Share Button

د. مجدي إبراهيم

يأتي هذا المقال استكمالاً لفكرة المقال السابق : أخلاق العلم لنقول :
ربَّما جعلت الحضارة الحديثة العلم معزولاً عن الأخلاق، فلا صلة بالمطلق بين العلم والأخلاق، والعلم الذي يفرزه عقل الإنسان هو الذي يدمِّر الإنسان نفسه أو هو الذي يوفِّر أسباب الدمار والخراب بمقدار ما يوفر للإنسان الراحة والرفاهية، بمعنى أنه يحقق أهدافه في غير نظر إلى الخير والشر! ولكن الإسلام (حضارته وقيمه) يُقيمُ العلمَ على أصول خيِّرة, ويجعله مربوطاً بأسس القرْبة إلى الله تعالى، ويجعل غاياته نفع الإنسان، وكل نفع للإنسان هو في الأساس عبادة يتقرَّب بها العبد شريطة أن يكون العمل المنتفع به قائماً على مرضاة الله؛ فالعمل عبادة، والعلم كذلك عبادة.
وبهذه النظرة الشمولية الواسعة تجيء حضارة الإسلام حضارة علمية بكل ما تحمله الكلمة من معان، لكن العلم فيها ليس تدميراً ولا تخريباً، بل رحمة وهداية ونفع للإنسانية، تحقيقاً لقوله تعالى :”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.
فرسالة الإسلام رحمة للإنسان. ومفردات هذه الرسالة – ومنها العلم بالطبع – إنْ هى إلا رحمة للعالمين. أما التعارض الظاهر بين الدين والعلم فالحضارة الحديثة (الكنسيَّة) هى التي جلبته على الإنسان الحديث، ومن أجل ذلك؛ نشأت في الغرب العلمانية (Secularism) مميزة بين عمل الدين وعمل الدنيا؛ لتنادي بالفصل بين السلطات الثلاثة التي تمركزت في يد الكنيسة ورجال الدين المسيحي إذْ ذَاك، أعني (سلطة الدين، وسلطة السياسة، وسلطة العلم). أما في الإسلام؛ فالوضع مختلف؛ إذْ التعارض بين الدين والعلم هو في الحق تعارض وهمي في نظر الإسلام؛ لأن العلم دائرته المادة والمحسوس. أما الدين فدائرته ما وراء الطبيعة، والخير، والفضيلة، تطهيراً للنفس وتذكية للوجدان فهما لا يلتقيان في الموضوع فكيف يتعارضان ؟
العلمُ يدور في فلك المادة والمحسوس. أما دوران الدين كله؛ فعلى الغيب والفضيلة، والخير والروح، فهما في الموضوع لا يلتقيان فكيف بهما يتعارضان؟
العلمُ يدور حول كل ما هو متغير؛ ولأن طبيعة العلم تفرض مثل هذا التغير الدائم والتطور المترقي في مزيد من الكشوفات. أما الدين؛ فدورانه حول ما هو ثابت من مسائل الغيب ومسائل العقائد والأخلاق؛ فلن يتطور العلم أبداً إذا هو طلب من الدين أن يوافقه كل الموافقة فيما هو بصدد البحث فيه؛ لأن موضوع العلم مختلف عن موضوع الدين، ولا يُطلب من الدين أن يعززه العلم، كأن يُقال مثلاً إن العلم توصَّل إلى أحدى الحقائق التي كانت موجودة في الدين أو التي جاء بها الدين منذ زمن بعيد. ولا يصحُّ أن نقول إن النظرية العلمية التي توصلنا بعقولنا إلى اكتشافها تؤكدها الآيات القرآنية الثابتة؛ فهذه المحاولات هى من العبث الذي لا طائل تحته، ما دام إلحاق الثابت بالمتغير شيئاً فيه عَسَف كبير!
وقد أبطلتها كتابات العقاد و طه حسين منذ أن اتخذت هذه المحاولات أشكالاً من التعبير عن نفسها وكثر اللغط في شأنها بين مقبول ومرفوض. إنه الأستاذ “عباس العقاد” هو الذي قال في فصل كان عَقَدَهُ في “الفلسفة القرآنية” بعنوان “القرآن والعلم” ما مفاده إنه :” من الخطأ أن يُقال : إن الأوروبيين أخذوا من القرآن كل ما اخترعوه من السلاح الحديث؛ لأن القرآن الكريم جاء فيه حثاً للمسلمين :”وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل”. فقد يقالُ لهم أن المسلمين سمعوا هذه الآيات مئات السنين فلم يخترعوا تلك الأسلحة، وأن الأوروبيين لم يسمعوها فاخترعوها. فهل الإسلام إذن لازم أو غير لازم؟ وهل يضير الأوربيين أن يجهلوه أو ليس بضائرهم أن يخترعوا ما اخترعوه ولم يتبعوه؟
وخليقُ بأمثال هؤلاء المتعسِّفين أن يحسبوا من الصديق الجاهل؛ لأنهم يسيئون من حيث يقدِّرون الإحسان، ويحملون على عقيدة إسلامية وزر أنفسهم، وهم لا يشعرون! كلا لا حاجة بالقرآن إلى مثل هذا الادعاء؛ لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير، وخيرُ ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير، ولا يَتَضَمَّن حكماً من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم، ما استطاع حيثما أستطاع…”.
الدين يعطيك “المبدأ” فتمضي به، وعليه، إلى غاية ما يستطيعه خيالك نحو تحقيق ما تريد تحقيقه في مجال الكشف العلمي، فلا حجر على العلم باسم الدين، ولا قيد على الكشف العلمي مطلقاً تحت الغطاء الديني. فلهذا مجال .. ولذاك مجال آخر .
والقرآن من حيث المبدأ كتاب عقيدة يخاطب الضمير ويحث على طلب العلم، ويدفع بالطالب على شرط الأخلاق إلى قبول كل مستحدث من العلوم على تقدم الزمن، وليس هو بالكتاب الذي يعوق المسلم عن طلب العلم وتحقيق أكبر قدر ينفع الطالبين.
ولذلك كتب الأستاذ الإمام محمد عبده كتابه بعنوان :”الإسلام دين العلم والمدنية” ليدفع في وجه هذه الشبهة الشَّوهاء التي كانت ولازالت ترددها عقول ممسوخة في الأدب والثقافة والتفكير.
أي نعم ..! الإسلام دين العلم والمدنية. وليس هو بالدين الذي يحتكره أحد تحت أي سلطة روحية كانت أو سياسية أو علمية.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *