Share Button

فى طريق النور ومع رحلة التيه والمنّ والسلوى ” الجزء الثالث ”
إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الثالث مع رحلة التيه والمنّ والسلوى، ولقد عاش بنو إسرائيل على طعام المن والسلوى لمدة طويلة، ومن حين لآخر كانوا يدخلون بعض المدن ويمكثون فيها للتمتع بما فيها من طعام وشراب، ولكنهم لم يستطيعوا الصبر على طعام واحد في البراري، وإن لم يكن واحدا بل كان متنوعا، كانوا معتادين على العيش في مدن مصر عيشة مدنية، مولعين بالمشويات والمقليات وغيرها من لذائذ الطعام الذي يأكله أهل الحضر، فتبرموا من أكل الأغذية البرية، وهكذا لم يقدروا الحكمة وراء هذه المعيشة والأغذية، وبلغ بهم الضيق أن قالوا لنبى الله موسى عليه السلام لن نصبر عن طعام واحد، إذا كنت تصبر أنت عليه ولا ترى حاجة إلى استبداله، فعلى الأقل ادعُ الله لأجلنا كي يخرج لنا من الأرض أنواع الخضروات والبقول، أي يسمح لنا بالإقامة والاستقرار في مكان نستطيع فيه الزراعة وإنتاج هذه المحاصيل من غلال وبقول وخضار، فأجابهم الله تعالى أتطلبون الطعام الأقل نفعا لكم وتتخلون عن الأجود والأنسب؟ ولقد اختلف المفسرون في معنى خير وأدنى، فقال البعض أن المراد من خير، هو اللحم ومن أدنى، هو الخضار، ولكن هذا خطأ فالخضار خير واللحم أيضا خير، ولم يأمر الله تعالى في الشرع أنه إذا وُجد طعام جيد فلا تأكلوا غيره، فالنفس البشرية أحيانا تشتهي العدس مع تيسر لحم طير، وليس في هذا ما يثير سخط الله، وإن الحق أن في كلمتي خير، وأدنى هى مقارنة بين ما كانوا يجدونه في البرية من أغذية بدون جهد وتعب، وبين ما يحصل عليه أهل المدن بعد سعي ومشقة.

ولقد تركهم الله تعالى في هذه البرية لكي يزيل عنهم أثر العبودية ويطهرهم من المعاصي وسيء العادات التي ترسخت في نفوسهم بصحبة المصريين، ولكي لا تثور فيهم نزعات الشرك نتيجة مخالطتهم بالأمم الأخرى أراد الله تعالى لهم أن يظلوا في صحبة نبى الله موسى عليه السلام باستمرار ليرسخ فيهم عقيدة التوحيد، وقد وفر الله لهم كل ما يتيسر في البادية من أطعمة، أما الخضروات والأطعمة الشهية فلا تتيسر إلا في المدن والقرى، وأما عن قوله تعالى كما جاء فى سورة البقرة ” وضربت عليهم الذلة والمسكنة”لأنهم فضلوا الزراعة على عيش يؤهلهم للحكم والسلطان في الأرض المقدسة التي وُعدوا بها، فألزمهم الله الذل والهوان، ومن عجيب قدرة الله تعالى أن بني إسرائيل وإن كانوا قد نالوا الملك بحسب البشارات الإلهية إلا أن إخلافهم المتكرر لعهودهم مع الله تعالى صار وبالا عليهم حتى حُرموا من الملك فيما بعد لأكثر من عشرين قرنا ولم يبق لهم إلا أعمال التجارة والزراعة، ويقول الله تعالى كما جاء فى سورة البقرة ” وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون” وإن المراد من قوله تعالى ” أخذنا ميثاقكم ” وهى الوصايا العشر وما نزل معها من تعاليم أخرى على نبى الله موسى عليه السلام عند جبل سيناء، وتقول الآية لبني إسرائيل تذكروا تلك الوصايا التي أوتيتموها وأنت واقفون عن سفح الجبل، والتي أعرضتم عن سماعها قائلين لا نريد سماعها حتى لا نهلك، وفي قوله تعالى “ميثاقكم” أضيف الميثاق إلى بني إسرائيل.

لأنه كان ذا شهرة وأهمية كبيرة لديهم، لقد وضع فيه الأساس لعلاقات كان ستنشأ بين الله تعالى وبينهم، وفي نفس الميثاق وبسبب معاصيهم المتكررة، قدّر الله تعالى أن النبي الموعود صاحب الشرع الجديد لن يظهر في بني إسحاق، بل سيظهر في بني إسماعيل، وكأن إضافة الميثاق إليهم تذكرة لنبي إسرائيل بأهمية هذا العهد، ولا يعني هذا أنه لم يكن لنبي إسرائيل عهود أخرى مع الله تعالى، وقوله تعالى ” ورفعنا فوقكم الطور” وهو أن الطور في العبرانية يعني الجبل أيا كان، ومن معاني الطور في العربية أيضا الجبل، ولكن العرب عندما سمعوا من اليهود أن الله تعالى تكلم مع نبيه موسى عليه السلام على الطور أي الجبل، ظنوا أن الطور بالعبرانية يعني ذلك الجبل الخاص في سيناء، فسموه جبل الطور، واستخدم القرآن الكريم كلمة الطور بمعنى الجبل فقط، وقال الله تعالى كما جاء فى سورة المؤمنون ” وشجرة تخرج من طور سيناء” وقال تعالى كما جاء فى سورة التين ” والتين والزيتون وطور سنين” ولقد انخدع البعض من قوله تعالى ” ورفعنا فوقكم الطور” وظنوا أن الله تعالى رفع الجبل وجعله كالمظلة فوق رؤوس بني إسرائيل، وقد استغل هذا الخطأ من بعض المفسرين وطعن به في الإسلام وقال لقد أخطأ اليهود في فهم عبارة واردة في التوراة ونقل القرآن عنهم هذا الخطأ، ولقد انخدع المفسرون بكلمتي رفع و فوق، مع أنهما تدلان أيضا على مجرد الارتفاع، ولقد جاء في حديث الهجرة النبوية أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قال بصدد اشتداد الحر وقت الظهيرة.

” فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس” رواه البخارى، وهو يعني رأينا في صخرة مرتفعة قريبا منا لها ظل فأوينا إليها، ولقد ورد في القرآن الكريم كما جاء فى سورة الأحزاب ” إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفا منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديد ” أي أنهم جاءوكم من الناحتين المرتفعة والمنخفضة من الأرض، فالمعنى الصحيح للآية هو أن اليهود كانوا واقفين بالقرب من الطور عندما أعطاهم الله تعالى بعض الوصايا وأخذ منهم العهد للعمل بها، وقد نسب رفع الطور إلى الله تعالى في قوله “ورفعنا فوقكم الطور” لأنه هو الذي أوصاهم بالمكث أسفل الجبل كما هو وارد أيضا في التوراة، واستخدام كلمة رفعنا و فوق، إشارة إلى أن ميثاق الطور هذا له صفة الدوام، إذ أن هذا العهد قد أخذ عند الطور وليس هذا فحسب، وإنما يشير أيضا بطريق المجاز اللطيف إلى أن الطور سيبقى دائما محلقا فوق رؤوسهم يذكرهم بهذا العهد، وليس العهد ليوم أو يومين، وإنما له ارتباط دائم بالحياة القومية لبني إسرائيل، وقال الطبرى رحمه الله في تفسيره قوله تعالى ” وظللنا عليكم الغمام” فهو عطف على قوله تعالى “ثم بعثناكم من بعد موتكم” فتأويل الآية ثم بعثناكم من بعد موتكم، وظللنا عليكم الغمام، وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم، لعلكم تشكرون، والغمام هو جمع غمامة، كما السحاب جمع سحابة، والغمام هو ما غم السماء فألبسها من سحاب وقتام، وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين.

وكل مغطى فالعرب تسميه مغموما، وقال ابن العثيمين رحمه الله في تفسيره أي جعلناه ظلا عليكم وكان ذلك في التيه حين تاهوا وقد بقوا في التيه بين مصر والشام أربعين سنة يتيهون في الأرض وما كان عندهم ماء، ولا مأوى ولكن الله تعالى رحمهم، فظلل عليه الغمام والغمام هو السحاب الرقيق الأبيض، وقيل هو السحاب مطلقا وقيل هو السحاب البارد الذي يكون به الجو باردا، ويتولد منه رطوبة، فيبرد الجو، وقيل هذا هو الظاهر، وأما قوله تعالى ” وأنزلنا عليكم المن والسلوى” فقال السعدي رحمه الله في تفسيره، هو اسم جامع لكل رزق حسن يحصل بلا تعب، ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك، وأما عن السلوى، فهو طائر صغير يقال له السمانى، طيب اللحم، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم، وأما عن قوله تعالى ” كلوا من طيبات ما رزقناكم” فقال ابن العثيمين في تفسيرها، قوله تعالى ” كلوا ” وهو أن الأمر هنا للإباحة يعني أننا أبحنا لكم هذا الذي أنزلنا عليكم من المن، والسلوى، ومعنى ” من طيبات ما رزقناكم” فإن ” من ” هنا لبيان الجنس، وليست للتبعيض، لأنهم أبيح لهم أن يأكلوا جميع الطيبات، وقوله تعالى ” وما ظلمونا ” أي ما نقصونا شيئا، لأن الله تعالى لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة الطائعين، وأما عن قوله تعالى “ولكن كانوا أنفسهم يظلمون” فمعنى أنفسهم هو مفعول مقدم ليظلمون، وقدّم لإفادة الحصر، أي لا يظلمون بهذا إلا أنفسهم، أما الله سبحانه وتعالى، فإنهم لا يظلمونه، لأنه سبحانه وبحمده لا يتضرر بمعصيتهم، كما لا ينتفع بطاعتهم.

وأما عن قوله تعالى ” وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون” وقال البغوى رحمه الله، ما نصه ” أي وما بخسوا بحقنا، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون باستيجابهم عذابي، وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة في الدنيا ولا حساب في العقبى، وهذه هي قصة التيه الذي حصل لبني إسرائيل، والذي استمر أربعين سنة يتيهون في الأرض، ولقد جرب نبى الله موسى عليه السلام قومه في مواطن كثيرة، وفي كل مرة ينعم الله عليهم من آلائه، يتنكب أولئك القوم، عجيب أمر اليهود، فقد جربهم نبى الله موسى عليه السلام عندما خرجوا من أرض مصر، فلحقهم فرعون وجنوده، فأغرقهم الله عز وجل وتعالى، فإذا هم يمرون على قوم يعكفون على أصنام لهم، فيقولون كما جاء فى سورة الأعراف ” يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم إلهة” وما يكاد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه، حتى يتخذ السامري من الذهب عجلا جسدا له خوار، ثم إذا هم عاكفون عليه يقولون، إنه إله موسى الذي ذهب لميقاته، وقد جربهم نبى الله موسى عليه السلام، وقد فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء، وأنزل عليهم المن والسلوى طعاما سائغا، فإذا هم يشتهون ما اعتادوا من أطعمة مصر أرض الذل بالنسبة لهم، فيطلبون بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها، وقد جربهم في قصة البقرة التي أمروا بذبحها، فتلكأوا وتسكعوا في الطاعة، والتنفيذ فكما جاء فى سورة البقرة ” فذبحوها وما كادوا يفعلون” ولقد جربهم نبى الله موسى عليه السلام عندما عاد من ميقات ربه، ومعه الألواح، وفيها ميثاق الله عليهم وعهده.

فأبوا أن يعطوا الميثاق، وأن يمضوا العهد مع ربهم، ولم يعطوا الميثاق حتى وجدوا الجبل منتوقا فوق رؤوسهم، كما قال الله تعالى فى سورة الأعراف ” وظنوا أنه واقع بهم ” ولقد جربهم نبى الله موسى عليه السلام في مواطن كثيرة، لكن هذا شأن اليهود، ثم ها هو معهم في هذه القصة، قصة التيه كما جاء فى سورة المائدة ” وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم” وذلك بنجاتهم من فرعون وقومه فخرجوا قاصدين أوطانهم ومساكنهم، وهي بيت المقدس، وقاربوا وصول بيت المقدس فحصل لهم التيه في الصحراء أربعين سنة، وكان سببه هو أن الله سبحانه وتعالى، قد فرض عليهم جهاد عدوهم، ليخرجوه من ديارهم، فوعظهم نبى الله موسى عليه السلام، وذكرهم ليثبتوا على الجهاد، فقال تعالى كما جاء فى سورة المائدة ” يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين” لكن اليهود هم اليهود، صفاتهم هي هي الجبن، والتمصل، والنكوص على الأعقاب، ونقض الميثاق فقالوا لنبى الله موسى عليه السلام كما جاء فى سورة المائدة ” قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون” وهنا تبدوا جبلة اليهود على حقيقتها، وهى الخوف والجبن وضعف الرجولة، وهذا لا يناقض ما هم عليه في هذا الزمان من القوة والتسلط، وكان السبب في ذلك هو أن الذين أمامهم أجبن منهم، وأخوف منهم، وأقل رجولة منهم، وإلا لو واجهوا أشداء، وواجهوا رجالا، لانكشف حقيقتهم.

طريق النور ومع رحلة التيه والمنّ والسلوى ” الجزء الثالث ”
إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الثالث مع رحلة التيه والمنّ والسلوى، ولقد عاش بنو إسرائيل على طعام المن والسلوى لمدة طويلة، ومن حين لآخر كانوا يدخلون بعض المدن ويمكثون فيها للتمتع بما فيها من طعام وشراب، ولكنهم لم يستطيعوا الصبر على طعام واحد في البراري، وإن لم يكن واحدا بل كان متنوعا، كانوا معتادين على العيش في مدن مصر عيشة مدنية، مولعين بالمشويات والمقليات وغيرها من لذائذ الطعام الذي يأكله أهل الحضر، فتبرموا من أكل الأغذية البرية، وهكذا لم يقدروا الحكمة وراء هذه المعيشة والأغذية، وبلغ بهم الضيق أن قالوا لنبى الله موسى عليه السلام لن نصبر عن طعام واحد، إذا كنت تصبر أنت عليه ولا ترى حاجة إلى استبداله، فعلى الأقل ادعُ الله لأجلنا كي يخرج لنا من الأرض أنواع الخضروات والبقول، أي يسمح لنا بالإقامة والاستقرار في مكان نستطيع فيه الزراعة وإنتاج هذه المحاصيل من غلال وبقول وخضار، فأجابهم الله تعالى أتطلبون الطعام الأقل نفعا لكم وتتخلون عن الأجود والأنسب؟ ولقد اختلف المفسرون في معنى خير وأدنى، فقال البعض أن المراد من خير، هو اللحم ومن أدنى، هو الخضار، ولكن هذا خطأ فالخضار خير واللحم أيضا خير، ولم يأمر الله تعالى في الشرع أنه إذا وُجد طعام جيد فلا تأكلوا غيره، فالنفس البشرية أحيانا تشتهي العدس مع تيسر لحم طير، وليس في هذا ما يثير سخط الله، وإن الحق أن في كلمتي خير، وأدنى هى مقارنة بين ما كانوا يجدونه في البرية من أغذية بدون جهد وتعب، وبين ما يحصل عليه أهل المدن بعد سعي ومشقة.

ولقد تركهم الله تعالى في هذه البرية لكي يزيل عنهم أثر العبودية ويطهرهم من المعاصي وسيء العادات التي ترسخت في نفوسهم بصحبة المصريين، ولكي لا تثور فيهم نزعات الشرك نتيجة مخالطتهم بالأمم الأخرى أراد الله تعالى لهم أن يظلوا في صحبة نبى الله موسى عليه السلام باستمرار ليرسخ فيهم عقيدة التوحيد، وقد وفر الله لهم كل ما يتيسر في البادية من أطعمة، أما الخضروات والأطعمة الشهية فلا تتيسر إلا في المدن والقرى، وأما عن قوله تعالى كما جاء فى سورة البقرة ” وضربت عليهم الذلة والمسكنة”لأنهم فضلوا الزراعة على عيش يؤهلهم للحكم والسلطان في الأرض المقدسة التي وُعدوا بها، فألزمهم الله الذل والهوان، ومن عجيب قدرة الله تعالى أن بني إسرائيل وإن كانوا قد نالوا الملك بحسب البشارات الإلهية إلا أن إخلافهم المتكرر لعهودهم مع الله تعالى صار وبالا عليهم حتى حُرموا من الملك فيما بعد لأكثر من عشرين قرنا ولم يبق لهم إلا أعمال التجارة والزراعة، ويقول الله تعالى كما جاء فى سورة البقرة ” وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون” وإن المراد من قوله تعالى ” أخذنا ميثاقكم ” وهى الوصايا العشر وما نزل معها من تعاليم أخرى على نبى الله موسى عليه السلام عند جبل سيناء، وتقول الآية لبني إسرائيل تذكروا تلك الوصايا التي أوتيتموها وأنت واقفون عن سفح الجبل، والتي أعرضتم عن سماعها قائلين لا نريد سماعها حتى لا نهلك، وفي قوله تعالى “ميثاقكم” أضيف الميثاق إلى بني إسرائيل.

لأنه كان ذا شهرة وأهمية كبيرة لديهم، لقد وضع فيه الأساس لعلاقات كان ستنشأ بين الله تعالى وبينهم، وفي نفس الميثاق وبسبب معاصيهم المتكررة، قدّر الله تعالى أن النبي الموعود صاحب الشرع الجديد لن يظهر في بني إسحاق، بل سيظهر في بني إسماعيل، وكأن إضافة الميثاق إليهم تذكرة لنبي إسرائيل بأهمية هذا العهد، ولا يعني هذا أنه لم يكن لنبي إسرائيل عهود أخرى مع الله تعالى، وقوله تعالى ” ورفعنا فوقكم الطور” وهو أن الطور في العبرانية يعني الجبل أيا كان، ومن معاني الطور في العربية أيضا الجبل، ولكن العرب عندما سمعوا من اليهود أن الله تعالى تكلم مع نبيه موسى عليه السلام على الطور أي الجبل، ظنوا أن الطور بالعبرانية يعني ذلك الجبل الخاص في سيناء، فسموه جبل الطور، واستخدم القرآن الكريم كلمة الطور بمعنى الجبل فقط، وقال الله تعالى كما جاء فى سورة المؤمنون ” وشجرة تخرج من طور سيناء” وقال تعالى كما جاء فى سورة التين ” والتين والزيتون وطور سنين” ولقد انخدع البعض من قوله تعالى ” ورفعنا فوقكم الطور” وظنوا أن الله تعالى رفع الجبل وجعله كالمظلة فوق رؤوس بني إسرائيل، وقد استغل هذا الخطأ من بعض المفسرين وطعن به في الإسلام وقال لقد أخطأ اليهود في فهم عبارة واردة في التوراة ونقل القرآن عنهم هذا الخطأ، ولقد انخدع المفسرون بكلمتي رفع و فوق، مع أنهما تدلان أيضا على مجرد الارتفاع، ولقد جاء في حديث الهجرة النبوية أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قال بصدد اشتداد الحر وقت الظهيرة.

” فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس” رواه البخارى، وهو يعني رأينا في صخرة مرتفعة قريبا منا لها ظل فأوينا إليها، ولقد ورد في القرآن الكريم كما جاء فى سورة الأحزاب ” إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفا منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديد ” أي أنهم جاءوكم من الناحتين المرتفعة والمنخفضة من الأرض، فالمعنى الصحيح للآية هو أن اليهود كانوا واقفين بالقرب من الطور عندما أعطاهم الله تعالى بعض الوصايا وأخذ منهم العهد للعمل بها، وقد نسب رفع الطور إلى الله تعالى في قوله “ورفعنا فوقكم الطور” لأنه هو الذي أوصاهم بالمكث أسفل الجبل كما هو وارد أيضا في التوراة، واستخدام كلمة رفعنا و فوق، إشارة إلى أن ميثاق الطور هذا له صفة الدوام، إذ أن هذا العهد قد أخذ عند الطور وليس هذا فحسب، وإنما يشير أيضا بطريق المجاز اللطيف إلى أن الطور سيبقى دائما محلقا فوق رؤوسهم يذكرهم بهذا العهد، وليس العهد ليوم أو يومين، وإنما له ارتباط دائم بالحياة القومية لبني إسرائيل، وقال الطبرى رحمه الله في تفسيره قوله تعالى ” وظللنا عليكم الغمام” فهو عطف على قوله تعالى “ثم بعثناكم من بعد موتكم” فتأويل الآية ثم بعثناكم من بعد موتكم، وظللنا عليكم الغمام، وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم، لعلكم تشكرون، والغمام هو جمع غمامة، كما السحاب جمع سحابة، والغمام هو ما غم السماء فألبسها من سحاب وقتام، وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين.

وكل مغطى فالعرب تسميه مغموما، وقال ابن العثيمين رحمه الله في تفسيره أي جعلناه ظلا عليكم وكان ذلك في التيه حين تاهوا وقد بقوا في التيه بين مصر والشام أربعين سنة يتيهون في الأرض وما كان عندهم ماء، ولا مأوى ولكن الله تعالى رحمهم، فظلل عليه الغمام والغمام هو السحاب الرقيق الأبيض، وقيل هو السحاب مطلقا وقيل هو السحاب البارد الذي يكون به الجو باردا، ويتولد منه رطوبة، فيبرد الجو، وقيل هذا هو الظاهر، وأما قوله تعالى ” وأنزلنا عليكم المن والسلوى” فقال السعدي رحمه الله في تفسيره، هو اسم جامع لكل رزق حسن يحصل بلا تعب، ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك، وأما عن السلوى، فهو طائر صغير يقال له السمانى، طيب اللحم، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم، وأما عن قوله تعالى ” كلوا من طيبات ما رزقناكم” فقال ابن العثيمين في تفسيرها، قوله تعالى ” كلوا ” وهو أن الأمر هنا للإباحة يعني أننا أبحنا لكم هذا الذي أنزلنا عليكم من المن، والسلوى، ومعنى ” من طيبات ما رزقناكم” فإن ” من ” هنا لبيان الجنس، وليست للتبعيض، لأنهم أبيح لهم أن يأكلوا جميع الطيبات، وقوله تعالى ” وما ظلمونا ” أي ما نقصونا شيئا، لأن الله تعالى لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة الطائعين، وأما عن قوله تعالى “ولكن كانوا أنفسهم يظلمون” فمعنى أنفسهم هو مفعول مقدم ليظلمون، وقدّم لإفادة الحصر، أي لا يظلمون بهذا إلا أنفسهم، أما الله سبحانه وتعالى، فإنهم لا يظلمونه، لأنه سبحانه وبحمده لا يتضرر بمعصيتهم، كما لا ينتفع بطاعتهم.

وأما عن قوله تعالى ” وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون” وقال البغوى رحمه الله، ما نصه ” أي وما بخسوا بحقنا، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون باستيجابهم عذابي، وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة في الدنيا ولا حساب في العقبى، وهذه هي قصة التيه الذي حصل لبني إسرائيل، والذي استمر أربعين سنة يتيهون في الأرض، ولقد جرب نبى الله موسى عليه السلام قومه في مواطن كثيرة، وفي كل مرة ينعم الله عليهم من آلائه، يتنكب أولئك القوم، عجيب أمر اليهود، فقد جربهم نبى الله موسى عليه السلام عندما خرجوا من أرض مصر، فلحقهم فرعون وجنوده، فأغرقهم الله عز وجل وتعالى، فإذا هم يمرون على قوم يعكفون على أصنام لهم، فيقولون كما جاء فى سورة الأعراف ” يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم إلهة” وما يكاد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه، حتى يتخذ السامري من الذهب عجلا جسدا له خوار، ثم إذا هم عاكفون عليه يقولون، إنه إله موسى الذي ذهب لميقاته، وقد جربهم نبى الله موسى عليه السلام، وقد فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء، وأنزل عليهم المن والسلوى طعاما سائغا، فإذا هم يشتهون ما اعتادوا من أطعمة مصر أرض الذل بالنسبة لهم، فيطلبون بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها، وقد جربهم في قصة البقرة التي أمروا بذبحها، فتلكأوا وتسكعوا في الطاعة، والتنفيذ فكما جاء فى سورة البقرة ” فذبحوها وما كادوا يفعلون” ولقد جربهم نبى الله موسى عليه السلام عندما عاد من ميقات ربه، ومعه الألواح، وفيها ميثاق الله عليهم وعهده.

  • فأبوا أن يعطوا الميثاق، وأن يمضوا العهد مع ربهم، ولم يعطوا الميثاق حتى وجدوا الجبل منتوقا فوق رؤوسهم، كما قال الله تعالى فى سورة الأعراف ” وظنوا أنه واقع بهم ” ولقد جربهم نبى الله موسى عليه السلام في مواطن كثيرة، لكن هذا شأن اليهود، ثم ها هو معهم في هذه القصة، قصة التيه كما جاء فى سورة المائدة ” وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم” وذلك بنجاتهم من فرعون وقومه فخرجوا قاصدين أوطانهم ومساكنهم، وهي بيت المقدس، وقاربوا وصول بيت المقدس فحصل لهم التيه في الصحراء أربعين سنة، وكان سببه هو أن الله سبحانه وتعالى، قد فرض عليهم جهاد عدوهم، ليخرجوه من ديارهم، فوعظهم نبى الله موسى عليه السلام، وذكرهم ليثبتوا على الجهاد، فقال تعالى كما جاء فى سورة المائدة ” يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين” لكن اليهود هم اليهود، صفاتهم هي هي الجبن، والتمصل، والنكوص على الأعقاب، ونقض الميثاق فقالوا لنبى الله موسى عليه السلام كما جاء فى سورة المائدة ” قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون” وهنا تبدوا جبلة اليهود على حقيقتها، وهى الخوف والجبن وضعف الرجولة، وهذا لا يناقض ما هم عليه في هذا الزمان من القوة والتسلط، وكان السبب في ذلك هو أن الذين أمامهم أجبن منهم، وأخوف منهم، وأقل رجولة منهم، وإلا لو واجهوا أشداء، وواجهوا رجالا، لانكشف حقيقتهم.
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *