Share Button
كلية الآداب – جامعة عين شمس

اكتسب مفهوم “التسامح” معاني عدة، وتجسد بصور متنوعة عبر اختلاف أشكال الوعي الإنساني؛ فلم يعد مقتصرًا على الجانب الطائفي والديني بل امتد ليشمل الجانب السياسي والاجتماعي والثقافي. إن “التسامح” ليس ضرورة لأزمة المجتمعات التي تعاني من نزاعات أو صراعات فحسب، بل إن وجوده ضرورة أساسية لكل المجتمعات حتى في أوقات السلم عندما يكون المجتمع ذا مكونات مختلفة.

بدأت الدعوة إلى “التسامح” تأخذ بُعدها العالمي الرسمي منذ أن بدأت المواثيق الدولية تشير إليها في نصوصها، فالأمم المتحدة أخذت في تدعيم “التسامح” من خلال تعزيز التفاهم المتبادل بين الثقافات والشعوب. وتكمن هذه الضرورة في جوهر ميثاق الأمم المتحدة، وكذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي أكثر أهمية الآن – من أي وقت مضى – خاصَة في هذه الحقبة التي شهدت زيادة التطرف العنيف واتساع هوة الصراعات التي تتميز بتجاهل أساسي للحياة البشرية. وفي عام 1996 دعت الجمعية العامة الدول الأعضاء إلى الاحتفال باليوم الدولي للتسامح في 16 نوفمبر، من خلال القيام بأنشطة ملائمة توجه نحو كل من المؤسسات التعليمية وعامة الجمهور (القرار رقم 95/51، المؤرخ في 12 ديسمبر). وجاء هذا الإجراء في أعقاب إعلان الجمعية العامة في عام 1993 بأن يكون عام 1995 هو عام الأمم المتحدة للتسامح (القرار رقم 126/48). وأعلنت هذا العام بناء على مبادرة من المؤتمر العام لليونسكو في 16 نوفمبر 1995، حيث اعتمدت الدول الأعضاء إعلان المبادئ المتعلقة بالتسامح. وقد أطلقت الأمم المتحدة حملة (معاً) لتعزيز التسامح والاحترام والكرامة في جميع أنحاء العالم. ومعًا هي الحملة العالمية التي تهدف للحد من المواقف السلبية تجاه اللاجئين والمهاجرين بغرض تعزيز التكافل الاجتماعي بين المجتمعات المضيفة.

وجاء في الميثاق ما يلي: “نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي جلبت على الإنسانية أحزاناً يعجز عنها الوصف. وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية. وأن نبين الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي. وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قُدمًا، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أوسع. وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن حوار، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي، وأن نكفل بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها ألا تُستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة، وأن نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشئون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعًا”.

وبما أن الحاجة تدعو اليوم – كما في فترات عديدة من التاريخ البشري – إلى بعث الحياة في القيم الإنسانية السامية خاصًة مفهوم “التسامح”، فقد يكون من المناسب أن نبين علاقة الفلسفة بهذا المفهوم، على أساس أن الفلسفة من أكثر الميادين المعرفية التي عملت على ترسيخ مفهوم “التسامح” في العقل الإنساني. والجدير بالذكر أن تاريخ الفلسفة يدلنا على أن “التسامح” كان دائماً مقوماً أساسياً من مقومات التفلسف، أعني “البحث عن الحقيقة”؛ واعتماد الشك في التفكير الفلسفي والأخذ بمبدأ نسبية الحقيقة، والاعتراف بالاختلاف، وبمشروعية الخلاف هو التسامح بعينه.

ويزخر تاريخ الفلسفة بمساهمات مفكرين أمثال: “اسبينوزا” و”جون لوك” و”فولتير” في إغناء مفهوم “التسامح” وتوسيع حقول استعماله، فنجد “اسبينوزا” يقول – في الفصل الأخير من رسالته في اللاهوت والسياسة – : “إن أسوأ موقف تُوضع فيه الدولة هو ذلك الذي تبعث فيه إلى المنفى بالشرفاء من رعاياها وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا أنهم اعتنقوا آراء مخالفة لا يستطيعون إخفاءها”. وكتب “روسو” في “العقد الاجتماعي”: “يخطئ في نظري أولئك الذين يفصلون بين اللا تسامح المدني و اللا تسامح اللاهوتي، فهذان النوعان لا انفصام بينهما. ونشر “جون لوك” كتابه ” رسالة في التسامح” بدون توقيع اسمه خوفاً مما قد يتعرض له من ردود فعل غاضبة قد تهدد حياته، لأنه دعا – في هذا الكتاب – إلى القضاء على بنية التفكير الأحادي المطلق، وروح التعصب الديني المغلق، وإقامة الدين على العقل، وبناء منظومة حقوق تؤسس لمفهوم “التسامح” تعتمد على مبدأ فصل المهام بين دور الدولة ودور الكنيسة، ومبدأ المساواة في الحقوق بين جميع الطوائف الدينية. يقول: “يجب أن تتخذ الكنائس من التسامح أساساً لحريتها، وأن تعلم أن حرية الضمير حق طبيعي لكل إنسان، وأن لا إكراه في الدين سواء بالقانون أو بالقوة. أما “فولتير” فالتسامح عنده هو النتيجة الحتمية لإدراكنا أننا لسنا معصومين من الخطأ. يقول: “البشر خطاؤون، نحن نخطئ طول الوقت. دعونا نسامح بعضنا بعضاً، دعونا نغفر لبعضنا الحماقات وهذا هو المبدأ الأول للحق الطبيعي”.

إن البحث عن الحقيقة أو الاقتراب منها أو اللاعصمة من الخطأ – كما يرى كارل بوبر – كلها تقود إلى موقف نقد ذاتي وإلى التسامح. فالمبدأ القائل: “علينا أن نتعلم من الأخطاء إذا كان لنا أن نتعلم تجنب الوقوع في الأخطاء، يعني أن إخفاء الأخطاء إذن هو الخطيئة الفكرية الكبرى. ولما كان علينا أن نتعلم من أخطائنا، فلابد أن نتعلم أيضًا أن نقبل – شاكرين – أن يوجه الآخرون انتباهنا إلى أخطائنا. وعندما نقوم نحن بدورنا بتوجيه انتباه الآخرين إلى أخطائهم، فعلينا دائماً أن نتذكر أننا قد وقعنا نحن أنفسنا في أخطاء. إننا نحتاج إلى الآخرين لاكتشاف أخطائنا وتصحيحها، وهم يحتاجون إلينا أيضاً وهذا بدوره يؤدي إلى التسامح. إن النقد الذاتي هو أفضل النقد، لكن النقد من الآخرين ضروري، بل يكاد أن يكون له أهمية النقد الذاتي نفسه.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *