على معرفة مؤصّلة لا على قشور وسطحيات.
الحقيقة أن صناعة التنمية البشرية كلها تقوم على أساس بيعك ما تملكه ..
هذه بضاعتك رُدّت إليك !

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *