Share Button
بقلم د. مجدي إبراهيم
لم يكن هدفنا من كتابة هذه السلسة من المقالات حول نقد العقل الدَّعوي إلا صياغة المفردات الثلاث : النقد، والتجديد، والإصلاح؛ كمعالم بارزة لا بدّ منها لفهم الخطاب الديني ومحاولة مواكبة المسيرة المستنيرة لعصرنا الذي نعيش فيه، وهو العصر الذي أضحى فيه التفكير في الدين بمثابة الهوس الذي أسفر عن التطرف والعنف والإرهاب؛ فعوض عن أن يكون التفكير في الدين أداة عمل ونشاط وحيوية وبناء، أصبح أداة إرهاب وكراهية ونفور وتدمير وفناء.
وعليه؛ فلا بدّ من تغيير في فهم الخطاب الديني فهماً مجدداً، ولا بد (أولاً) من نقد التوجهات التي ترتكز فيه على المناطق السوداء؛ لتنشرها بغير وجه حق عسفاً بين الناس. ولا بدّ (ثانياً) من تجديد القوالب الجامدة بتجديد النفوس القابلة وبتجديد طرائق التفكير فيها، ولا بد من فهم أصول الدين فهماً يتماشى مع عالمية هذا الدين، ومع سماحته التي تجذب قلوب العالمين ولا تنفرها من رحمة الله.
ولا بد (ثالثاً) من إصلاح العقم الديني الذي أصاب العقول فحجَّرها عند زوايا ضيقة، ولا بدّ من تجديد الحماسة الروحيّة فيه؛ باستشعار القلوب والبصائر بقيمة التعلق بالملأ الأعلى على الحقيقة، وبالعمل الدائم في هذا الإطار وبهذا المضمون الذي يُرسل السكينة القلبية في قلوب العاملين.
ولم نكن في المقالات السالفة وأولها: عوائق تقدّم العقل العربي. وثانيها: نقد العقل الدعوي. وثالثها: تجديد الخطاب الدعوي؛ ندور حول قضايا مفصولة عن واقع هذا العقل، ولم تكن بالقضايا المعزولة عن فهم ذلك الخطاب الديني؛ فقد ذكرنا في المقال الأول أداة هذا الخطاب متمثلة في اللغة فتجديدها ضربة لازب، ثم أردفنا هذا العائق أمام تقدّم العقل العربي بإصلاح جوانب النفس الإنسانية. وفي المقال الثاني ركزنا على فكرة احتكار الحقيقة المطلقة، وقلنا إن مضمون “الاحتكار” نفسه هو مضمون يأتي ضد الحرية وضد الإسلام وضد العقل على التعميم. وفي المقال الثالث تناولنا “الفهم” كحيوية عقلية ونشاط أعمق.
والمقصود بالفهم هو فهم الخطاب الإلهي بالأساس، وهذا يتطلب من صفاء القلب ولين الجانب ورهافة الحسّ وارتقاء الأذواق العليا ما يوفر لصاحبه القدرة على استخدامه، ولا يمكن أن يقوم به ثلة مطموسة الذوق والبصيرة، مُجرّدة عن هذه المواهب والقدرات.
فلئن كنا في المقال السابق “تجديد الخطاب الدّعوي”، ذكرنا أن الفهم لا يتوقف على الحرفيّة، ولكنه يأخذ بالتأويل والتعميق، ولا يقدم القشرة الظاهرة السطحية ويكتفي بها فقط، وضربنا مثالاً على “الفهم” بمورد من موارد ابن عربي لمعالجة مفهوم الرحمة؛ فإننا في هذا المقال نستكمل تلك الرؤية الذوقية للخطاب الديني عند أحد تلاميذه؛ وهو الجيلي.
فقريباً من مورد ابن عربي الذَوْقيِّ التبَصُّري، يُفَرِّق عبد الكريم الجيلي (ت 805 هـ) أحد تلاميذه في مجال الرحمة ومفهوماتها بين نوعين من الرحمة : الرحمة العامة. والرحمة الخاصّة؛ فالرحمة العامة هى التي تظهر في سائر الموجودات. والرحمة الخاصَّة هى التي يختص بها أهل السعادات وعنده أن : “الرحيم والرحمن اسمان مشتقان من الرحمة. ولكن الرحمن أعمَّ, والرحيم أخص وأتمُّ؛ فعموم الرحمن لظهور رحمته في سائر الموجودات، وخصوص الرحيم لاختصاص أهل السعادات به.
والجيلي هنا يتفق مع ابن عربي في أن :”كل موجود مرحوم”؛ فما عمَّ الرحمن رحمته إلا بظهور رحمته في سائر الموجودات؛ وهو المراد برحمة الامتنان عند ابن عربي. ثم إن هذه الرحمة تأتينا على سعة قدر الله لا سعة أقدارنا نحن؛ فنحن البشر لا نسع حتى رحمة أنفسنا بأنفسنا ولا نطيق في الغالب رحمة هذه النفس بإزاء نفسها فما بالك بغيرها؟ ولكن رحمة الله الواسعة هى أعرف بحاجة النفس إلى رحمة خالقها؛ لأنه هو الذي خلقها وأعطاها من الأمل في فضله ما يقرُّها على الثقة به وحسن الظن فيه سبحانه وتعالى.
ومن الرحمة الإلهية التي لا حدود تحدِّدها حدود العقول البشرية، ولا وصف يقتدر على تشخيصها : قوله صلى الله عليه وسلم من حديث الترمذي : قال الله تعالى :” يا ابن آدم : إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم : لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم أستغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة”، ثم ماذا ؟
لقد جاء الإسلام رحمة للعالمين من لدن ربّ العالمين؛ فمن شاء أن يقيد هذه الرحمة بخصوصية إدراكه هو؛ فقد أراد أن يحجِّر واسعاً من عند الله ويضيق بتصوراته هو ما وسَّعه الله على عباده، ويتخذ من فهمه لدين الله منهجاً – معوجَّاً أو غير معوَجِّ !- يفرضه فرضاً مبالغاً فيه على خلق الله؛ ليظن، من بعدُ، ظناً ليس فيه يقين أنه هو المنهج الذي جاء به الله سبحانه، لا لشيء إلا ليحتكر الخطاب الإلهي وحده تعبيراً وتفكيراً وإلزاماً للناس تمهيداً لاحتكار الحقيقة ثم تملُّكها، وتخطئة؛ بل وتكفير من يرى رأياً غير رأيه أو يقول قولاً غير قوله، أو يُعَبِّر عن تلك الحقيقة بفهم غير فهمه ومعيار غير معياره؛ ولو أنه قال :” هذا فهمُ أُوتِيه رجل مسلم؛ فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه”؛ لكان أقرب إلى الحقيقة، وأصوب في التقدير والتفكير، وأرقى في لغة التعبير خطاباً غير محتكر ولا متعدّى ولا متجاوز ولا مملوك.
مثل هذا الرقي في التصور يدل على رقي في الإدراك؛ وهو من علامات المتحقق؛ إذُ المتحقق على الحقيقة – فيما يقول ابن عربي – هو الذي يدعو إلى الله على بصيرة؛ وهو الذي – كما روي الشعراني في طبقات الصوفية- :” لا يأتي بشرع جديد وإنما يأتي “بالفهم” الجديد في الكتاب والسنة”.
ومن هنا؛ من ذلك المعنى المفتوح لإدراك مفهوم الرحمة كما تقدَّم؛ وفوق ما تقدَّم، يمكننا القول مرة ثالثة بأن الإسلام جاء رحمة للعالمين. وهذه الرحمة للعالمين تشمل خلق الله جميعاً بغير استثناء فرقة ولا طائفة ولا مذهب ولا دين : في البوذية جزء من الإسلام، وفي اليهودية جزء من الإسلام، وفي المسيحية جزء من الإسلام، وفي الأديان غير الكتابية جزء من الإسلام؛ لأنها جميعاً قد مسَّت الحقيقة في جزء منها.
والإسلام هو الحقيقة الكبرى؛ والضخمة، والتامة، والشاملة؛ وهو هو الرحمة التي أرسلت في المطلق للعالمين :
“وَمَا أرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً للعَالَمِينَ”
وفكرة “التمام” لمكارم الأخلاق التي نضح بها حديث المصطفى، صلوات ربي وسلامه عليه، – علي بساطتها ويسرها – هي من أصول فهم الإسلام للعقائد والأديان السابقة عليه، والإقرار بما لديها من مساس الحقيقة؛ في جزء منها لا في كلياتها، والاعتراف بوجود المكارم؛ أخلاقية عملية كانت أو عقائدية كبرى، ففي الحديث قوله؛ صلى الله عليه وسلم :”إنما بعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق”؛ فكأنما هذه المكارم الخُلقية كانت موجودة في السابق، غير أنها في الوقت ذاته لم تكن كاملة، ولم تكن تامة، ولم تكن كلية شاملة يلمُّها مبدأ “التوحيد” ويضمُّها تحت لوائه. ومعنى كونها لم تكن تامة لا يلغي في السابق عدم وجودها.
وفي الحديث اعتراف بفضل السابق : أنهم كانوا أهل مكارم، وإنْ كانت لديهم ناقصة قاصرة ليست بتامة ولا شاملة. وما يُقالُ عن جانب الأخلاق يقالُ في نفس اللحظة الكاشفة لفكرة “التمام” هذه – علي بساطتها ويسرها – عن العقائد الكبرى: التوحيد والعالم الآخر.
فالذي يفهم من ثمَّ هذا الجزء من أصحاب الديانات – كتابية كانت أو غير كتابية – يقبل الإسلام علي أنه حقيقة إلهية ضخمة وكبيرة، تخاطب الضمير وتستقر في السريرة بمقدار ما تخاطب كل وعي مفتوح لتلقِّي الحقيقة بما فيها من دعوة عالمية، ومن دين شامل لا يتقيد بقيود الحدود الجغرافية والحدود الفكرية والثقافية سواء.
والذي ينكر هذا الجزء من المنتسبين إلى الإسلام ينكر (أولاً) خلق الله، وينكر (ثانياً) تقدير الله على عبادة فيما قدّره على خلقه من عقائد وعبادات، وينكر (ثالثاً) هؤلاء الذين عرفوا الحقائق التي جاء الإسلام ليقرَّها في الضمائر والقلوب؛ وهو من بعدُ يدعو إلى الإسلام لا على بصيرة بل على جهالة؛ ليكون بمثل تلك الدعوة المغلقة يتبنَّاها، ديناً ضيقاً متحجّراً لا يعرف السماحة ولا يتسع لخلق الله ولا لعبادة الله الواحد الأحد !
بقلم د. مجدي إبراهيم
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *