Share Button

بقلم: د. عصمت نصَّار

 

 جاء في قانون المطبوعات المصري الصادر في عام 1881م في مواده (9-10-13) : (أنه يجوز للحكومة فى كل الأحوال حجز وضبط جميع الرسومات والنقوشات مهما كان نوعها أو جنسيتها متى وضحت أنها مغايرة للنظام العمومي أو الدين) كما جاء في دستور 1923م في مواده (12-13-15) ضرورة حماية الدين ومعاقبة كل من يزدريه أو يجترئ عليه وما جاء في المواد (160 – 170- 174-176) من قانون العقوبات عام 1937م؛ بمعاقبة كل من أجترئ على الدين وأنتهك حرمة المقدَّسات أو قام بترويج مذاهب ضد دستور البلاد أو إثارة النعرات الطائفية أو المليّة بالحبس أو الغرامة. ومنذ العقد الثالث من القرن العشرين تصدّى الأزهر من خلال لجانه (لجنة الفتوى التي تأسست عام 1895م وهيئة كبار العلماء1911م) إلى المطبوعات التي تتعرَّض لأمور الدين أو الطقوس والعادات الإسلامية الموروثة بالشجب والتنديد، والرد وإحالة أصحابها إلى القضاء؛ بحجة ازدراء الدين، والتعدّي على الدين الإسلامي، وتكدير السلم العام وإفشاء الفوضى في المجتمع.

ذلك فضلاً عن فصل من تثبت عليه هذه الجنايات من الأزهريين، وإلغاء شهادتهم، ومنعهم من العمل بالتدريس في كل المدارس والمعاهد الأزهرية. وقد اضطلع “محمد فريد وجدي” – كما بيّنا – بالرد على خالد محمد خالد، وأصبح بذلك خصماً وحكماً في آن واحد؛ الأمر الذي لم نعتده في كتاباته النقديّة ومناظراته ومثقفاته؛ فنجده في المقالة الثانية المعنونة (ليس من هنا نبدأ) يكمل حملته على الكتاب الذي خصص له ثماني مقالات بنفس العنوان كما أشرنا من قبل.

فذهب “وجدي” إلى أن وصف المؤلف رجال الدين بأنهم عصابة من “الكهنة”، قد تأمرت على الشعب واتحدت مع الرجعية الاقتصادية والاجتماعية؛ لتبرير الفروق بين الطبقات في مصر، وغيبة العدالة وشيوع الفقر في الأمة باسم الدين والقدر الإلهي؛ الأمر الذي يستوجب على الحكومات والشعوب المتطلعة إلى المدنية، وغداً أفضل في متنفس من الحرية والعدالة؛ أن تقوم بعزل هذه العصابة لحماية الدين والمجتمع من الأباطيل التي تروج لها لتزيف به عقل الأمة والروح الجمعي.

ويتسأل “وجدي” متهكماً : هل كان المؤلف يقصد بهذه العصابة هي بعض المحتالين من الذين تظاهروا بالتدين واحتالوا على الشعب لإضلاله أو يقصد المرجعية الدينية المتمثلة في العلماء الذين أخذوا على عاتقهم حماية الدين من المجترئين الذين أرادوا محاكاة العلمانيين الغربيين؛ فراحوا يطعنون في رجال الدين؛ لهدم الشرائع والمقدّسات باسم الحرية والتمدن.

ويقول “وجدي” : “قرأنا في الكتاب هذه العبارات، فازدادنا حيرة في تعيين الطائفة التي يسميها بالكهانة، ويهبها من التأثير بحيث تحتل كهانتها عقول الناس على أنها الدين الذي يجب أن يذعنوا له ولا يناقشوه إلخ. نعم ! أزددنا حيرة؛ لأننا لم نجرء أن نفهم منها أنه يريد بها علماء الدين، فليس للعلماء دعوة غير ما ينشرونه في مجلتهم من مقالات، وما ينادي به وعاظهم في الأقاليم، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهؤلاء أيضاً مجلة خاصّة ينشرون فيها ما يعنّ لهم من البحوث، وكلها من خير ما تثمره الثقافة الفاضلة والمذهب القويم؛ فكان بحسب الأستاذ “خالد” أن ينقل عنهما بعض ما تنشرانه من الأضاليل؛ ليرى قراءه بدليل محسوس كيف تسمم هذه الكهانة عقول إخوانه في الدين!”.

ويبدو أن “وجدي” لم يقف على حقيقة بنية السياق الذي دفع “خالد” لوصف بعض شيوخ الأزهر بهذه الصفة؛ فهو لم ينكر عليهم علمهم ولا خير مقصدهم من نصح الفقراء والمعدمين بالصبر على واقعهم في ظل الملكية والإقطاعيين الأتراك والإنجليز والباشوات؛ ولكنه أراد عدم توظيفهم للدين لتبرير الواقع الجائر وتعليل غيبة العدالة الاجتماعية في الأمة بأنها قدر ومشيئة الإلهية لا ينبغي على الناس التمرد عليها؛ فإنّ مثل ذلك هو الذي فعله كهنة البراهمة وقساوسة العصر الوسيط للحفاظ على السلم الاجتماعي من جهة، وأدراكهم خطورة الثورة ضد السلطات القائمة من جهة أخرى، فأبى “خالد” أن يتهم الدين بالرجعية والظلم، وردّهما إلى سلوك بعض المنتسبين للمؤسسة الأزهرية.

ويضيف “وجدي” أن الأزهريين لم يروجوا للرجعية التي يتحدّث عنها “خالد” في كتابه، ولم يبرروا الفقر والجوع والمهانة التي تعاني منها الطبقات الدنيا من الشعب، ومن ثمّ يكون “خالد” قد وصف الأزهريين بما لم يفعلوه، وأتهمهم بما لم يقترفوه؛ فمعظم خطبهم وكتبهم بريئة من ذلك تماماً وأن مقرر علم الاقتصاد السياسي يدرّس الآن في المعاهد الأزهرية شأنه شأن اللغات الأجنبية والفلسفة؛ ذلك فضلاً عن أرسال البعثات إلى أروبا لتعلم سائر المعارف. وعليه؛ فلا يجوز إتهام هذه الجماعة بالكهانة أو الرجعية. ويقول “وجدي” : “ولكني أريد أن أقول إن إتهام أولي الحل والعقد منهم بالرجعية، وتشبيههم بالكهنة، وعملهم في سبيل بلوغ المثل العليا ما رأيت، يعتبر تجنياً يحار العقل في فهم مداه وفي تعليله!

إنّ الأزهر لم يبلغ هذا التطور الجديد من حياته إلا منذ سنين معدودة، وهو ماضٍ في سبيل الوصول إلى ما يقتضيه هذا التطور من التجديدات”.

وأعتقد أن هذه العبارة توحي برغبة “وجدي” في التأكيد على حق الأزهر في القوامة على العقول، وتشرح في الوقت نفسه الخطوات الحثيثة والجادة التي يبذلها الأزهر للتخلص ممّن عساه أن يتصف بالجمود والرجعيّة.

وينتقل “وجدي” إلى أخطر قضية أثارها “خالد محمد خالد” في هذا الكتاب ألا وهي تجديد الخطاب الديني، تلك القضية التي شغلت الباحثين منذ دعوة “حسن العطار” إلى “أمين الخولي” و”عبد المتعال الصعيدي” في مصر، فقد ذهب “خالد” إلى أنه من حق الدولة إذا ما عجز الأزهر عن تطوير وتحديث مناهجه أن ينشأ في كل جامعة قسم للدراسات الإسلامية، تدرّس فيه العلوم الشرعية بمنهج عقلي على أن يشرف على هذه الأقسام مجلساً علمياً يجمع بين المتخصصين في الفكر الديني والعلوم والآداب والفلسفة؛ وذلك لحماية هذه الأقسام من الشطط أو الجمود أو التعصب.

ويقول “خالد” في ذلك : “إذا كنَّا نقدِّر خطر تعاليم الكهانة على حياتنا، ونؤمن بأن الأفكار أقوى من الجيوش؛ فإن الدولة ستهتم لا محالة إذا شاركتنا هذا الإيمان؛ بالقضاء على الكهانة ومكافحتها فتؤلف مجمع العلماء؛ ليقوم بالمهمّة التي ذكرناها : وهي عرض التعاليم الدينية الصحيحة عرضاً جديداً، ويؤلف الكتب في ذلك، ويشترك فيه علماء الدين واسعو الأفق مع صفوة تختار من رجال الفكر والأدب والاجتماع … إنه على مر الزمن لابدّ من ظهور طبقة مثقفة في المجتمع تؤمن بالحرية وبالفكر، وتتهم الخرافة، وترى الشعب وهو يُساق إلى الموت والظلام فتقف سائلة عن هذا الرائد الخبيث المضلل الذي يسوقه : من هو؟ فيقال لها هو الدين … عندئذ يصب هؤلاء المثقفون على الدين جام غضبهم، ويشنون عليه حملات عنيفة، ويدعون الناس إلى الشك فيه، والتمرد عليه”.

والجدير بالإشارة أن هذه الدعوة لم تكن جديدة في الفكر المصري الحديث؛ بل دعا إليها معظم المجدّدين الأوائل: وقد أنشأت كلية دار العلوم عام 1972م تحت أشراف “علي مبارك”؛ لتحقيق ذلك الغرض وأنشأ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية عام 1960م؛ لحمل رايات التجديد والاستنارة للعالم الإسلامي من خلال إداراته التي شملت معظم نواحي الثقافة الإسلامية بدايةً من إحياء التراث إلى مراجعة الكتابات الغربية المعاصرة وتقويمها والرد عليها وإصدار الموسوعات المتخصصة في الفكر الإسلامي والأشراف على الرسائل والأبحاث العلمية ذات الصلة.

ويسلم “وجدي” بوجود هذه الطائفة من المنتسبين من الدين قديماً. غير أنه يزعم أن هذه الجماعة الرجعية كانت وليدة جهل الرأي العام، واستبداد السلطة الأمر الذي لا تخلو منه سائر الثقافات على مر التاريخ ولكن الأزهريين قد انصرفوا عن الجمود وتقديس الماضي، وذلك بفضل “جمال الدين الأفغاني” و”محمد عبده” ومن سار على دربهما؛ الأمر الذي يشهد بتجنني (مناظره) على الأزهريين المعاصرين الذين لا يمكن وصفهم بالكهنة المضللين الذين يعملون على تزييف الوعي وخداع الشعب.

كما أنه لا يليق بأحد خريجي المؤسسة الأزهرية أن يدّعي بأن الغربيين؛ على تعصب بعضهم، يمكنهم إنكار فضل الإسلام، وما جاء به من قيم أخلاقية وروحية راقية وتمدن وتحضر وتطور علومه التي أثرت به الحضارة الإنسانيّة.

يمكننا أن نلاحظ أمرين في المثاقفة السالفة أولهما إضطراب دفوع المتناظرين ويتمثل ذلك في تحريض “خالد محمد خالد” الحكومة على الحد من سلطة الأزهريين ومنعهم من الاعتداء على أحرار الفكر انطلاقاً من مناهجهم الرجعية الجامدة في قراءة النصوص المقدّسة، وأغلاقهم باب الاجتهاد الأمر الذي يتعارض مع أهداف الأمة وطموحاتها ثوب المدنية.

ونجد في الوقت نفسه أن “وجدي” يؤصّل حق الأزهريين في تقويم الأفكار العقدية الجانحة وتوجيه الأذهان وجهتها الصحيحة، وذلك باعتبار مؤسسة الأزهر دون غيرها صاحبة الحق في ذلك، من ثم يجب على الحكومة أعانتها على أداء هذه الدور تبعاً لما جاء في الدستور.

وثانيهما : إغفال “خالد” جهود “مصطفى المراغي” و”مصطفى عبدالرازق” و “محمد مأمون الشناوي” (1887م – 1950م) في تجديد المعارف الأزهرية، ومنهج الدعوة، والحوار مع الآخر، والتوسع في أنشاء المعاهد في الأقاليم للحد من سلطة الجماعات الجانحة وآثارها الضارة بالمجتمع والدين؛ الأمر الذي يجعل من وصفه بعض الأزهريين بالكهنة لا يستقيم فصدق الحكم على الجزء يمتنع معه التعميم والأطلاق.

وعلى الجانب الآخر؛ نجد أن احتجاج “وجدي” بأن “الأفغاني” و”محمد عبده” من شيوخ الأزهر المجددين الذين غربلوا وطوروا المؤسسة الأزهرية، يعدُّ مثلاً في غير موضعه، فمعظم ما نادى به الشيخان قد قُبل بالمعارضة والرفض من قبل جمهرة الأزهريين، وتبدو مظاهر ذلك في وصف جهود محمد عبده وتلاميذه بأنها تبديد وليس تجديد. وعزوف لجنة كبار العلماء عن تطبيق خطة محمد عبده الإصلاحية وانضمام بعد أعضائها لجماعة الإخوان المسلمين، وانخراط البعض الآخر في الخصومات الحزبية، والسير في ركاب القصر الخديوي تارة، والباب العالي تارة أخرى. بالإضافة إلى عدم تخلص معظمهم من أسلوب العنف في التناظر؛ وأقرب الأمثلة على ذلك موقف شيوخ الأزهر من الشيخ “عبد المتعال الصعيدي” وكتاباته في الاجتهاد والإصلاح، ومن الشيخ “محمود الشرقاوي” وكتابه (الدين والضمير)؛ الأمر الذي دفع العديد من المفكرين الليبراليين المصريين إلى وصف لجنة مراجعة البحوث في الأزهر بأنهم أعداء الحرية وسجّانين سراديب الكتب في الأزهر.

وما أكثر الكتُاب التنويريين الذين وصفوا الأزهر في فترة الخمسينات بأنه معتقل الحرية الذي أستباح عُماله قصف الأقلام وتكميم الأفواه بحجة الدفاع عن الدين وعلى رأسهم عبدالكريم الخطيب (1910م – 1985م)  وإسماعيل مظهر؛ فكلاهما قد أكد على : أنه ليس في الإسلام أعمال أو وظائف يتلقاها الخلف عن السلف بالوراثة لا فيما يتصل بالدينا ولا فيما يتصل بالدين … بل إن الشريعة الإسلامية نفسها لم يرتض لها صاحب الشرع أن تكون إلى يد طائفة من الناس – يعرفون باسم رجال الدين – يتولون القيام عليها وقيادة الناس فيها”.

(وللحديث بقيَّة)

بقلم : د. عصمت نصَّار

 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *