Share Button

كتب الدكتور كمال الحجام 

تمثّل مسألة تمهين الفاعلين التّربويين اليوم قضيّة استراتيجيّة تشغل بال العديد من الباحثين التّربويّين وتندرج ضمن اهتمام جلّ النّظم التّربوية المنخرطة رغبة ووعيا في الحركة العالميّة حول جودة التعليم (2030)، وبقدر ما يمثّل التّمهين الشّرط القاعدي لكلّ حركة إصلاحيّة في هذا التّوجّه بما يجعله المسار الموحّد للجهود الدوليّة المبذولة في هذا المجال، بقدر ما تشير الدّراسات المقارنة والمختصّة أنّ التّمهين كمسار مخصوص يندرج ضمن السّياقات الاجتماعيّة والتّاريخيّة والثّقافيّة والاقتصاديّة ومدى اختلاف منطلقاتها وسيروراتها التّنمويّة من مجتمع إلى آخر. فلا سبيل لنظام تربوي يبلغ هدف تمهين فاعليه التّربويّين دون الوعي بشروطه المنهجيّة والمضمونيّة، ولا نخال تحديد هذه الشّروط ورسم تمشّيات تفعيلها قد تنتج في أي نظام تربوي دون حصول حركات فكريّة تربويّة تخضع الواقع للتّفحّص والتّدقيق من قبل خبرائه المنظّرين والميدانيين على حدّ السّواء. هذا ما يجرّنا إلى القول أنّ حركة التّمهين لم تكن واحدة في كل النّظم التّربوية في العالم ولم تخضع جميعها لنفس التّمشّي، بل أنّها كانت في أغلبها حركة ديناميكيّة محلّيّة تراعي خصوصيّات المشاريع التّربوية والسّياقات الوطنيّة التي تتنزّل فيها. ويقودنا هذا الرّأي إلى اعتبار التّمهين لا نتيجة طبيعيّة وحتميّة تحصل عن للتّطوّر الذي قد تعيشه النّظم التّربوية، بل هو قيل كلّ شيء وعي مجتمعي وضرورة يقتضيها الواقع الفعلي لكلّ نظام تربوي يؤسّس مساره على الفكر والتحليل والنّقد والبناء المشترك من قبل جميع شركائه. فلا وجود لظروف تاريخيّة واجتماعيّة موضوعيّة وواحدة تؤدّي حتما إلى التّمهين، بل التّمهين بناء اجتماعي من قبل أفراد المجموعة المرجعيّة المهنيّة
وتقودنا مثل هذه الخلاصات التّاريخية التّربويّة إلى اعتبار مسألة التّمهين قضيّة جوهريّة واستشرافا استراتيجيّا ذا معنى ومعقوليّة في تونس اليوم، وهو بذلك يشترط تمثّله كموضوع اتّفاق واع ومسؤول لكلّ التّربويين على اختلاف توجّهاتهم الفكريّة، واعتباره كرهان محلّ نظر وطني ذي أولويّة مطلقة في مسار الإصلاح التّربوي، وهو ما يجعلنا نظهر ضمن المجتمع الدولي التربوي كمجموعة مرجعيّة مهنيّة تربويّة في تونس تؤكّد وعيها بأهمّية إدراج هذه المسألة التّمهينيّة ضمن حركاتنا الإصلاحيّة في سياقاتها الاجتماعيّة- التّاريخيّة الثقافيّة والاقتصاديّة في تونس. هذه السّياقات المخصوصة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى تؤكّد السّعي التّاريخي لمنظومتنا التّربويّة إلى ضمان حقّ النّجاح لجميع الوافدين على المؤسّسات التّربويّة عملا بمبدإ الإنصاف التّربوي. ولا غرابة في ذلك لانّ هذا المطلب التّاريخي والحضاري لمجتمعنا التّونسي وانتظاره من المؤسّسة التّربويّة يمثّل الرّهان الأهمّ الذي تتمحور حوله جلّ الحركات الاجتماعية والفكريّة الدّاعية إلى ضرورة الإصلاح التّربوي.
لم يكن التّمشّيات التّمهينيّة متماثلة وواحدة في جل النّظم التّربويّة، بل كانت إفرازات طبيعيّة للصّراعات الدّاخليّة لمختلف المجتمعات. كما كانت في أصلها بناء اجتماعيّا يمكن تحليله بالاعتماد على مختلف التّفاعلات التي بفضلها تمكّنت المجموعات المرجعيّة المهنيّة من البقاء والتّجديد. وتعني هذه الرّؤية الجديدة في تحليل ظاهرة التّمهين في الحقل التّربوي أنّ هذه الأخيرة ليست واقعة طبيعيّة، بل هي واقعة اجتماعيّة تاريخيّة إذ هي تتجسّد بصفة فعليّة نتيجة عمل فاعليها. إن هذا الطّرح الجديد في دراسة مسألة التّمهين في المجال التّربوي يمكّننا من تجاوز الصّورة الكلاسيكيّة النّمطيّة والثّابتة نحو صورة جديدة بنائيّة وديناميكيّة لمهن التّربويّة عامّة. وتماشيا مع هذا التّوجّه الفكري لا تمثّل المهنة التربويّة واقعا طبيعيّا معطى، بل هي واقع اجتماعي تاريخي. وهي ليست نتيجة حتميّة لتطوّر كل حرفة، بل هي نتيجة نشاط فاعليها المهنيّين الاجتماعيّين الّذين يعملون في سياقات محدّدة بموارد وضاغطات نوعيّة.
وانطلاقا من هذا التّصوّر الدّيناميكي للمهنة، يرتبط التّمهين في الميدان التّربوي بمدى نشاط أفراد المجموعة المرجعيّة المهنيّة، وبسعيهم الجادّ لبناء صورة تمهين حرفتهم. وبذلك تطرح قضيّة التّمهين بعمق داخل المؤسّسات التّكوينية التي يتمّ فيها تأسيس الشّامات الأولى لهذا البناء المهني الاجتماعي. ويندرج بحثنا في هذا التّيّار الفكري التّربوي الذي يبحث عن آليات تمهين التّربويّين خلال تكوينهم الأساسي داخل مؤسّسات التّكوين، وفي منظومة تربويّة تتميّز يسياق تاريخي واجتماعي محدّد.
يعني التّمهين في المجال التّربوي التّغيير النوعي في أداء المهنيّين في سياقاتهم المخصوصة، ويتمثّل الهدف من التّمهين حينئذ في تطوير الممارسات المهنيّة، ويجدر بنا في هذا المستوى من التّحليل تحديد طبيعة الممارسة المهنيّة وخصوصياتها بما يساعد على تطويرها. إنّ التوقّف المنهجي عند تحديد الممارسة المهنيّة في المجال التّربوي ما إذا كانت في جوهرها ممارسة فنّيّة أم ممارسة تقوم على آليات علميّة، وما إذا كانت هذه الممارسة قابلة للدراسة والتّحليل وما إذا كانت تمثّل في جوهرها هيكلة ثابتة ( مهما اختلف المهنيّون)، أم هي ممارسة مختلفة باختلاف منتجيها وبتنوّع سياقاتها المخصوصة.
تثير دراسة الممارسة المهنيّة في المجال التّربوي إشكاليّات منهجيّة عديدة باعتبارها تمثّل أحداثا معقلنة وطبيعيّة، لها أسباب وتأثيرات يمكن الكشف عنها. فحتّى وإن كانت من إنتاج أفراد مختلفين في جميع مؤهّلاتهم ومواقفهم، فهي تمثّل حقيقة موضوعيّة يمكن دراستها… تعتبر كل وضعيّة مهنيّة وضعيّة فريدة ويمثّل كل مهني ذاتا فريدة. لقد تطوّرت في النّصف الثّاني من القرن العشرين المقاربات التّحليلية لدراسة الممارسة المهنية التّربويّة. وهو ما يجعلنا نتوقّف منهجيّا على الأقل عند ثلاثة براديقمات مختلفة تساهم في تفسيرها وتحليل مكوّناتها.
فإذا كانت الممارسة المهنيّة التّربويّة تعرّف في إطار النّموذج المركّز على خصائص المهني على أنّها مجموع السّمات الشّخصيّة التي يتميّز بها هذا الأخير والتي من شأنها أن تنتج سلوكا مهنيّا معيّنا، فإنّها تعرّف في إطار نموذج تمشّيات – نواتج بالارتباطات الممكنة بين السّلوك المهني الذي يظهره الفاعل التّربوي في سياق عمله، وتعرّف في إطار نموذج المتغيّرات الوسيطة على أنّها مجموع الأفعال التي ينتجها المهنيّون التّربويّون في سياقاتهم المهنيّة متأثّرين بمعتقداتهم الضّمنيّة. وتجاوبا مع هذه التّحليلات، فإنّ الممارسة المهنيّة التّربويّة تعرّف على أنّها عمليّة مركّبة ومعقّدة في الآن نفسه تحدّدها مجموعة من المتغيّرات تتعلّق بكلّ أطراف المهنة وسياقات وقوعها.
يحيل مفهوم الممارسة التّربويّة حينئذ إلى إمكانيّة تحديدها في مستويات مختلفة:
• المستوى الأوّل: المستوى الاندفاعي (بمعنى المرحلة الاندفاعيّة لفالون). وهو المستوى الذي يكون فيه الفعل التربوي إجابة فوريّة ، فالمهني أثناء عمله يعيش أحداثا عديدة في سياق عمله يواجهها حدسيّا. وتكون ردود الفعل الاندفاعيّة لديه تلقائيّة وعابرة إذا ما كانت غير مؤسّسة، إذ لا يستطيع المهني الإجابة عنها إذا ما طلب منه تفسيرها، فالأفعال في هذا المستوى لا تكون مصدر معرفة للمهني لأنّها ماثلة لديه في مجال قبل- واع يحتاج إلى التّفكير بهدف الوعي به.
• المستوى الثّاني : ويتمثّل في مجموعة الأفعال التي تتناسب جزئيّا مع المثيرات الخارجيّة التي تحدثها الوضعيّات المهنية وضغوطاتها النّوعيّة في السّياق، وتتميّز هذه الأفعال عن سابقتها في المستوى الاندفاعي بكونها أكثر تناسبا مع الوضعيّات وأكثر هيكلة لاعتمادها على التّعلّمات السّابقة للمهني التّربوي. وتبقى هذه الأفعال منغلقة حول نفسها وغير متطوّرة بالرّغم من نجاعتها أحيانا في مواجهة الوضعيّات. وتبعا لذلك يكون المهني في هذه الحالة شديد الارتباط بالوضعيّة وبضرورة الإجابة عن متطلّباتها، وهو ما يؤدّي به إلى إنتاج سلوكات مهنيّة روتينيّة منمّطة. ولإن كانت هذه الأفعال ضروريّة للتّجاوب مع السّياق نظرا لسرعة تنفيذها وقدرتها على تقديم الحلول العاجلة للوضعياّت الطّارئه، فإنّها لا تؤدّي بالمهني إلى إنتاج سلوكات مهنيّة رشيدة قابلة للتّطوّر والتّجديد المستمرّ. فالأفعال الرّوتينيّة التي تعيق في الغالب تفكير المهني وقدرته على معالجة الوضعيّات الطّارئة قد تتحوّل بمفعول كفاية التأمّل في الفعل المنجز إلى أفعال واعية يمكن التّحكّم فيها وتعديلها بما تقتضيها السّياقات المختلفة للمشاكل المهنيّة الطّارئة.
• المستوى الثّالث : ويتمثّل في مجموع الأفعال التي يصدرها المهني والتي لا تكون مجرّد أجوبة روتينيّة منمّطة للوضعيّات المهنيّة ، بل هي بالأساس بحث عن حلول نوعيّة لمجموع المشاكل المهنيّة التي يفرضها الواقع العملي. لذلك فهي لا تنفصل عن الأنشطة الذّهنيّة التي يوظّفها التّربوي من أجل فهم المشاكل التي تعترضه وأخذ المسافة الضروريّة منها لتحليلها والبحث عن تطويرها. وتبعا لذلك يرفض الممهني التّربوي في هذا الصّنف تطبيق الوصفات الجاهزة ويعتبر أن الوضعيّات المهنيّة متنوّعة إذ هي تختلف من سياق إلى آخر، وهو ما يجعلها تتطلّب حلولا مختلفة. هذا ما يقودنا إلى أن نعرّف الممارسة المهنيّة على أنّها بحث رشيد ومتأمّل عن حلول مهنيّة نوعيّة لمشاكل متنوّعة. ويفضي هذا البحث النّشيط من قبل المهني في الغالب إلى بناء معرفة عملية تنبع من التّجربة الشّخصيّة وتسهم في إنتاجها. وهي معرفة ذات علاقة وطيدة بالفعل التّربوي بالرّغم من تناسيها بسبب طابعها الشّخصي وعدم قابليّتها للانتشار.
تختلف هذه التّجربة المكتسبة من فرد إلى آخر وترتبط في مجملها بشخصيّة الفاعل. ففي حين يكتسب البعض هذه التّجربة بسرعة، يمرّ البعض الآخر بفترة طويلة نسبيّا لاكتساب تجربتهم، ومهما يكن من أمر، فإنّ الأهمّ في هذا المجال هو أنّ التّجربة المكتسبة تكون شخصيّة ولا يمكن تمريرها من فرد إلى آخر.

وفي النّهاية، يجدر بنا أن نعتبر أنّ الممارسة المهنيّة المتأمّلة تفضي ضرورة إلى بحث متواصل عن تكيّفات أرقى مع الوضعيّات المهنيّة المتعامل معها، مع شركاء الفعل التّربوي ومع مختلف الظّروف الخاصّة بالسّياق الذي تنجز فيه العمليّة التّربويّة. فالوضعيّات المهنيّة غير المتماثلة، تكون دائمة التغيّر والتنوّع بتجدّد العوامل المنتجة لها. ولمواجهتها يجد المهني التّربوي نفسه مجبرا على التّفكير فيها للتكيّف معها، وبقدر ما تكون هذه التّكيّفات المسترسلة واعية، بقدر ما يبحث المهني عن توفير أحسن الظّروف للقيام بمهامّه. فالبحث العملي الذي ينجزه المهني في فعله يكون عمليّا في جوهره ويندرج في نظام مختلف عن نظام البحث العلمي، ذلك لأنّ الهدف الرئيسي منه لا يعدو أن يكون الوعي بضرورة تطوير الممارسة المنجزة فعلا. فكما أن التّمهين في سياقه الاجتماعي مسار واع تبنيه المجتمعات السّائرة بمسؤوليّة ووعي كامل للانخراط قولا وفعلا في حركة الجودة العالمية في المجال التربوي، فإنّ التّمهين في سياقه العملي مسار نوعي يبنيه الفاعلون التّربويّون بتلازم منهجي بين الفعل والتّحليل الفكري لبناء التفاعل المنتظر من الرسالة التربويّة في صورتها الجديدة.
د/ كمال الحجام
الأحد 14 نوفمبر 2020

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *