Share Button

ابتسامة عارف

بقلم : د. مجدي إبراهيم

أكثرنا يعشق الجدل وبخاصّة في قضايا الدين، لا من أجل الوصول إلى الحقيقة والاستقرار عليها، ولكن من أجل الجدل نفسه وكسب النقاش والتفوق على الخصم. آفة غربية في طبيعة الحوار المريض؛ الأمر الذي يقدح في نتائج المؤتمرات العلميّة : حضورها وتوصياتها، لستَ تخرج منها في الغالب إلا بوجع الرأس، مكلمة من العنف والتّربّص وتصيد الأخطاء وتسفيه آراء البعض للبعض.

كل حوار يُقام من أجل غرض، لا يعود بالنفع على أحد. والقارئ يَعْلم تماماً ما الذي أعنيه بكلمة الغرض؟ بالطبع أقصد ذلك الهوى الذي يفسد على الناس مقاصدهم الطيبة ونواياهم المثمرة، وأظنه يعلم تماماً كذلك أن الهوى ما خالط في المرء شيئاً إلا أفسده، حتى إذا ما وقع في العلم انقلب من فوره إلى جهالة صبيانية ترتد به إلى هزل لا جد فيه، وإذا وقع في الدين قلبه إلى خرافة وتضليل، وإذا وقع في المقاصد الحياتية أحال صاحبه إلى أنانيّة بغيضة حمقاء يتصرَّف من خلالها فيجعل من السلوك مقصداً لا يعبِّر من قريب ولا من بعيد عن المعتقدات الباطنة ولا يدل عليها بوجه من الوجوه.

بالفعل ما خالط الهوى شيئاً إلا أفسده. على أنَّ الفرق كبير جداً بين ضياء المعرفة وظلمة الفكرة؛ ففي الحالة الأولى يكون العقل هو الفاعل يمده مدد دافق من نور القلب. وفي الحالة الثانية يجيء الهوى هو الذي يحكم على العقل ويمليه من تصوراته الفاسدة ما من شأنه أن يكون الغرض هو المُقدَّم على سواه.

مرة أخرى : كل حوار يقام من أجل غرض، لا يعود بالنفع على أحد. الحوارات كالعبادات، تحتاج إلى تجرّد ونزاهة ومسامحة وإخلاص. وأقصد بالطبع تلك الحوارات العلمية الجادة لا الحوارات الهزليّة تقوم فينا إزجاءً لأوقات الفراغ.

الغريب في الأمر أن الذين يرتادون تلك الندوات أو المؤتمرات هم فصائل جديدة لانتماءات فكريّة ومذهبية قديمة تملّكت من عقولهم وأفئدتهم ففرضت عليهم الولاء لهذا المذهب أو ذاك، وبما أن المذاهب مختلفة والتوجّهات المعرفية متباينة، فلا تنتظر أن تجئ النتائج – وفق ولاءات متصارعة – متوحّدة أو أن تلتمس هدفاً موحدّاً من وراء انعقادهم على طاولة الحوار ..

وهل في هذا كله من عيب ؟

والجواب، نعم ..! أقلّهُ أن يجئ الحوار غامضاً أصمّاً كحوار الطرشان، أحدهما يتحدّث على موجة والآخر يُحدِّث نفسه على الأخرى. وإذن؛ فقنوات التواصل مقفلة. وتسألني عن غيبة الفهم، وأسألك عن وصلة الإحساس والشعور بين المتحاورين، أين هى؟ هى من الظلمة والخفاء بمكان بحيث يحلّ محلها على الفور شدة العنف وعَسَف التخريج وفوضى المنطقية، إنْ دلَّ أكثره على شيء فلا يدلُّ إلا على ظلمة الفكرة لا على ضياء الموافقة. ناهيك عن الصراخ والعويل، وأحياناً ارتفاع الصوت الذي يصل إلى نهيق الحمير.

لم تكن وصلة الشعور الحاضرة بغائبة عن كبار الكُتَّاب والباحثين ممّن عركوا الحياة الفكرية عرْكاً، وتفهموا بالتعب والعرق والكفاح الموصول أسرارها فتبيَّنت لهم معالمها. كانت حماسة المعرفة للحقيقة وحدها تأخذهم وأدب الحوار الجمّ ومن ورائه الصدق في الدفاع عن الرأي المؤسس على الإخلاص غايتهم ومبتغاهم.

أذكر منذ سنوات طويلة كُنّا في مؤتمر دولي كان عقده المجلس الأعلى للثقافة عن الفيلسوف العربي ابن رشد، بحضور المختصّين في الفلسفة الرشديَّة في العالم العربي وبعض الدول الأوربية أيام أمانة الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق، وفى الجلسة الافتتاحية تحدَّث وزير الثقافة فاروق حسني بكلمته أمام الحضور، وبدأت بعدها جلسة المؤتمر الأولى، وكان من ضمنها أو قُلْ على رأس الجلسة أستاذنا الدكتور عاطف العراقي رحمة الله عليه، وحديثه إذْ ذاك عن ابن رشد مشروع حياته الذي توافر عليه، شارحاً لفلسفته ومدافعاً عن إنجازاته التنويرية، رافضاً كل ما يتعارض مع ابن رشد واتجاهات ابن رشد العقلانية، ثم تطرّق الكلم الجارف طلقات ناريَّة حينما جاء الدور على موقف ابن رشد من التصوف، وهو موقف عرضة للنقد العنيف سواء من جانب ابن رشد أو من جانب المغفور له الدكتور عاطف العراقي.

ظل يتحدَّث عن الاتجاه النقدي لابن رشد في ميدان التصوف، ويهاجم هجوماً عنيفاّ لا هوادة فيه كل من ينتمي بوجه من الوجوه إلى التصوف عَادّاً إيّاه السبب الرئيس في تخلف المسلمين، وركونهم وجمودهم وتواكلهم، ويذكر شواهد وأمثلة من طبقات الشعراني قدْحَاً في التصوف في ذلك العصر وذريعة لهدمه من الأساس، استناداً على ما ذكره الشعراني عن صوفية القرن العاشر الهجري وما قبله.

وفي هوجة النقد اللاذع والسّخرية الحَادّة لم يكن كثير من الحاضرين قد تنهبَّوا إلى وجود شخصية مرموقة لها وزنها الثقافي والعلمي والصوفي في عالمنا العربي، تجلس في الصفوف الأخيرة، ومن حُسن حظي كنت جالساً قريباً منه، وما إنْ بدأت كلمة الدكتور عاطف في الحملة على التصوف حتى انتقلتُ متحسّساً إلى جواره .. أتدرون من هذا ؟

هو الدكتور مصطفى محمود رحمه الله رحمة واسعة، كان في مراحل حياته المتأخرة قبل لزومه بيته وقلة خروجه من منزله. يومها رأيته يتوكأ على عصاه بصحبة رفيقين يلازمانه أينما غدا أو راح، ويبدو أنه دخل القاعة من باب خلفي. جلس، وقد هدّه المرض بعد أكثر من عشرين عملية جراحية في بدنه، ومعظمها من النوع الخطير، لكن حضوره الروحي كان أقوى بكثير جداً من ذلك الجسد الهزيل.

جلس جلسة العالم الرَّبَّاني في هيبة المخلصين المتبتلين، والمنقطعين على الدوام للتأمل والمعرفة وخدمة الروح الإنساني وانتشاله من وهدة الظلمة الطينيّة والعروج به إلى يَفَاع الاستبصار.

هنالك رحتُ أنظر إليه بعمق، أتتبّع قسمات وجهه، وهو جالس يرمق الدكتور العراقي ببصره الحاد وبصيرته الحاضرة، ويتابع كلماته عن كثب، ويبتسم !

وكلما زاد هجوم أستاذنا على التصوف والصوفيّة، وهم في رأيه السبب المباشر لتخلف المسلمين ! أرى ابتسامة صافية على مُحيّاه، وأقول في نفسي : كل هذا الهجوم على التصوف، وأنت تبتسم !

سبحان الله، يومها تجسد في خاطري مثالٌ تطبيقي لصفة العارف كما حققَّها الشيخ الرئيس ابن سينا في كتابه “الإشارات والتنبيهات”، وهى أن العارف :” هَشّ بشّ بسّام “.

ظللتُ أردّد : ألا ما أصدق وصف ابن سينا .. لقد صدق الرجل فيما وصف وفيما قال .. العارف هَشُّ بَشُّ بَسَّام. كانت نقود الدكتور عاطف العراقي قنابل ناريّة، والدكتور مصطفى محمود ينظر إليه ولا يزيد على التبسُّم والبشاشة، وبعد أن أنهى أستاذنا كلمته الغاضبة المنفعلة في حديثه عن ابن رشد، هَمّ الحضور بالخروج، وكان أوَّلهم قبل الزحام هو الدكتور مصطفى محمود يخطو خطواته المتمهلة متوكئاً عصاته، وهو يبتسم ابتسامة لم تفارق وجهه اللامع بالنور.

مكثت انظر إليه واتبعه وكأنه قطعة من النور ترفرف في الملأ الأعلى بفيض من المعارف، وهو يتحرك على الأرض بخطوات واهنة حتى أستقل سيارته. ومضيتُ إلى صحبة الدكتور عاطف وإلى أين .. إلى أين؟

إلى رحاب السيدة زينب، من معركة في المجلس الأعلى للثقافة مع التصوّف إلى رحاب السيدة زينب حيث مطعم الرفاعي المحترم بالقرب من الميدان .. كفتة وكباب ممّا يفتح شهية النفس ويرمّ العظام الواهية، وقبل تناول طعام العشاء جلس وحوله بعض تلاميذه في انتظار المأكولات يتسامرون؛ فما كان منى سوى أن بادرته : يا أستاذنا كل هذا الهجوم القاسي على الصوفية، ومصطفى محمود جالس في القاعة ؟

قال في دهشة المتعجب : مصطفى محمود .. ومن مصطفى محمود؟

قلت : الدكتور مصطفى محمود ..! قال، وكأنه يستعيد من ذاكرته شيئاً بدا له بعيداً : نعم .. نعم .. أكان موجوداً بالقاعة .. لم أره ؟ ثم ألتفت إليَّ مستفهماً : وماذا قال؟ قلت : ما قال شيئاً إلا أنه كلما زاد هجومك زاد تبسُّمه.

ضحك أستاذنا ثم أطرق في لوعة شجيّة وقال … هيا حُسْن الختام !

يا سبحان الله (لكل أجل كتاب) ويشاء القدر أن يكون أجل العراقي قبله، ويعيش مصطفى محمود بعده بسنوات، ولكل درجات عند الله ممَّا عملوا.

يرحم الله الجميع برحمته الواسعة.

بقلم د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *