Share Button

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

ذكرنا في المقال السابق (المعرفة عند أبي سعيد بن أبي الخير) أحد أئمة التصوف الكبار (توفى سنة 440)، أن بعدين تمّ الكشف عنهما في قراءة الدكتور العراقي لكتاب الدكتور أحمد الجزار. وقد كان البُعد الأوّل منهما هو معرفة الأستاذ لتلميذه معرفة خاصّة تقوم على التقدير المتبادل، الأمر الذي جعل الثقة صلةً روحيّةً يغلبُ عليها الصدق، ولا يتطرّق إليها الجحود والنكران. وكان البُعد الثاني يشمل الإحاطة بالأعمال العلميّة التي وُفّق إليها تلميذه وصديقه، والدراية التّامة بمنجز الأصالة والتحقيق فيها. وقلنا إنّ البعد الأوّل هذا ليكشف الغطاء عن فاعلية القيم وانتقالها من جيل إلى جيل، ومن عقل إلى عقل، ومن نفس إلى نفس على ديدن الثبات والاستمرارية، ومن طريق ذوق الصُحبة الطيبة، والإخلاص في الأعمال، والتعامل بصدق وأريحيّة، ومن سبيل قصد التقدير لفهم متبادل مشترك لا يشق له غبار لقضايا العصر ومشكلات الفلسفة وآراء المذاهب والأفكار.

وفي إطار منظومة القيم أيضاً، يمكننا خلال هذه القراءة إثبات أن عناية المرحوم الأستاذ الدكتور عاطف العراقي – طيّب الله ثراه – بكتاب المعرفة لمؤلفه الأستاذ الدكتور أحمد الجزار، لم تكن إذ ذاك، بعد العرض والنقد والتحليل، سوى تشريفاً له ولصاحبه؛ إذ لا شرف لإنسان كائناً ما كان أو من كان، ولا لعمل أيّاً ما كانت قيمته إلّا بما فيه، وليس بإقبال عليه مثلاً أو بإعراض عنه، فلربما يقبل المقبل على العمل وهو له كاره، وقد يعرض المعرض عنه ولا يسيغ القبول عليه ولا تزال مع ذلك قيمته باقية فيه، وحسبُ الإنسان أن يبذل مُخلصاً لغيره غاية ما في وسعه على ما تتطلبه الكرامة وتقتضيه المروءة وتتوجّبه تقوى الله.

وهذا بلا شك هو جوهر الإخلاص شرط الكمال الروحي كما سنراه تباعاً في قراءة الكتاب.

أمّا الإقبال والإعراض وما إليهما من رواج وانتشار أو كساد وخمول؛ فحظوظ أنفس عارضة قد تكون عادلة أو جائرة. وما دامت أمانة العرض والنقد والتحليل هى الباقية ببقاء ما فيها من معيار؛ فليس من علّة من ورائها سوى الإخلاص في العمل، ويكفى به من معيار، وكفى به كذلك من غايةٍ يكلُف بها المُخلصون.

حقيقةً، إنّما يرفع الإنسان أو يخفضه عمله المُجرّد عن المنافع القريبة والغايات الترابيّة، لا مدح الناس أو ذمّهم بالحق أو بالباطل أيّاً كانوا من رجحان العقل والثقافة والأدب. ولقد صدق الفيلسوف الألماني “نيتشه” حيث قال:” إنّما الفضلُ قيمتُه فيه لا فيما يُقال عنه، أيّاً كان القائلون”.

وبما أن شعور العطف كامنٌ في أغوار النفس البشرية بغير مراء؛ فمن الصحيح أن تكون أرفع النفوس وأقوها لا تعلو مطلقاً عن الأنس برضا الفضلاء، والوحشة حين يلقونها بالجفاء، وذلك لما فُطرت عليه من قوة العطف، وحبّ الألفة والكرامة، أو لبعض ما تشتمل عليه من الضعف أو النقص الذي لا يبرأ منه أحدُ من البشر، بالغاً ما بلغ الرأي فيه من العظمة والاستقلال.

وفي الحق أنه، من لا يأنس برضا الفُضلاء، ويستوحش لجفوتهم، فهو إمّا أن يكون إلهاً قد استغنى بذاته عمّن سواه، أو يكون حيواناً لم تؤهله طينته البهيميّة أن يتّصل بمعنى الإنسانيّة في أصل عناصرها الرفيع، ولأنه كذلك لا يصبحُ إمّا أن يكون أرفع من الإنسان أو يكون أدنى منه؛ ففي الحالة الأولى يقتربُ من الألوهية، وفي الحالة الثانية سيكون حيواناً أعجميّاًّ له بالحيوانية نسبٌ وصلة.

وأمّا من يأنس برضا الغوغاء، ويستوحش لجفوتهم؛ فهو بلا ريب من طينتهم اللازبة في الكيان، وفي الوجدان، وفي الاتّصاف بصفات الدُّون في عالم الأهواء والشهوات.

في هذا الإطار المُرصّع بالقيم العليا لا في إطارٍ سواه، نتناول قراءة العراقي لكتاب الجزار؛ فيأتي البعد الأوّل الذي سبقت إليه الإشارة؛ ليكون بمثابة التمهيد التقريري للبعد الثاني من تلك القراءة. وفي هذا التمهيد تقرّرت عند العراقي رؤيته التي يقول فيها : إنّ الدكتور أحمد الجزار لا يدرس موضوعاً من الموضوعات الداخلة في إطار كتابه إلا بعد تأمل دقيق وإطلاع مكثف على عديد المصادر والمراجع، وهذا دأبه باستمرار في كل ما يكتب. ثم يمضي العراقي ليقول : وأقولُ للقرّاء الأعزاء إنّ الدكتور أحمد الجزار يدرك أمانة الكلمة، وأن أخطر شئ إنمّا هو الكلمة المطبوعة، وهذا أيضاً دأبه منذ دراسته للماجستير، وكنتُ أقولُ باستمرار وما زلتُ أقول – رحمه الله رحمة واسعة – بأن كتابات الدكتور أحمد الجزار تذكّرنا بكتابات الأساتذة الكبار في مجال التصوف، والذين شقّوا طريقهم وسط الأشواك والصخور من أمثال : أبى العلاء عفيفي ومصطفى حلمي. وحين أقرأ للدكتور أحمد الجزار في مجال الفكر العربي عامّة، والتصوف الإسلامي خاصّة على وجه الخصوص، أقول : إنّ دراسات التصوف ما زالت بخير إلى حدٍ كبير (ثورة النقد : ص 742).

غير أنه يعودُ بعد أن يعرض فصول الكتاب وأقسامه حسب رؤية مؤلفه فيقول: إنّ هذا الكتاب – كما أقولُ وأكرر القول – يعدُّ كتاباً هاماً وعلى مستوى رفيع في مجال البحث الأكاديمي الجاد، ولا يخالجني الشك في أن كل المهتمين بالفكر الصوفي في الإسلام، سيرحّبُون بهذا الكتاب ترحيباً بلا حدود؛ إنه ليعدُّ كتاباً هامّاً من حيث موضوعه، ومن حيث المنهج الذي سار عليه مؤلفنا الدكتور أحمد الجزار، ونرجو له كل ازدهار في مجالات الدراسات الأكاديمية الصوفية، إنه مجال يحتاج إلى قلم مؤلفنا الجاد، الدكتور أحمد الجزار، نقول هذا رغم تفضيلنا للاتجاه العقلي، وبالتالي رفضنا لحقيقة المنهج الصوفي (ثورة النقد : ص 749).

المؤلف من جهة، والكتاب من جهة ثانية، يمثلان لدى أستاذنا الدكتور عاطف العراقي صورة جليّة ناصعة من صور التفكير العربي خاصّة بالتصوف في الإسلام؛ ليقدّم للقارئ نموذجاً من الأعمال الجادّة، موضوعاً ومنهجاً، رغم رفضه المنهج الصوفي رأياً وبداهةً، وأخذه بالاتّجاه العقلاني قناعة وتأصيلاً، ولكنّ موضوعيته من حيث أمانة العرض والنقد والتحليل، تقتضي التفرقة بدايةً بين التفضيل للمنزع العقلي الذي يدينُ له بالولاء من جهة، وبين ذاك الاتجاه الصوفي الذي يلزم عنه عرض الكتاب بموضوعيّة وتجرّد من جهة ثانية؛ فليس يقدح في الإعجاب بالكتاب وبموضوعه أن يقول كلمة حق فيه وفي صاحبه مع إيثاره الاتجاه العقلاني على التعميم، بمقدار ما لا يقدح في تلك الكلمة أن تجئ موافقة لما كان قد تقرّر لدينا سلفاً من اعتبار البعد الأول تمهيداً تقريريّاً للبعد الثاني مع كفاية الدلالة باتصال البعدين معاً على التقدير العلمي والأدبي سواء.

ولا حاجة بنا للتأكيد على هذا التقدير إذا هو صدر من أستاذ كبير له باعٌ طويلٌ من خبرة السنين الطوال في فحص المقروء والمكتوب تحت مجهر التحليل العلمي ممّا يرد عليه من أصنافه وأنواعه وما قد ثمُن منه وما قد غث. على أننا في هذه القراءة نحاول كشف الدلالة كون القراءة منهجاً وقيمة مع الاحتفاظ بلغة العراقي فيها : حرفه ونصّه، فإنّ عبارته التي عوّدنا إيّاها، على سهولتها وبساطتها، تشي بالفكر المؤسّس على الاخلاص.

وعن أهميّة موضوع المعرفة الصوفيّة عند أبي سعيد بن أبي الخير كما تظهر في نظر الدكتور أحمد الجزار؛ ينقل العراقي رأي الأوّل في هذه المسألة كونها تمسّ جوهر الموضوع مباشرة؛ فإنّ اقتران مسألة المعرفة بأبي سعيد ابن أبي الخير أهميّة خاصّة من جهتين : أولاهما : أنّ المعرفة حقيقة التصوف، ولا غرو في ذلك بوصفه طريقاً لمعرفة الألوهية على وجه التحديد في مقابل طرائق المتكلمين والفلاسفة؛ فمهما تكلم الصوفية المسلمون في المحبّة والفناء وغيرهما، فلا يمكن أن يكون تصوّفهم إلا طريقين فقط هما المعرفة والحبّ ولا ثالث بينهما.

لهذا السّبب، تكتسب المعرفة خصوصيّة شديدة عند أبي سعيد؛ لتلاحمها الشديد في مذهبه مع الولاية تارة، ومع الفناء تارة أخرى. وثانيتهما : أن كل مجاهدات ابن أبي الخير على قسوتها كانت مُوجّهة للمعرفة ولا شئ غيرها، حتى بلغ مرحلة الكشف الدائم، وهى إحدى الحالات النادرة على حدّ قوله، وليس لنا أن نعجب؛ لأنه يؤكد أن ما يقوله لا عن سمع ورؤية، وإنّما عن تجربة وشهود (ثورة النقد : ص 742).

وليس لرجل أن يتحقّق بحقيقة المعرفة على الحقيقة، ما لم يفن تحت إطلاع الحق، ويبقى على بساط الحق بلا نفس ولا خلق، كما يذكر القشيري حاكياً عن البسطامي. ولذلك كانت المعرفة لبّ لباب التصوف بغير نزاع .
* * *
ثم يعرض للفصل الأول من الكتاب وعنوانه : المعرفة بين الوهب والكسب، ليرى أن عناصر هذا الفصل جاءت مرتّبة ترتيباً موضوعياً دقيقاً فيما يشبه رفو النسيج ليطرد سياق الكلام اطراداً؛ ليجيء كل عنصر فيه يرتبط مباشرة بالعنصر السابق عليه ويؤدي في الوقت نفسه إلى العنصر الذي يليه؛ الأمر الذي يؤكد وجود وحدة عضوية بارزة ليس في هذا الفصل فقط، ولكن أيضاً في كل فصول الكتاب.
(وللحديث بقيّة)
بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *