Share Button

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

يُفهم من هذا العنوان معنيان : الأول أن للوطن حرمة كحرمة الدين والعقيدة لا يمكن المساس بهما، وله من ثمّ قداسته كقداسة الأديان، ولا يمكن بأية حال المتاجرة بمقدراته والعبث بمؤسساته فمن يفعل مثل هذا، يكون كمن يعبث بالدين الذي يدين له بالولاء أو بالعقيدة التي ينتمى إليها ويلزم عنها ما يلزم من تبعات.
والمعنى الثاني : هو أن مصلحة الوطن تفوق سائر المصالح الفردية، وأن المصلحة العامة أعلى وأبلغ في الدلالة من المصلحة الخاصة، وأن الذي يتصدّى لمنصب أو مسؤوليّة يكون أقدر من غيره على تقدير هذا المعنى، وأكثر قدرة على التنازل عن مصلحته الخاصّة من أجل المجموع، فالتربح من المنصب أو الإساءة إلى المرؤوسين أو استغلال سطوته ونفوذه، أو العمل للمصلحة الخاصّة ونسيان مصلحة الوطن العامة، كل هذا عار على صاحبه وأي عار، لأنه خيانة للوطن فما بالك فيما لو كان الأمر أخطر من هذا كله، وهو الاعتداء على مقدرات هذا الوطن ومحاولة إزالة معالمه الثقافية أو الحضارية، وتغييب دوره الريادي في الواقع وفي التاريخ.

ليس هذا فقط بل العمل على تشويه قيمه من خلال عمليات الإرهاب التي تتخذ لها أوكاراً مسمومة لممارسة نشاطها الفاسد المفسد مما من شأنه أن ينصبّ في النهاية بكل تأكيد لصالح صُنّاع العار الوطني، لخفافيش الظلام، للفوضى التي سبّبتها أيدي التخريب والفساد والتآمر في الداخل والخارج.

عارُ وأي عار! عار على من أدخل العار لنفسه ولعمله ولبيته ولوطنه. وكل عار يُلاحق أصنام الجهالة والنفور من الوطنيّة هو عارُ على من لم يقدّر شرف النسب المصري ويلحق نسبه بدويلات لم تذكر في التاريخ ولا في الحضارة إلا عرضاً غير مسبوق بتاريخ ولا حضارة. ويبقى المصري الأصيل هو صاحب التاريخ وصاحب الحضارة رغم أنف التآمر والحقارة. إنّ مصر هى كل مصري، هى أنا وأنت، فانقسامنا على أنفسنا مرارة كما يتجرّعها المخلصون، يتجرّعها الأفاكون الكاذبون المضلّلون ممّن جعلوا الانقسام غاية لهم، رفضوا الوطنية، ودعّموا الشر، وزوّروا التاريخ، وركلوا المواطنة، وتعَامُوا عن السياسة العالميّة، وكرَّهوا عباد الله في خلق الله، وحرّضوا للعدوان وأرادوا الفوضى، ولم يعرفوا معاني الحياة في ظل الأمن والأمان والاستقرار.

هؤلاء هم من يريدون لمصر أن تكون مثل غيرها من الأقطار العربية ضعيفة، متشرذمة، متشظية، منقسمة على نفسها، يجمعها الضيم والعار والذل والهوان، لا بل يُفرّقها، ولا تجمعها راية من التوحيد واحدة ولا هدف واحد ولا وحدة واحدة. وهيهات هيهات؛ مع قوة الاتحاد العاصم من الفُرقة والشتات، أن ينالوا ما يريدون !

من يشهد الأحداث الجسام تمر بها بلادنا، وأخطرها الحرب على الإرهاب، ولم ترتفع فيه قيم الوطنية إلى ذروتها، يُساهم بشكل أو بآخر في خيانة الوطن وخيانة الواجب ويتيح الفرصة لصغار الدول، وصغار النفوس، وصغار الإمكانات البشريّة، وصغار كل شئ؛ أن يتقوّلوا الأكاذيب على أكبر الدول وأعرقها حضارة ومنارة، فلم يبق إلّا الذيول التُّبّع وإلّاّ الأقزام من الدول والسياسات والأنظمة المتخلفة !

وإذا قامت في الناس تلك القيم واتصلت بأعمالهم حقيقة، سهل القضاء على الإرهاب، والتصدي في شجاعة وإيمان للتآمر الدُّولي، وزاد الأمل في عودة الاستقرار إلى البلاد، والفرصة في الانتقال من القضاء على الإرهاب الفعلي إلى القضاء على الإرهاب الفكري .. أخطر ما نواجهه حقيقة هو الإرهاب؛ سواء كان في الداخل أو في الخارج، وهو سبب الفقر والعوز والحاجة والضعف والانقسام.

مصر تسع الجميع رُغم الخلاف. غير أن لهذا الخلاف ضوابط لا يطولها فيفسد فيها النظام، ويحولها إلى فوضى عارمة مُسَبّبة للانهيار والكساد.

والفرقُ كبيرٌ جداً بين الخلاف المحترم الحريص على وحدة البلاد وبين الفوضى المُسَبِّبة للتفرقة والداعية للانقسام.

الخلاف لبّ الديمقراطية والفوضى لا تمتُّ الى الديمقراطية بصلة؛ فمن يتبع كائناً ما كان أو مَنْ كان، من الأنظمة أو الدول أو الأيديولوجيات وهى ضد نظام الدولة لتكون فوضى داعية للانقسام مُسبّبة للفرقة هو ذيلٌ تابع لا يقرر مصير بلاده برأي له قناعته وقبوله وفق منطق المجموع والصالح العام، بمقدار ما لا يقرر مصير نفسه في بلاده فضلاً عن دحضه لمفهوم الانتماء وقلة ولائه للوطنية أو عدمه. بالإضافة إلى أنه يعدّ بلا شك من صُنّاع العار الوطني.

وقد رأينا ورأى معنا ألوف الألوف من الناس مَنَ جوّز لنفسه إلا يعترف بالوجود المصري وفضّل عليه وجوداً سواه واستخف بنسبه وولائه وشرفه المصري في سبيل إرضاء أيديولوجية معينة بالية ساقطة لا تقدّم للإنسانية فكرة مقبولة في العقل بل مرذولة، فهل يعدًّ مثل هذا إلّا الذيل التابع الإمّعة المنقاد، وإلاّ القزم الذي يريد أن يتعملق على حساب شرف الوطن وشرف الانتماء له والولاء إليه، وإلا الصانع بالحقيقة لمفهوم العار الوطني بامتياز؟!

متخصصون نحن في سحب بساط التفرقة والتشرذم، وفرشه أمامنا على أرض الواقع ليواطئ ما اختلفنا فيه لنطئه جيئة وذهوباً كلما تمزَّقت بنا السُّبل وافترقت حتى ليبدو أننا لم نحسن سوى لغة التمزق ولم نجيد سواها، فإذا دار حوار بيننا واختلفنا مزقنا بعضنا بعضاً في غير رحمة، ولا تفهمنا منطلقاتها الفكرية ولا بواعثنا النفسية والوجدانية ولا توافقنا للوصول إلى المشترك الثقافي. وإذا اختلفنا على قيمة أو مفهوم تعاركنا فيما يشبه عراك الثيران ! فلم يعد الحوار بيننا عفيفاً شريفاً يخلو من الشتائم النكراء بل يصبح حواراً، كما اتفقنا، كحوار الطرشان، هذا ضرب خفي من ضروب العار الوطني.

قالها الإمام الشافعي قديماً في حق الإمام الليث بن سعد الفقيه المصري عبارة رددها المفكرون المصريون فيما بعد، وأخصهم الراحل الدكتور زكي نجيب محمود في حوار له منذ فترة طويلة مع الراحل فاروق شوشة؛ تقول العبارة التي قالها الشافعي عن الليث :” اللَّيثُ أفقه من مالك لولا أن أصحابه لم يقوموا به “.

فلو كان الإمام الليث وجد من أصحابه من يناصره ويقف بجواره في غير انقسام ومعاداة، لكان أفقه من مالك إمام المدينة؛ لكنها طبيعة التمزق والتشتت وقلة النزوع إلى الوحدة والتضامن والوقوف جميعاً إزاء التحديات على قلب رجل واحد. فكل تمزق وتشتت ونزوع إلى الفرقة والخلاف يسهم في إزكاء صناعة العار الوطني بوجه من الوجوه.

فإذا عدنا على ما بدأناه من ملاحظة أن أخطر ما نواجهه في الحقيقة هو الإرهاب، وهو هو عينه سبب الضعف والتمزق والانقسام، لاحظنا كذلك إننا – لا سوانا – نحن مَنْ أساءنا إلى دين الله، بتفرقنا وتشرذمنا ونزوعنا الدائم إلى التفرق والتمزق؛ نحن الذين كان حظنا من دين الله لجلجة اللسان، نتحدث عن الله ولا نعرف عَمَّن نتحدث، ونتكلم عن التوحيد نجريه لفظاً بغير معنى، ونحن أشدُّ الناس تمزقاً وفرقة، وندافع عن دين الله ونحن الذين نسئ إليه من حيث لا نشعر، ونتشدق بالشريعة حكماً بغير مقصد مع أن الأصل في الشريعة مقاصدها الإلهية؛ فكما يكون الأصل في الإسلام هو الوحدة لا التشرذم أو الفرقة؛ فكذلك الحكم الشرائعي بغير المقصد الإلهي لا قيمة له :

مسلمون يقاتلون مسلمين بحجة الدفاع عن دين الله، ومسلمون يذبّحون مسلمين ويستبيحون أعراضهم وأموالهم وأرواحهم بحجة الدفاع عن دين الله؛ ومسلمون يحتكرون الخطاب الديني ويزعمون أنهم المعبّرون الحقيقيون وحدهم دون سواهم عن دين الله.
قلْ لي بربّك : في أي دين شَرَعَهُ الله أن مسلماً يذبح أخيه المسلم بيديه ثم يكبر عليه قصاصاً لدين الله؟
وهل قتل الأبرياء وتشريد الآمنين وتفزيع الصغار والكبار شريعة من شرع الله، مع أن نصوص الأنبياء أجمعت على أن الإنسان بنيان الله ملعون من هدمه؟
نحن الذين أساءنا إلى دين الله بتشددنا وتطرفنا وتمزقنا وتشرذمنا .. ثم ماذا؟
ثم انتماؤنا إلى اتجاهات دينية تراثية صنعها في الإسلام رجال مثلي ومثلك، واحتكار التعبير والتفكير في دين الله، وعدم السماح لغيرنا أن يطلب حقه في الفهم أو حتى في التفكير.

فتنة كبرى بل أكبر من الكبرى؛ والله المستعان.

كلُّ منا ينطلق من بواعثه وأهدافه ويريد أن يملي تلك البواعث والأهداف على غيره، معتقداً أنها هى أصح ما يراها ولا يرى الصحيح لما سواها.

لكن هذا كله شئ، إذا كنا نختلف حول الأفكار والمبادئ والعقائد الدينية، ولكن الاختلاف حول القيم الوطنية شئ آخر. الخلاف حول القيم الوطنية يقدحُ في نسبة الشرف الوطني ويحيل المختلفين حوله إلى صناع للعار الوطني وإلى مجرَّد قطع الشطرنج يحركها عقل مدّبر وراؤها، ولا تتحرك هى من تلقاء ذاتها تعبيراً عن ذواتها وكرامتها، وتحقيقاً لقيمها ومبادئها، ولكنها تنتظر هذا العقل المدبّر، يخطط لها إلى العمل ويرسم طريقها نحو الإرادة.

بقلم : د. مجدي إبراهيم
أستاذ الفلسفة الإسلامية

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *