Share Button

بقلم : مجدي إبراهيم

لم تأت الآفاق الفلسفية ولا المباحث المتصلة بها؛ لتكون خارجة عن سياق الوعي؛ إذ يشكل الوعي الديني عنصراً فاعلاً في الحركة الفلسفية، وهي حركة كما نعلم تحيط بملكات الإنسان المعرفية وتجوهر نشاطه العقلي والروحي كله؛ فكما يكون الدين حياة نفس مستقيمة عالمة في محيط الحياة العاملة، وكما يكون الدين في الأصل هو الجوهر الفاعل في تلك الحياة بمختلف معطياتها ووافر أبوابها ومواردها، يكون كذلك هو المُعطي لتلك الحياة نفسها ضروب الترقي الموصول بزيادة الوعي الذاتي فيها، بحيث يصبح ذلك الوعي ضرباً من ضروب الحياة السرمدية التي لا تقتصر فقط على جوانب الحياة الدنيا بل تتجاوزها إلى العالم الآخر، وكل ما يلحق بعوالم الغيب ويدور في فلكه؛ كاشفاً بذلك أصل الدين في باطن النفس الانسانية.
فوعي النفس به إنما هو وعيٌ بذاك الأصل على التحقيق.

لذلك؛ لم تكن ملكات الإنسان مقتصرة فقط على الحواس الظاهرة، ولا على العقل المحدود (العقل المنطقي)، ولكن هنالك لتحصيل المعارف العليا ملكات أعلى وأضخم تحيط به وترتفع من (العقل الغريزي) لكي تصل إلى أنوار البصيرة الكاشفة.
فالبصيرة الكاشفة – لا الحواس ولا العقل – ملكة إدراك لهذا الوعي الديني على التحقيق. وهي نفسها التي تجعل الإنسان إنساناً ممتازاً في المعرفة، وما يُقام على المعرفة من حياة عليا تتوخّاها النفوس الزكية. ومن هنا تقوم فيها فلسفة الوعي التي هى أهم وأعلى وأرقى من العقل، لأن الجوانب العقلية أيا كانت ومهما كانت محدودة في الإنسان، لا يمكن لها مخاطبة الحقيقة الإلهية أو كشفها أمام باصرة الإنسان.

بداهةً؛ إيُماننا بالوعي يُقرر : أنّه لا توجد الأشياء في عالم الأعيان مستقلةً عن ذواتنا العارفة، لأننا لو قلنا بذلك لأنكرنا القيم وعزلناها عن الحركة والفاعليّة والحياة.

رمز الفكرة الأخلاقية هو المطلق الحقيقي، والشيء في ذاته، الأمر الذي جعل من فيلسوف كبير مثل “كانط” ينادي بصدارة العقل العملي نصّاً وروحاً، فالأخلاقيّة غاية وسيلتها الإرادة الخالصة، والكون هو شرط النشاط الأخلاقي ونقطة ممارسته، وإذا وجدت عقبات في سبيل تحقيق هذا الشرط، فليست العقبة إلا فرصة مناسبة لبذل المجهود، وما الذهن إلا مرحلة تتيح له النمو والتطور والصقل مع فاعلية هذا الفعل الحر. لذلك، كان التفلسف هو إقناع المرء نفسه بأن الوجود الواقع ليس بشيء، وأن الواجب هو كل شيء.

ومعنى أن نتفلسف : أن نتبيّن بطلان العالم “الظاهراتي” مُفارقاً لماهيته المعقولة؛ وأن نرى في عالم الأعيان، لا معلولاً لعلل غريبة عن عقلنا العملي، بل نتاجاً للأنا ذات الموضوع.

فليس هناك من علم سوى علم الأنا، أو الوعي، أو الوجدان، أو إن شئت قلت : علم البصيرة الكاشفة.
والمعرفة ليست في جملتها ولا في جزء منها، نتاجاً للإحساس، بل هى كلها من صنع الأنا العارفة، ومن خلق الأنا العارفة، والتفلسف والمعرفة والعلم هى إنتاج الحقائق لا الاهتداء إلى حقائق جاهزة، ولا هي بنقل هذه الحقائق الجاهزة وتكرارها واجترارها وكفى. ومعنى هذا أن العقل لا يتقيد بقيود، وأن الفعل الحر يبقى متاحاً أمام العقل البشري بلا تحجير. والعقل هنا ليس هو العقل النظري الجامد الغليظ ولكنه العقل الغريزي المفتوح على جهة البصيرة الكاشفة.

ومن الناس من ليس لديهم إلا شعور ضئيل بالقيمة الأخلاقيّة للإنسان ومدى استقلاله؛ لأنهم ضحيّة أوهام خدّاعة وعبودية عقليّة غارقة في اللاوعي رغم أنها تدعى سلفاً فلسفة الوعي!

مثل هؤلاء لا يملكون الشخصيّة الكافيّة ولا الاستقلال اللازم كيما يكونوا فاعلين ومؤثرين؛ لأنهم فقدوا الاندماج الكلي بين العالم الخارجي والذوات العارفة، فإذا المعرفة لديهم، مع هذا الفقدان، لا تتجاوز السّطح الخارجي والقشرة البرّانيّة. هذا هو فقدان الوعي بكل تحقيق؛ فحيواتهم تنمو مع هذا الفقدان وتحقق وجودها فيه، وبالتالي تصبح ذوات عائمة علي السطح، عابثة بمعنى الحياة وصيرورة الوقائع فيها.

وما دمت فقدت الوعي أو كادت، فقد فقدت تباعاً دعوة الكمّل من بني الإنسان، دعوة أرباب الوعي الديني العميق، والوعي بلا شك أعمّ وأشمل وأكثر إحاطة من العقل المحدود؛ فكما يكون الفهم قنطرة العقلانية، تكون البصيرة الكاشفة قنطرة هذا الوعي، ولا شئ يدعو إلى الفهم والعمل والتسامح ومحبّة الآخر أكثر من الاستبصار القائم على هذا الوعي الديني في أصل عنصره الرفيع.

أمّا الرجال الواثقون بأنفسهم والذين يؤمنون بأنهم متميزون عن غيرهم من الكائنات الطبيعية الحيّة، فهم وحدهم القادرون على الفاعليّة والتأثير ..

من هذا الفعل وذاك التأثير، جاءت الصدارة للفكر الذي يختاره المفكر، أو للفلسفة التي يؤمن بها، أو بالطريقة التي يعرضها للناس على قناعة وحبور.
ومن أجل هذا؛ كان اختيار الشخص لأي ضرب من ضروب الفلسفة متوقفاً إلى حدٍ كبير على أي صنف من الرجال عساه يكون؟

معنى هذا، أن فلسفة كل إنسان تعتمد في الغالب على طبعه وميوله، أي تعتمد على قناعاته، وعلى مدى ارتباط هذه القناعات بمعارفه التي تشكلت منها، فلو سلّمنا تسليماً قطعيّاً بوجود الأشياء في عالم الأعيان مستقلة عن ذواتنا العارفة، لكان معنى ذلك إنكار الوعي الإنساني برمّته.

ولكن العكس أيضاً يكون صحيحاً، فإن اتحاد الأشياء في عالم الأعيان بذواتنا العارفة، أو على الأقل : تمثّلها لهذه الذوات يُعلي من شأن الوعي، ويبلغ به درجات غير عاديّة من الإدراك العالي لا العادي.

والحقيقة التي يتجاهلها أكثر الناس خاصّتهم قبل عامتهم، هى أن صاحب الدعوة إلى فكرة ما، كائنة ما كانت هذه الفكرة : في الدين، وفي الفلسفة، وفي الأدب، وفي القيم، وفي مسائل التقدّم أو في مسائل المصير؛ إذا هو لم يخضع حياته الشخصيّة لما يدعو إليه، جاءت دعوته من الأثر الضعيف في حياة الآخرين بحيث تصبح تلك الدعوة هباءً منثوراً .. كأن لم تكن!

وتلك هى خطورة حملة الأقلام من أصحاب الدعوات وأصحاب الرسالات في العلم والفن والدين والقيم وفي كل مهنة، وفي كل رسالة، خطورة تبقى على مدار العصور والأحقاب الزمنية المتلاحقة فضلاً عن أثرها السيئ على صاحب الدعوة نفسها .. العقيدة في ناحية والعمل في ناحية أخرى، الخطاب الأيديولوجي في كفة والممارسة الفعلية في كفة مقابلة .. هنالك هوة فاصلة بين النظر والتطبيق، الأمر الذي يقدح في الوعي عموماً فضلاً عن تسببّه في ازدواجية المعايير الخلقية.

وعليه؛ فليس من إصلاح للخطاب الديني مطلقاً وهذه الهوّة الوسيعة باقية في الناس لا تسدّ بالنظر الدائم والتحقيق الرشيد. وليس من إصلاح للعقل الدعوي وما يقال غير ما يمارس أو يطبق، ولا شئ يعطي القناعة بهذا الخطاب الديني، والدعوي منه على وجه الخصوص، غير القدوة والموافقة وضرب الأمثلة العليا في مجرى الحياة.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *