Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

إذا لزم أن تكون العودة لمحمد عبده واجبة، فليس ألزم لها ممّا عانته الساحة الثقافية المصرية من جدال. فقد بلغت قضية تطوير العقل الديني مبلغها حتى اشتعلت معها نار الفتنة من وراء الحوار الذي دار بين الدكتور محمد الخُشت رئيس جامعة القاهرة، والدكتور أحمد الطيّب شيخ الأزهر.

واتخذت مساحة فوق مساحتها فيما حدث قبل أيام في مؤتمر تجديد الخطاب الديني بالأزهر الشريف، الأمر الذي يدعو لغبطة الحكماء ولغط الشامتين، فالأوّلون يغبطون لتلاقح الأفكار والآخرون يشمتون لزهوة الانتصار، ولا نصر مع الرأي تزهو به إذا نصرك فيه من لا يفهم ومن لا يُحسن أدب المقال.

باعتقادي أنه بالبداهة كان حواراً راقياً لولا الذين نفخوا فيه السُّم الزعاف، فعوض أن يكون حواراً علميّاً يحتمه جوهر الموضوع المطروح، جعلوه معركة بين جبهتين .. لولا أن المسألة يشترك فيها أطراف تريد أن تحقق أغراضها ما كنت كتبت. وبما أن الناس غرست فيه الفتنة، فأغلب الذين لم يراعوا أدب الحوار حوّلوه إلى خصومة بفعل الهوى أو بفعل الميل الذي لا يعمل فيه التفكير.

درجةُ الفهم في بلادنا أضعف من أن تستوعب حوارات فكرية جادة، أو توظفها (أُلفة) في ظل الحرية بعيداً عن عبوديّة الانقسام.

ظنوه شجاراً (ويا ليته كان حجاجاً) بين طرفين وهو لا يُقام على شجار بل على اختلاف، مع حسن النوايا، لا تفسده قضية الود.

مصادر شيخ الأزهر – مع أنه أستاذ عقيدة وفلسفة – مختلفة عن مصادر رئيس جامعة القاهرة، فلابد من خلاف، ولو توحدّت المصادر لزالت نقاط الخلاف. هل يخطئ الإمام ويصيب الخشت أم يحدث العكس ولا حرج معه؟ وإذا أصاب الإمام رفعنا الحرج ونصبنا المحافل وبالغنا في التصفيق والتهليل، واعتبرناها معركة الخاسر فيها ضعيف، أي فكرة أسوأ من هذه الفكرة تدخل العقول المقيّدة بأغلال التقليد؟!

لقد كانت ردود الإمام الأكبر موفّقة جداً إلى حدٍ كبير، ولكن هل خلت الأخطاء تماماً من كلام شيخ الأزهر مع إجلال كل الفضل له؟

سل شيخ الأزهر نفسه : هل تخطئ يا فضيلة الإمام؟ وهل كلامك كله صواب مطلق؟ فلا شك تكون الإجابة : يا قوم إني بشر مثلكم أصيب وأخطي ولا أملك حقيقة في كلامي مطلقة. ومع إجلال كل الفضل كله لفضيلة الإمام هل خلت من حديثه الهنات؟

بالطبع لا .. قال إننا عقدنا المؤتمرات تلو المؤتمرات لنقول للناس إنّ الإسلام يبرأ من الإرهاب. نعم جميل جداً .. ولكن ألا يوجد في التراث من حمل لواء الإرهاب تحت مظلة الإسلام .. ألا توجد مناطق سوداء في التراث الإسلامي، كما توجد في كل تراث آخر، لو ظلت كما هى لكانت مادة تخلف ظاهرة فضلاً عن كونها مادة خصبة يرتع فيها المسترهبون صباح مساء؟

موقف الأزهر من التراث لا زالت تحكمه عقلية “الشيخ عليش” ألدّ أعداء محمد عبده؛ إذ كان قطباً بارزاً من أقطاب التقليد والجمود في الأزهر الشريف. وكانت له قناعاته المتصلبة نحو كل جديد : رفضه، ورفض من يدعو إليه ولو بالقوة القتالية.
وكان الشيخ عليش هو العدو اللدود للإمام “محمد عبده” أكبر مصلح مجدّد عرفته البلاد الشرقية، ولا تزال قاعات الدرس في بلادنا تهتدي بأمثال عقلية الشيخ عليش أحد شيوخ المالكية الذين وقفوا بالمرصاد لدعوة الإمام محمد عبده، يرفضون الاجتهاد ويعادون تجديد الخطاب الديني، ولا يرون في الإصلاح إلا الكفر والبغضاء والمعاداة.

وقد وصل الأمر – فيما يرويه الإمام محمد عبده نفسه – في عداء الشيخ عليش للاجتهاد إلى درجة دفعته أن حمل حربة توجّه بها ليطعن زميله الشيخ السنوسي الذي جرؤ على الاجتهاد، فخرق حرمة الدين واتبع سبيلاً غير سبيل المؤمنين؛ لأنه صنف كتاباً في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على الأصول المالكية، ولولا مغادرة الشيخ السنوسي القاهرة إذْ ذاك قبل ملاقاة الشيخ عليش، لوقعت الواقعة واغتيل واحد من المجتهدين على يدي أحد المُكفّرة من دعاة التقليد.

من يصدق فينا هذا العته الفكري؟
منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ونحن نلف وندور في حلقة مفرغة ونقول : تجديد، تجديد، تجديد، ولا نجدد ولا نُهبّب؛ كمن هو جوعان وأمامه المخبز من قريب، ويظل يكرر اللفظ : جوعان، جوعان، جوعان ألف الف مرة بغير حركة تنقله من اللفظ إلى العمل الذي يشبع فيه جوفه، والمخبز أمامه على بعد أمتار !

يمكنك أن تذهب الى المخبز، لتتناول خبزك من غير لغط كثير، لكنك تكاسلت واكتفيت بكلام يلوكه لسانك دون حركة سلوكية نافعة لك أو لغيرك، غير أنك آثرت التراجع تمهيداً للموت. هل من عته فينا أمكن من هذا العته؟!

لم يكن الإمام محمد عبده أكبر مصلح تجديدي عرفته البلاد الشرقية إذ ذاك بالذي يقبل من التراث كل ما فيه؛ لأن هذا القبول نفسه يطعن في فريضة الإصلاح بمقدار يفسد مقومات التجديد كذلك، قال رحمه الله في أخريات حياته حاكياً عن نفسه :” ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين : الأول : تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره ضمن موازين العقل البشري، وأنه على هذا الوجه يعدُّ صديقاً للعلم، باعثاً على البحث في أسرار الكون، داعياً إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالباً بالتعريف عليها في أدب النفس وإصلاح العمل.

كل هذا أعدّه أمراً واحداً. وقد خالفتُ في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركّب منهما جسم الأمة : طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم.

أمّا الأمر الثاني، فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير، سواء كانت في المخاطبات الرسميّة بين دواوين الحكومة ومصالحها، أو فيما تنشره الجرائد على الكافة، منشأ أو مترجماً من لغات أخرى، أو في المراسلات بين الناس”.

هذه المنهجيّة ولا شك هى أساس كل نزعة إصلاحية تجديدية تأخذ بها العقول المفكرة وتضيف عليها، وترفضها العقول البليدة المتحجرة ولا تقبل منها المساس بما عساه أن يوقظ فيها صحوة العقل وانفتاحه على المعارف الأخرى.

التراث – مُطلق التراث – ملئ بالضعف وملئ بالقوة أيضاً، ولكن مع ذلك لا جدوى من التعبّد به، والنظر إليه نظرة التقديس.

أظهر شيخ الأزهر دفاعه عن مُلاك (الحقيقة المطلقة) وقال إنه لا يوجد معتقد مسلم أو مسيحي أو غيرهما، يعتقد في دين ينتسب إليه إلا إذا أعتقد الحقيقة المطلقة. وهذا صحيح، لكن المسلم أو المسيحي أو غيرهما يعتقد الحقيقة المطلقة نعم وليس منه مانع، وانمّا المانع أن يمتلكها وأن يُجاهر بامتلاكها أو يمتلك التعبير عنها. لا أحد من البشر يستطيع أن يدّعي امتلاك التعبير عن الحقيقة المطلقة، نعم هو يعتقدها إيماناً لكنها حين تنزل إلى منطقة التعقل والتعبير وإعمال النظر والتفكير لا تصبح على لسانه حقيقة مطلقة بل يصبح التعبير عنها نسبياً، وإلاّ دنّسنا تقديس الحقيقة المطلقة بألسنة الناطقين، لينقلب المُقدّس إلى مُدنّس مع كل نظر أو تفكير.

والإمام الأكبر نفسه هو أعرف العارفين بأن الحقائق المطلقة (الحقائق الإلهيّة) أصلاً لا يُعبّر عنها ولا تدّون في كتب فما بالك بادّعاء احتكارها، أو احتكار التعبير عنها. وبمن؟ بأقوال البشر، وأفكار البشر، وزعامات البشر، وسلطات البشر وسطواتهم على السواء.

العائق الأكبر أمام فهم الحقيقة المطلقة ومعرفتها هم البشر أنفسهم : تقديسهم واضفاء صفات الخالق عليهم من حيث لا يشعر المخلوق، ثم معرفة الحق من ألسنة الرجال لا معرفة الحق أولاً ثم معرفة أهله كما كان الإمام عليّ رضوان الله عليه يقول.

لم أكن أحبُّ للدكتور الخشت أن يستخدم المصطلحات الفلسفية مُجرّدة عن تعريبها أو شرحها، فأغلب الأزاهرة يأنف منها ولا يتقبّلها كاصطلاح (الأبستمولوجيا) (العقل الديالكتيكي) أو حتى نظريّة الأشكال القانونية المتوازيّة أو (إمّا .. أو) أو (مجاوزة التراث) ممّا يحتاج إلى شرحه لعقولهم في سنوات، ليتناسب مع درجة الفهم، وأنت ترى الأنظار ازاءها كانت مدهوشة، والكل فاغر فاه من سماعها كأنما يسمعون أهوال الفزع الأكبر يوم الدين.

نحن نحتاج إلى سنين طويلة قادمة لنقول كما قال أسلافنا البررة إنّ هذا التراث عمل بشري يجوز نقده وفحصه وقبول ما عساه يتناسب مع عصرنا الذي نعيشه، ولكننا نقبله اذا صحّت بعض مواطنه من حيث المنهج لا المذهب، نأخذه من حيث الروح بغير قطيعة معه، التراث ليس مقدّساً؛ لأنه عمل بشري وإلا لو كان مقدّساً لما جاز نقده والاختلاف معه.

أمّا أن تكون عقولنا تراثية فهذه هي المصيبة الكبرى، لأن العقل التراثي عقل مغلق لا يقبل مطلقاً مفاتيح التجديد إلا أن تقوم بكسره غير مأسوف عليه.

ينقلنا هذا إلى أمر آخر وهو مسألة تغيير طريقة التفكير. هذه مسألة وإن تكن ليست بجديدة كل الجدّة فهي شائكة وبخاصّة فيما لو قيلت في عقر الدّار، والدار نفسها لا تحتمل النقد المنهجي، ولا تطبقه على الأثاث بل تحتفظ به كما الحلية الثمينة تدّخرها للزمن المأزوم، فقل لي بربّك كيف تطيقه؟ ثم ماذا؟ ثم تعنون المؤتمر بعنوان التجديد وهى توغل في التقليد الذي جاءت آثاره كما سمعت وشهدت، وأقلها رفض الحوار المشروع.

هنالك يكون النظر إلى الأشعري أو الماتريدي ليس نظراً لا لأشخاص بل لأئمةٍ معصومين لا ينطقون عن هوى، فكل ما يُقال عنهم ضرب من التجاوز تحلّ على قائله اللعنة ولا ينتكب طريق البغضاء، مع أن التراث نفسه ملئ بالوقوف عنده مع نظرات النقد والفحص التي تصل إلى حدّ الهجاء، ولم يسلم الأشعري نفسه من اللوم والمؤاخذة والنقد، ولا سلم أحدٌ قبله، ولا سلم غيره، ولا سلم أفضل منه ولن يسلم من يأتي بعده إلى آخر الزمان.

مسألة تغيير طريقة التفكير تصطدم مباشرة بالعقل التراثي، لأنها تكفر بتقديس المذاهب التي يصنعها رجال في أزمنتهم ولم يكشف عنهم حجاب الغيب ليشهدوا أزمنتنا.

والعقل التراثي نفسه مُقدّس تقدّس معه الأشياء، ومسألة تطويره تمزيقٌ مباشر لشرايين قداسته.

الكارهون للأزهر أشعلوا الفتنة، وجعلوها حواراً قائماً كحوار الطرشان أو حوار العميان سواء، فقال قائلهم : لم يكن الدفاع عن التراث لشيء يتعلق بالدين من حيث هو دين، ولكن لمكانة السلطة التي يمثلها رجل الدين، ويحفظها على نفسه.

هذه لغة خبيثة تشعل الفتنة أيضاً وتُأجج نار الخلاف؛ فما يُقال عن شيخ الأزهر (يا فالح ..!) يُقال مثله في هذه الجزئية عن رئيس جامعة القاهرة. فلم يكن التجديد تجديداً، ولا التطوير تطويراً من أجل الدخول إلى عصر جديد بل من أجل سلطة يمثلها رجل الفكر ويحفظها أو يقصرها على نفسه .. كلا التعبيرين واحد ولا خلاف، وكما تكون السلطة لرجل الدين تكون أيضاً لرجل الفكر؛ فالسلطة مشتركة لمن يريد أن يركبها ويتسلّط بها على خلق الله.

وبعيداً عن السّلطة والسّلطنة كان جديراً أن تؤخذ المسألة بحصافة كما أخذها الخشت، فتجاوز الوقوف عند النقاط الاستفزازية مثل : ينبغي أن تكون الكلمة مدروسة، “وربما يتأثر بك شبابنا” ما هذا؟ ولم نخشى على الشباب أن يتأثر بما يُقال؟! وكيف تجئ الكلمة غير مدروسة وصاحبها يُهدي كتابه فيها؟

أنا شخصيّاً لا أقبل أن تقال هذه الكلمة لا عن الخشت ولا عن غيره، وبخاصّة وقد قيلت على مرأى ومسمع من شهود فيهم من يفهم ومن لا يفهم، ونربأ بالإمام أن يكون قد قالها بدافع التعالي أو الاستحواذ والسيطرة .. رجل يقرأ ويُدرّس ويكتب ويؤلف في هذه الموضوعات منذ أن وعى على حياة عقلية منتجة، ليُقال له ينبغي أن تكون كلمتك مدروسة، بالإضافة إلى ما يبدو فيها ظاهراً من منطق التعالي التعليمي، كأنما يقولها لتلميذ في مدرسة أوليّة.

وليس في الأمر استطالة على الحقيقة، ولكنه بدا استدراجاً لشعور البسطاء الذين يصفقون بعد كل عبارة بما لا يليق بحوار فكري في قاعة علم، وليس في الإمام الطيّب نفسه تعالي بالحقيقة، وهو العالم العامل التقي النقي الورع، ولن نصدّق قول المجنون “نيتشه” فإنّ أكثر القديسين ورعاً وتقوى يخفي وراء ورعه وتقواه حافزاً للسيطرة، كلا ! نيتشه هذا رجل كاذب ملعون يفضح الأقنعة الزائفة، بل كان الأمر يتطلب التوفيق بين الآراء بهدوء يسحب الفرصة أمام المتعالمين من إشعال فتيل الفتنة بين طرفين كلاهما يفهم ما يقول.

وهكذا اشتعلت النار من حيث لا يُراد لها اشتعال، وهكذا تكون لغة الحوار في بلادنا جدباء غير نافعة، نحن بحاجة إلا أن نتعلم أدب الحوار وقواعد التفكير النقدي، ونجيد أدب الاختلاف، ونفوّت الفرصة على أصحاب الفتن أن يكون لهم نصيب ٌمن قدح الزناد.

ولكن هيهات ثم هيهات.

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *