Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

الناسُ قد تعودوا في عالم البحث العلمي أن يركزوا بحوثهم إمَّا على الشخصيات أو على القضايا؛ فيأتي بحث الباحث منهم منصباً مثلاً على شخصيّة فكرية بعينها ليجعلها مدار اهتمامه يدور بها على جوانبها المختلفة سيرة وحياة فكرية في إطار هذه السيرة، ثم من خلال تلك السيرة تبرز أمامه القضايا التي يتناولها صاحب الشخصية المدروسة ليسلط عليها الباحث جوانب الضوء فيما عساه يظهر فيها ممّا قد وقف عليه من أفكار ومواقف.

أمّا حين يكون التركيز  الغالب على القضايا؛ فإنه يغفل جوانب السيرة والحياة الفكرية، ويجعل تركيزه قائماً على الرأي في معالجة القضية التي هو بصددها من حيث هى فكرة، غاضّاً الطرف عن صاحبها.

والواقع أنه لا تنفصل الشخصية بحال عن قضيتها، كما لا ينفصل البحث العلمي نفسه، وإنْ تجرَّد الباحث غاية التَّجَرَّد، عن الدمج فيه بين الشخصيات والقضايا؛ لأننا نعلم بداهةً أن لكل شخصية قضاياها التي تشغلها ولكل قضية شخصيات أبرزوها على ساحة الحياة الفكرية؛ يكمّل اللاحق ما توقف عنده السابق، ويضيف عليه و يزيد، أو يسدَّ القصور الذي سبقه إليه أقرانه وتجرَّدت له همته؛ موضوعاً في الاعتبار ما استجد من طوارئ الأحداث وما تغير من نبض العصر وحركة الحياة اليوميّة.

لا شك تجيء تلك الإضافة علامة بارزة على الشخصية نفسها من جانب، وعلى القضية من جانب آخر؛ فمن حيث كونها علامة بارزة على الشخصية؛ فإنه لا يستطيع أحد أن يتحدَّث في قضية ما، فضلاً عن أن يكتب فيها، ما لم تكن شواغله الباطنة، عقلية أو وجدانية، هى البواعث التي حركته نحو تناولها والبحث عنها والكتابة فيها، ناهيك عن المواقف الأخلاقية التي تقوم بين الكاتب وقضيته، والشخصية واهتماماتها؛ ممّا كان تقرَّر عنده سلفاً إزاء ما هو مهتم به.

هنالك جوانب في الشخصية هى نفسها الجوانب التي تجعل من القضية الشاغلة مواطن اتفاق بينها وبين ذلك الذي كتب فيها وسلط عليها الأضواء .. ما لذي جعله يميل إلى هنا ويترك ما دونه، يكتب في هذا ولا يستهويه سواه، يعكف على هذا العلم وَيُفرِّعه على غيره من قضايا بعينها؟ حتى إذا ما تعرضت ادْراكاته إلى علم غيره لم تجد ما يسعفها فيه، ما الذي جعله يفعل ذلك إلّا أن تكون ثمة حالة من الوفاق الباطني بين الشخصية والقضية؟

فإذا نحن وقفنا على دواعي هذا (الوفاق) أدركنا حالة التَّوحُّد بين الشخصية وموضوعها؛ وإذن ليس ثمة موضوعية على الوجه الذي يحدّده العلم من معنى كلمة موضوعية كما تتحدد في مجال العلوم الطبيعية والرياضية.

هذا عن الإضافة من حيث كونها علامة بارزة على الشخصية نفسها. أمّا من حيث كون هذه الإضافة علامة بارزة على القضية؛ فلا توجد قضايا مطروحة على الساحة إلّا ويوجد معها الأشخاص الذين يطرحونها؛ فلن تطرح القضية نفسها بنفسها، ولا تطرح بغير ما وَرَدَ عنها في السابق.

ومن هنا شَاَعَ بيننا القول المأثور ونحن بصدد تعليم مبادئ البحث العلمي في العلوم النظرية الإنسانية بضرورة مراعاة شخصية الباحث فيما عساه يتناوله من موضوع مبحوث كخطوة منهجية أوليّة يمكنه فيما بعد التعمق فيها, يصقلها بالدراسة وينبتها في تربة صالحة للغرس والإنبات، تبرز فيها إضافته العلمية من حيث الرأي والتوجه والأصالة والمعرفة. ناهيك عن المنهج المستخدم في مجال النقد المقارنات؛ فإنا لنعتقد أن أفضل المقارنات ما كان بين المتباعدين في البيئة والزمان؛ لأن التشابه بين أبناء البيئة الواحدة والزمن الواحد لا يميز الأضداد، ولا يكشف علة الاختلاف أو التوافق، ولكننا إذا قارنا بين اثنين تفرقهما البيئة والزمان ثم رأينا علامات التشابه بينهما واضحة وكشفنا عن علة التوافق؛ إذْ ذَاكَ يظهر الدليل القاطع على فعل العلة التي يشتركان فيها؛ وببرز الهوى الذي سيطر على نفسية كل منهما .. وهى علة واضحة لسبب مشترك في هوى إنساني موجود.      

هنالك تكون القضية دالة من الوهلة الأولى على كل مَنْ كَتَبَ فيها من طريق تلك الإضافة العلمية (بمنهج المقارنة والنقد أو غيرهما إنْ شئت)، وما عليك إلاّ أن تتبع جذورها المعرفية لتواجه طابوراً من الأشخاص الذين كتبوا فيها أو أشاروا إليها مجرد إشارة؛ أضافوا أو نوَّهوا، وتلتقي بأفكار فيها كانت مهمة من هنا أو من هناك غير مفصولة عن أصحابها، وغير منسوبة إلاّ للذين كان لهم قصب السَبْق في معالجتها جيلاً وراء جيل.

انفصال الموضوع عن الذات في العلوم الإنسانية النظرية يدل من الوهلة الأولى على غيبة الوعي بكل تأكيد؛ وبخاصّة فيما لو كانت تلك العلوم هى من قبيل العلوم التي تمسّ جوانب العقيدة الدينية وتشغل وجدان المؤمنين بها، فلن تكون القضية إذْ ذَاَكَ مفصولة عن الشخصية ولا الشخصية تجيء بمعزل عن القضية التي تتناولها. وربما كان هذا الانفصال يمثل على المستوى الخُلقي خطورة شديدة؛ لأنه يعزل الوعي عن الذات، ويقدح في مصداقية الشخص الذي يثير قضيته وهو غير مؤمن بها ولا مؤمن بما يثيره حولها، ناهيك عما إذا كان يكتب فيها أصلاً .. وبالتالي يجعل الموضوع في ناحية، والمتحدِّث أو الكاتب في هذا الموضوع في ناحية أخرى، ويحلو له أن يسمي هذا أو ما يشبهه بالموضوعية العلمية وهى عندي غيبة غارقة في الوهم بكل تأكيد.

وهمٌ؛ لأنه يفهم الموضوعية العلمية خطأ. وبطبيعة الحال هذا كله شيء، ومراجعة الأفكار ومناقشتها شيء آخر؛ فليس معنى أن تكون القضيّة مستقرة في وعي صاحبها أو الفكرة المعروضة ممزوجة بحياة كاتبها أن يقوده ذلك إلى التعصب لها ورؤيتها هى فقط في حين لا يرى سواها؛ فمثل هذا التعصب نفسه هو كذلك ضد الوعي؛ لأنه ضد منطق العقل؛ وكما يكون ضد الوعي وضد منطق العقل، يكون كذلك ضد الوفاق الأيديولوجي بين النظر والتطبيق أو بين القضية والشخصية المتناولة ممّا يعكس إغراقاً في الذاتيّة على حساب الموضوعية التي هى أولى خطوات البحث العلمي.

الموضوعية بمعنى التجرُّد والنزاهة في الحكم وقبول الرأي الآخر المخالف وتوسيع دائرة الوعي حول ما هو مطروح.

وهنا تجيء الموضوعيّة لتفرض نفسها على بساط البحث العلمي، فلا سبيل من هذه الجهة إلا بالأخذ بها مادام كل شيء عرضة للمراجعة والنقد والنقاش شريطة أن نفهم بدايةً كيفية ممارستها من طريق الحوار الهادف البنّاء، وإبرار الجوانب السلبية التي تؤثر على الموضوع كما تقدح بذات القدر في صاحب الموضوع نفسه كونه يتحدَّث بما لم تكن قناعاته وافية بما لديه عن موضوعه؛ الأمر الذي يسبب هوة سحيقة وسيعة بين ما يقوله وما يسلكه أو بين عقيدته وتطبيقاتها العملية.

ومن الموضوعية أيضاً أن نقول بداهةً؛ إن إيُماننا بالوعي، مطلق الوعي، يُقرر : إنه لا توجد الأشياء في عالم الأعيان مستقلةً عن ذواتنا العارفة؛ لأننا لو قلنا بذلك لأنكرنا القيم، مطلق القيم، وعزلناها عن الحركة والفاعليّة والحياة.

رمز الفكرة الأخلاقية هو المطلق الحقيقي، والشيء في ذاته، الأمر الذي جعل من فيلسوف كبير مثل “كانط” ينادي بصدارة العقل العملي نصّاً وروحاً، فالأخلاقيّة غاية وسيلتها الإرادة الخالصة، والكون هو شرط النشاط الأخلاقي ونقطة ممارسته، وإذا وجدت عقبات في سبيل تحقيق هذا الشرط، فليست العقبة إلَّا فرصة مناسبة لبذل المجهود، وما الذهن إلا مرحلة تتيح له النمو والتطور والصقل مع فاعلية هذا الفعل الحر.

لذلك، كان التفلسف هو إقناع المرء نفسه بأن الوجود الواقع ليس بشيء، وأن الواجب هو كل شيء.

ومعنى أن نتفلسف : أن نتبيَّن بطلان العالم “الظاهراتي” مُفارقاً لماهيته المعقولة؛ وأن نرى في عالم الأعيان، لا معلولاً لعلل غريبة عن عقلنا العملي، بل نتاجاً للأنا ذات الموضوع. فليس هناك من علم سوى علم الأنا، أو الوعي، أو الوجدان.

والمعرفة ليست في جملتها ولا في جزء منها، نتاجاً للإحساس، بل هى كلها من صنع الأنا العارفة، ومن خلق الأنا العارفة، والتفلسف والمعرفة والعلم هى إنتاج الحقائق لا الاهتداء إلى حقائق جاهزة.

ومن الناس من ليس لديهم إلا شعور ضئيل بالقيمة الأخلاقيّة للإنسان ومدى استقلاله؛ لأنهم ضحيّة أوهام خدّاعة وعبودية عقليّة. مثل هؤلاء لا يملكون الشخصيّة الكافيّة ولا الاستقلال اللازم كيما يكونوا فاعلين ومؤثرين؛ لأنهم فقدوا الاندماج الكلي بين العالم الخارجي والذوات العارفة، فإذا المعرفة لديهم، مع هذا الفقدان، لا تتجاوز السطح الخارجي والقشرة البرّانيّة. أما الرجال الواثقون بأنفسهم والذين يؤمنون بأنهم متميزون عن غيرهم من الكائنات الطبيعية الحيّة، فهم وحدهم القادرون على الفاعليّة والتأثير .. أي أنهم القادرون على الاندماج الكلي بين العالم الخارجي والذوات العارفة. وهنا تجيء المعرفة فوق الموضوعية بمراحل، تتجاوزها وتعلو عليها إذ تصدر من وعي الذات بعرفانها ولا تصدر حكماً فكرياً من خارج وكفى.

من هذا الفعل وذاك التأثير، جاءت الصدارة للفكر الذي يختاره المفكر، أو للفلسفة التي يؤمن بها، أو للقضية التي يطرحها أو بالطريقة التي يعرضها للناس على قناعة وحَبُور. ومن أجل هذا؛ كان اختيار الشخص لأي ضرب من ضروب الفلسفة وقضاياها متوقفاً إلى حد كبير على أي صنف من الرجال عساه يكون؟

معنى هذا، أن فلسفة كل إنسان تعتمد في الغالب على طبعه واستعداده وميوله، أي تعتمد على قناعاته، وعلى مدى ارتباط هذه القناعات بمعارفه التي تشكلت منها. ومن الموضوعية – لا ضدها – قبولها كخطوة منهجية نحو التحقق الفعلي؛ فلو سلّمنا تسليماً قطعيّاً بوجود الأشياء في عالم الأعيان مستقلة عن ذواتنا العارفة، لكان معنى ذلك إنكار الوعي الإنساني برمّته. ولكن العكس أيضاً يكون صحيحاً، فإنّ اتحاد الأشياء في عالم الأعيان بذواتنا العارفة، أو على الأقل : تمثّلها لهذه الذوات يُعلي من شأن الوعي، ويبلغ به درجات غير عاديّة من الإدراك العالي لا العادي.

والحقيقة التي يتجاهلها أكثر الناس خاصّتهم قبل عامتهم هى أن صاحب الدعوة إلى فكرة ما، كائنة ما كانت هذه الفكرة : في الدين، وفي التصوف، وفي الفلسفة، وفي الفن، وفي الأدب، وفي القيم، وفي مسائل التقدّم أو في مسائل المصير .. إذا هو لم يخضع حياته الشخصيّة لما يدعو إليه، فتعكس شخصيته قضيته، وإيمانه على المستوى النظري يجسده واقعه العملي، جاءت دعوته من الأثر الضعيف في حياة الآخرين بحيث تصبح تلك الدعوة (طق حنك) كما يقول السوريون، تصبح هباءً منثوراً .. كأن لم تكن !

وتلك هى خطورة حملة الأقلام من أصحاب الدعوات وأصحاب الرسالات في العلم والفن والفلسفة والدين والقيم، وفي كل مهنة، وفي كل رسالة، خطورة تبقى على مدار العصور والأحقاب الزمنية المتلاحقة فضلاً عن أثرها السيئ على صاحب الدعوة نفسها : العقيدة في ناحية، والعمل في ناحية أخرى، الخطاب الأيديولوجي في كفة، والممارسة الفعلية في كفة مقابلة. تصبح هنالك هُوّة فاصلة بين النظر والتطبيق، الأمر الذي يقدح في الوعي عموماً فضلاً عن ما يسببه انفصال الموضوع عن الذات من ازدواجية المعايير الخُلقية.

(وللحديث بقيِّة)

بقلم : د. مجدي إبراهيم 

 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *