Share Button

بالانتقال إلى الفصل الثاني، فإنّه يعدُّ في قراءة العراقي من أهم فصول الكتاب، وقد بذل فيه مؤلفه كالفصل الأول جهداً ملحوظاً، وعبارات المؤلف تعدّ واضحة ودقيقة، لأنه أستطاع أن يفهم كل جزئيّة من الجزيئات التي تدخل في إطار كل فصل من فصول كتابه، نقول هذا رغم اختلافنا معه حول رأي أو أكثر من الآراء التي ذهب إليها. لقد قسّم الفصل الثاني وموضوعه “المعرفة والولاية” إلى عناصر تندرج تحتها نقاط وجزئيات على النحو التالي :
(1) تلازُم الولاية والمعرفة
(2) معرفة الأولياء
(3) أبو سعيد في مقام الولاية
(4) أبو سعيد ومقام ختم الولاية
(5) نقد فكرة ختم الولاية
(6) مقام الولاية ومسألة الشفاعة
(7) مقام الولاية ومسألة الكرامة
(8) أوصاف الأولياء والعارفين

ولا جدال في أن تلك العناوين التي أتخذها الجزار عماداً لهذا الفصل، تستوعب آراء أبي سعيد في المعرفة والولاية بمقدار ما تستوعب كذلك إشارات الصوفيّة في ذات الموضوع على وجه الإجمال.

ويلحظ الدكتور عاطف العراقي أن هذا التقسيم الذي لجأ إليه المؤلف في تحديد موضوعات الفصل الثاني من كتابه، إنّما هو تقسيم شامل ودقيق، إذ إن موضوعات هذا الفصل تعدُّ مرتبة على موضوعات الفصل الأول الذي تقدّم عرضه وتحليله، كما أنها تؤدي إلى موضوعات الفصل الثالث والأخير من كتابه؛ ففي الصفحات الأولى من هذا الفصل ينقل عن المؤلف نصه :” إنّ شأن الولاية عند أبي سعيد هو نفس شأن المعرفة أيضاً، فكما أن العمل لازم من أجل حصول الولاية، إلا أن الفضل الإلهي ألزم منه، بل لا بدّ منه، وهو الأمر الذي لا ينفك عن تصوّر أبي سعيد للولاية والمعرفة في آن واحد. وعلى هذا تتوثق العلاقة بين الإثنين من هذه الحيثية، وليس أدلُّ على وثاقة تلك العلاقة بين المعرفة والولاية من أن العبد لن ينال معرفته بالله تعالى شهوداً وكشفاً إلا بمعونة منه، وكذلك الأمر عينه بالنسبة للولاية (ص ٦٢ من كتاب المعرفة).

وقد يظهر في النّص تخريجٌ ذوقيٌ بالغ الدلالة في عبارة الجزار التي تقول: ” كما أن العمل أو الجهد لازمٌ من أجل حصول الولاية، إلا أن الفضل الإلهي ألزم منه”، وهى عندي عبارة يطويها الذوق ويُشرقها في نفس الحال المنطق المقبول؛ فالولاية فضلاً عن كونها جهدٌ مبذول يتأتى من طريق الكسب، غير أنها في المقام الأول تجئ من طريق عين الجود ويتقدّمها الوهب. وتلك لفتة ولا شك لا يلتفت إليها إلا من تظهر أمام باصرته حقائق التصوف جليّة في غير غموض.

من ذلك ترى؛ أن العراقي يشير إلى رجوع الجزار في مجال دراسته لهذا الموضوع إلى العديد من آراء المفكرين، وذلك في معرض المقارنة بين آراء أبي سعيد وآراء غيره؛ كالنّفّري مثلاً وابن سينا الذي فرّق في دراسته التّصوفيّة بين العابد الزاهد غير العارف، والزاهد العابد العارف، وأعلى مرتبة العارف على غير العارف. ثم إنّ المؤلف يناقش العديد من مواقف أبي سعيد بن أبي الخير مناقشة لا تخلو من دلالات نقديّة صائبة؛ فالجزار في دراسته لموضوع الولاية وغيرها من موضوعات وآراء، لم يكن مجرّد عارض لأفكار أبي سعيد مثله كمثل عارض الأزياء، بل إنه يعمد إلى المناقشة والمقارنة والموازنة بين عديد الأفكار والآراء، الأمر الذي يدلُّ من الوهلة الأولى على أن المؤلف أضاف إلى البعد الموضوعي الذي رجع فيه إلى أوثق المصادر والمراجع، بعداً ذاتياً نقديّاً، حتى إذا رجع القارئ إلى (ص ٨٥) وما بعدها من الصفحات، سيدرك تمام الإدراك أن مؤلفها قد أمسك بزمام الأفكار لدى هذا الصوفي الكبير، ودخل في مجال النقد والمقارنة والموازنة بين عديد الآراء التي قال بها أبو سعيد، ولم يفته الوقوف على آراء الصوفيّة الذين اهتموا بدراسة موضوعات الولاية والشفاعة والكرامة وغيرها من موضوعات ومشكلات.

وممّا لا بدّ منه أن يُلفت نظر الدكتور العراقي أن المؤلف يتحدّث عن الآراء المتشابهة عند كل من أبي سعيد ابن أبي الخير، والفيلسوف ابن سينا الذي كتب مئات الصفحات في مجال التصوف وعلى وجه الخصوص في آخر كتبه الإشارات والتنبيهات. يقول الدكتور أحمد الجزار : إنّ ابن سينا رغم نزعته العقلانيّة يفسحُ للكرامة مجالاً في مؤلفاته، وينبهنا أنه إذا بلغنا عن أحد العارفين أخباراً تكاد تأتي بقلب العادة؛ فعلينا ألا نُبادر إلى تكذيبه، بل إنه يذكر من تلك الغرائب أموراً كثيرة لا يصحُّ بحال من الأحوال أن يتحدّث عنها فيلسوف عقلاني، وأكثر من هذا فقد أطال الكلام في السّحر والطلسمات، واعتبر السّحر علماً شريفاً بذاته من حيث إن العلم عنده شريف بذاته من غير نظر إلى جهة المعلوم. ولقد كان ابن سينا على صلةٍ بأبي سعيد بن أبي الخير، بل كان مُريداً له كما يقول جامع أسراره، حتى أنه يذكر أنه كان يورد في كل كتابٍ يؤلفه فصلاً وافياً في إثبات كرامات الأولياء، وإن لم يعن هذا بالطبع أنه صوفي خالص (من كتاب المعرفة : ص 113).

وينتقل العراقي إلى دراسة الجزّار لأوصاف الأولياء العارفين من وجهة نظر أبي سعيد؛ ليقف على الجوانب الخاصّة بكل صفة ومغزاها كما يعرضها مؤلف كتاب المعرفة الصوفيّة؛ إذ يذهب إلى أنه لعلّ أخص أوصاف الأولياء العارفين : دوام الإذعان التام لله تعالى وحده، والإقرار الكامل بالعبوديّة لله أيضاً، والإعراض عن توهم الضُّر والنفع من أحدٍ سواه، ومن كان هذا دأبه وديدنه كذلك، فلا عبوديّة عنده لغير الله، وتلك هى على الحقيقة، حقيقة الإسلام أصلاً كما يرى أبو سعيد، إذ الإسلام هو الاستسلام لأحكام الأزل (ثورة النقد : ص 747، وكتاب المعرفة : ص : 118).

وممّا لا خفاء به أن الدكتور الجزار يربط صفات الأولياء العارفين كما يصفها أبو سعيد في رباط متصل بأصولها الإسلاميّة، ويردّها إلى الجذور التي تستقي منها روافدها الشعوريّة؛ فكأنما يريد أن يقول للقارئ قولاً واحداً لا مزيد عليه : إنّها التعبير الحقيقي عن الروحانيّة الإسلاميّة، إذ إن تأصيلها في الإسلام كتاباً وسُنّة هو الذي يجعلها منه في صميم الصميم. ولئن كانت صفات الأولياء هى التعبير الحقيقي عن الإسلام من جهة الأصل الذي تستند عليه؛ فلا أقلّ من أن تصبح رُوحانيّة الإسلام التي هى درجة الإحسان كما جاءت في الحديث الشريف، أثبت الصفات وأعلاها قدراً وأمكنها سرّاً، تفرقها عن غيرها من المؤثرات الروحيّة في غير ثقافة الإسلام وحضارته، تلك التي تكون خارجة عنه لا داخلة فيه.

في الحقيقة، أنا شخصيّاً لستُ أدري كيف يستقبل الناس مثل هذا الكلام الخاص بصفات العارف ولا يتأثرون بأثره في قلوبهم؟ وكيف يقرأونه عند أهله وذويه ولم تعيها أُذنٌ واعية فيعزفون عنه بإعراض ونفور؟

ولستُ أجد إجابة شافية على تلك الأسئلة إلّا أن تكون هنالك لوثة نفسية أصابت الضمائر والعقول والأذواق، وعاقت أجهزة الاستقبال فعطلتها؛ فطمست رهافة الحسّ ويقظة الوعي والإدراك؛ فلم تعد تلك الملكات المُعطلة قادرة بإزائها على التفاعل الحركي، ولا هى صادقة في الاقتراب من تلك الحقائق العليا بمقدار ما يصدق كل مصطفى ومختار ومهيأ بحكم استعداده لرهافة الاستقبال. لقد صدق الغزالي حيث قال :” إزالة ما لا ينبغي شرطٌ في تحصيل ما ينبغي”. على أن العوائق الكامنة خلف تحصيل ما ينبغي كثيرة جداً، تحجب عن رؤية الحقائق العلويّة المُصفاة؛ فلا غرابة من أجل ذلك، أن تكون هذه المعارف والعلوم وأمثالها مهجورة لدى الخواص، فماذا يا تُرى عساه يكون الحال بعوام الناس؟!

هذا، وبالإضافة إلى صفة العبوديّة، يذكر المؤلف أن كمال الخُلق من أهم أوصاف الأولياء العارفين بالله، بل إن جماع الخُلق كله هو التواضع، فهو بلا شك أحسن لباس يلبسه العبد الولي الكامل في ولايته لله تعالى، ولهذا فمن كان وليّاً لله حقاً لزم أن يكون هذا وصفه ،إذ لا يجوز له أن يكون موصوفاً بنقائض التواضع من الكبر والغرور والتعاظم؛ لأن العظمة صفة لله وحده، وكل من يُنازل الله تعالى في هذا الوصف أو يساوي نفسه بالله، فإنّ الله يقهره، لأن الله وحده هو الموصوف بالعظمة والكبرياء، ولأجل هذا فقد حق على الولي العارف بربّه أن يكون موصوفاً بالتواضع مع الحق والخلق في آن واحد؛ لمعرفته بربه على النحو الذي لم يعرفه غيره من الخلق (ثورة النقد : ص 747).

وليس لقائل أن يقول : كيف يتواضع الوليّ للخلق وفيهم السّفلة والأدعياء، ومن فقد الأدب وأختص بالتطاول على خلق الله؛ هل يلزم لمثل هؤلاء التواضع كما يلزم لذوي العطف والرحمة والإنسانية؟

لا يصحُّ أن يقال هذا أو مثله في شأن الولي، ولماذا؟ لأن الولي يتواضع للكبير والصغير، والعظيم والحقير لا لشيء إلا لأنه ينظر من جهة المشيئة، وللخلق باعتبارهم تجليات للأسماء الإلهيّة؛ فيجئ نظره على الدوام من خلف حجاب الأسباب؛ فمن كان مع الله؛ فمعيّته تقضي المعرفة به والفهم عنه، ولا تقضي بتنازع أقدار الله في خلقه وفي عباده، ولعلّ هذا هو لبّ لباب الأدب مع شهود التقدير.

ويتحدّث المؤلف في السّطور الأخيرة من الفصل الثاني من كتابه عن موضوع المحبّة، ويُفرّق بين الحبّ الإلهي والحبّ الدنيوي؛ فالأولياء يُعرضون عن كل صور الحبّ الدنيوي؛ لأن قلوبهم لا تتّسع إلا لمحبّة الخالق ولا أحد سواه، يوقنون بأنّ الدنيا بكل ما فيها فانية، وهكذا فكل محبّة موضوعها غير الله تعالى، فمآلها كذلك إلى الفناء؛ فقلوبهم من ثمّ لا تنجذب إلا لله تعالى وحده ولا تتعلق إلّا به، ففي محبته السعادة التي ما بعدها سعادة، إذ المرء يسعد حينما يشتغل قلبه بالمحبّة الإلهية.

ويربط بين موضوع المحبّة وموضوع الفناء تمهيداً للدخول إلى الفصل الثالث والأخير من كتابه، ويقول في السطور الأخيرة من الفصل الثاني :” إنّ المحبّة لا تكون بكمالها ولا تحصل السعادة كذلك بتمامها إلا بفناء الولي العارف في محبته الله تعالى، ولهذا كان من لوازم الحبّ الصوفي ضرورة فناء الولي عن نفسه وعن السّوى، ففي الفناء دوام الحضور بالله والبقاء به وحده، وما لم يكن الصوفي فانياً فلا كمال لمحبته، وعلى هذا فلا كمال لولايته، وحينئذٍ فلا معرفة ولا شهود للحقيقة الإلهيّة بكمال صفاتها وأسمائها؛ ولهذا فقد لزم الفناء للوليّ، ليتحقق بأعلى درجات الولاية من ناحية، وليحظى بأعلى درجات العرفان من ناحية أخرى، وبالتالي تتوثق علاقة الولاية بالفناء في مذهب أبي سعيد، الأمر الذي يلزم معه الإبانة عن أمر هذه العلاقة بين الولاية والفناء من ناحية، والمعرفة والفناء من ناحية أخرى ( ص 121 من كتاب المعرفة، وثورة النقد : ص 748).
* * *
وتكتسب الدلالة مؤكداتها من هذه القراءة ولا شك؛ ليكون مجمل التفصيل الذي ينصب عليها، يوصلها وصلاً مباشراً بحيويّة القيم العليا والتحرك في إطارها سواء على مستوى الخطاب المقروء أو على مستوى النقد التحليلي الذي تتضمّنه أنظار هذا الخطاب؛ فالخطاب المقروء عن شخصية صوفيّة لها بسائر ما تكلّم فيه المتصوفة من قضايا وآراء عروة وثقى، فالنظر إليه نظرٌ في قضايا التصوف العملي بإجمال، وهو من بعدُ نظر لا يتجاوز حيويّة القيم العليا في ضوء الثقافة الدينية أو ثقافة العقيدة التي تدين لها بالولاء، وتفعيلها في أصحابها القادرين عليها. أما مستوى النقد التحليلي فتفرضه القراءة للنصوص المعنية ويُوجبه العرض للكتاب فلا يخرج عن دائرة القيم العليا التي تتقدّم هنا كما تقدّمت هناك.

ناهيك عن أن الفواصل الشعورية في دائرة القيم العليا دقيقة جدّاً، وتحديد الخطوط الفاصلة بين المعاني الكبرى؛ كالأخلاق والمعرفة والاستقامة والإرادة والحرية والمجاهدة والفناء والمحبة في حديث الولاية، أمرٌ يكادُ يكون على مستوى الشعور من الصعوبة بمكان. فإذا تحدثتَ عن المعرفة يلزمك الحديث عن الحرية، وإذا تحدثت عن الحرية تحدثت عن الاستقامة، وإذا تحدثت عن الاستقامة فلا يخلو حديثك عن الإرادة والمجاهدة، وفي الكلام عن الإرادة يقودك الكلام عن المجاهدة وعن الحرية سواء.
(وللحديث بقيّة)
بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *