Share Button

إعداد / محمـــد الدكــــرورى

ونكمل الجزء الثامن مع فضل الحديث، وإن عدّ من السنة بمعناها العام ذلك لأنه إنما صدر منه صلى الله عليه وسلم على أنه من الأقوال أو الأعمال العادية المتكررة المباحة التي تدعو إليها حاجة البشر، وطبيعة الإنسان الحيوانية، وعاداته المعيشية، وعلى ذلك فإذا ما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لزراعة الأرض، وطرق استثمارها لبيان ما أحله الله تعالى من ذلك، وما يترتب عليه من حقوق وآثار، كان ذلك شريعة واجبة الاتباع، وإن عرض لذلك مبينا كيفية الزراعة وطريقة الغرس، والقيام على إصلاح الزرع والشجر وطرائق ريه ومواعيده، مما يعرف بطريق التجربة والخبرة، كان بيانه هذا إرشادا تجريبيا، ورأيا استنبطه من وسطه، يصيب فيه ويخطئ كغيره من الناس، ولا يعد شيء من ذلك شريعة تتبع، وإذا أخطأ فيه لم ينبهه الوحي إلى خطئه، يدل على ذلك ما أخرجه مسلم عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبرون النخل، فقال ما تصنعون؟ قالوا كنا نصنعه، فقال ” لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا” فتركوه فنفضت، فذكروا له ذلك، فقال ” إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر” وما أخرجه عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال ” لو لم تفعلوا لصلح ” قال فخرج شيصا، فمر بهم فقال ” ما لنخلكم؟”

قالوا قلت كذا وكذا، قال “أنتم أعلم بأمر دنياكم” وفي رواية عن طلحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الذي أشار به صلى الله عليه وسلم في أمر إلقاح النخل ” إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله”ومدلول هذه الروايات الثلاث أن ما يحدث به صلى الله عليه وسلم عن ربه فذلك هو الدين الذي يجب اتباعه طاعة لله، أما ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بأمور الدنيا فرأي يرتئيه، وظن دفعه إليه حدسه، وملاحظته واستنتاجه، فهو كسائر البشر يصيب ويخطئ، وقد يكون غيره فيه أكثر تجربة، وأقوى اتصالا وأعظم خبرة، فيكون في رأيه أقر إصابة، ومن ذلك أن يشير بخطة حربية أو ينزل بجيشه منزلا يرى في النزول به المكيدة والحرب، فإن رأيه هذا لا يكون له من وجوب الطاعة إلا ما لرأي غيره من الأمراء والقادة المحاربين الذي يصدرون في ذلك عن نظر وموازنة، فيصيبون مرة ويخطئون أخرى، ولا يكون دينا أوحي به إليه، ويدل على ذلك متابعته صلى الله عليه وسلم لما رآه الحباب بن المنذر حين أشار عليه بأن ينزل على أدنى ماء من بدر، بدلا عن نزوله حيث نزل في غزوة بدر، فقال له يا رسول الله، أهذا منزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم.

“بل هو الرأى والحرب والمكيدة” فقال الحباب ليس هذا لك بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فإني أعرف غزارته وصفاءه، فننزل ونغور ما عداه من الآبار ثم نبني حوضا، فنملؤه ماء فنشرب ولا يشربون، فقال صلى الله عليه وسلم ” لقد أشرت بالرأي ” ومن ذلك مساومته في البيع والشراء إذا باع أو اشترى، فإن ما يطلبه من صاحبه في ذلك أو يعرضه عليه لا يعد دينا يطلب اتباعه، يدل على ذلك ما كان بينه وبين جابر بن عبدالله رضي الله عنه حين طلب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبيع له بعيره فأبى، إذ لم يكن له غيره ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم إباءه هذا معصية تستوجب لوما، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فأراد أن يسيبه، قال فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لي، وضربه فسار سيرا حسنا لم يسر مثله، فقال ” بعنيه بوقية ” قلت لا، ثم قال ” بعنيه بوقية” فبعته بوقية، واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل فنقد في ثمنه، ثم رجعت فأرسل في إثري فقال “تراني قد ماكستك لآخذ جملك، خذ جملك ودراهمك فهو لك” ويدل هذا على أن أمره صلى الله عليه وسلم جابرا أن يبيعه الجمل لم يكن تشريعا صادرا عن وحي، وإنما كان مجرد رغبة عرضها على وجه المساومة، كما يفعل غيره من الناس.

حين يساوم فيما يرغب في شرائه، وقد روى أبو نضرة، عن عمران بن حصين، أن رجلا أتاه فسألَه عن شيء فحدثه، فقال الرجل حدثوا عن كتاب الله عز وجل، ولا تحدثوا عن غيره، فقال “إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله صلاة الظهر أربعا لا يُجهر فيها؟ وعدّ الصلوات، وعدّ الزكاة ونحوها، ثم قال “أتجد هذا مفسّرا في كتاب الله؟ كتاب الله أحكم ذلك، والسنة تفسر ذلك” ونهج التابعون وأتباعهم، والمسلمون من بعدهم سبيل الصحابة في المحافظة على السنة والعمل بها وإجلالها، فقال رجل للتابعي الجليل مطرف بن عبدالله بن الشخير، لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال مطرف “والله ما نريد بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا” وهذا من أخبار اقتداء السلف الصالح، من الصحابة والتابعين بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والمحافظة على سنته تفوق الحصر، منها، أنه أتت السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا بكر الصديق، تطلب سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول “إن الله عز وجل إذا أطعم نبيا طعمة، ثم قبضه جعله للذي يقوم بعده ” فرأيت أن أرده على المسلمين، فقالت فأنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلم، وفي وقعة اليرموك كتب القادة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، إنه جاش إلينا الموت، يستمدونه.

فكان أن أجابهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه “إني أدلكم على من هو أعز نصرا، وأحضر جندا، الله عز وجل، فاستنصروه، فإن محمدا قد نصر يوم بدر في أقل مِن عُدتكم، فإذا أتاكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني” وقيل لعبدالله بن عمر رضى الله عنهما، لا تجد صلاة السفر في القرآن؟ فقال ابن عمر رضى الله عنهما “إن الله عز وجل بعث إلينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأَينا محمد صلى الله عليه وسلم، يفعل” وفي رواية أخرى “وكنا ضُلالا فهدانا الله به، فبِه نقتدي” أولئك بعض صحابته لم يرضوا ترك سنة كان عليها نبي الرحمة، صلى الله عليه وسلم، ولم يقبلوا أن يُشككهم مشكك، أو يضللهم مضلل، ولم يقبلوا مع السنة رأي أحد مهما كان شأنه، ومهما علت مكانته، وهم بذلك حفظوا الحديث النبوي الشريف، ووجهوا الأمةَ الإسلامية إلى السبيل القويم، وحملوا الحكام على تطبيق أحكام الشريعة، وأبوا أن يماروا في دين الله، لا يخافون في الحق لومةَ لائم، وكان لهم الفضل الكبير، والشرف العظيم في حمل أحكام الشريعة، وهكذا كان للسنة قيمتها ومكانتها في القرآن الكريم، وفي قلوب الصحابة والتابعين، والعاملين بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، أجمعين، فإذا تقوّل اليوم متقوّل، وحاول أن ينتقص منها، أو يبتدع رأيا، أو يهاجم راويا، فإننا نشجب كل ذلك، ونسمه بالجحود والنكران.

وإنه عندما اكتمل علم الحديث في القرن الثاني الهجري وأصبحت له قواعده وأصوله، ومناهجه وأساليبه وأعلامه المشهورين، فقد نشأت علوم فرعية عديدة كعلم لغة الحديث، وعلم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، وعلم التأريخ للسيرة النبوية الشريفة، ثم أخذ العلماء في توسيع نطاق هذا العلم الجليل ليُستفاد منه في التأريخ لأعلام المسلمين من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من العلماء في مختلف العلوم، ممن برزوا واشتهروا في مختلف العصور، وهكذا أصبح ما يُعرف بكتب الطبقات، جزءا مهما من أدبيات كل عصر، بل أصبح لكل قرن من قرون التاريخ الإسلامي، من يؤرخ لأعلامه، وبقي هذا التقليد قائماً حتى عصر المحبي والمرادي، وعندما بدأت أساليب البحث العلمي تتأثر بالتقاليد الغربية وظهرت الموسوعات التي أحصت آلاف الأعلام، بادرت المؤسسات العلمية في البلاد الإسلامية إلى السير على هذا النهج، ولعل أحدث الجهود في هذا المجال ما تقوم به حاليا المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الألكسو، في إصدارها موسوعة الأدباء والعلماء العرب والمسلمين وإنه لا أعلم بين حضارات الأمم، حضارة أولت إحصاء أعلامها ما أولته الحضارة الإسلامية من جهد، حتى شمل هذا الإحصاء العلماء والشعراء وأصحاب المهن والفنانين، وشكلت هذه الكتب تراثا فكريا إنسانيا فريدا يجدر التنويه به عندما تذكر الإنجازات الحضارية الكبرى في العالم.

ولذلك فكما حفظ القرآن الكريم وتفسير آياته وإتقان علومه يحتاج إلى قدرات واستعداد خاص عند الحفّاظ والدارسين فإن حفظ متون الأحاديث وأسانيدها، ودراسة علوم الحديث يحتاج إلى جهود واستعدادات عظيمة وخاصة، غير أن حب المسلمين للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، جعل الإقبال على علوم الحديث محببا إلى نفوس المؤمنين إلى يومنا هذا، وهكذا كثرت الكتب التي تعنى بالحديث النبوي الشريف في كل عصر، ولكن الكمّ الهائل من هذه الأحاديث، واختلاف مراتبها من الصحة والضعف، جعل من الضروري اختيار ما يجب معرفته ودراسته وما يمكن تجاوزه، وهنا تكمن المشكلة بالنسبة لمعلم الحديث في النظام التربوي، فأي الأحاديث وأي المتون يجب أن تحفظ وأيها يُدرّس، متنا وإسنادا، علما أن في كل جهد يبذل في هذا السبيل ثواب وفضل عظيم ؟ وإن من البديهي القول بأن مصدر كل توجيه في النظام التربوي الإسلامي هو القرآن الكريم، ثم السنة النبوية الشريفة، وإن ما يساعد المربي المسلم أن الحديث الشريف والسنة النبوية وأخبار الصحابة والتابعين ومن تبعهم من العلماء والصالحين، توفر مادة تعليمية غنية ومرنة تتكيف مع متطلبات التربية الحديثة، ففيها من القصص والأمثال الكثير الذي يستطيع المعلم أن يستفيد منه لجذب انتباه طالب العلم الصغير والكبير، وفيها من ضروب البلاغة ومواقف النبل والشهامة والتقي والورع.

Peut être une image de 1 personne, plein air et arbre

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *