Share Button

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

هو عكرمة بن أبي جهل بن هشام بن المغيرة، واسم أبي جهل عمرو، وكنيته أبو الحكم، وإنما رسول الله والمسلمون كنوه أبا جهل، فبقي عليه ونُسي اسمه وكنيته ، وقد كان عكرمة مثل أبيه شديد العداوة للإسلام، ومن ثَم نجده مع أبيه يوم بدر، وخرج يوم أُحد ليثأر لقتل أبيه، وغيرها من المشاهد مع المشركين.

وفي الكلام حول الصحابي عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه لابدّ من الوقوف على قصة إسلامه وأخذ الدروس والعبر منها ، فقد كان عكرمة بن أبي جهل من أشدّ الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد شرب هذه العداوة من أبيه فرعون هذه الأمة ، مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في فتح مكة ، في السنة الثامنة من الهجرة اتجه المسلمون إلى مكة فاتحين وكان النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ،يعفو ويؤمّن الناس جميعا إلا أربعة ، بل ويأمر بقتلهم وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة .

فعن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنهما قال ” لما كان يوم فتح مكة أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وسماهم ” وكان منهم عكرمة بن أبي جهل ، فهرب وذهب إلى البحر ليأخذ سفينة وينطلق بها إلى اليمن ، إلا أن الله عز وجل شاء له الهداية فأسلم .

ويقول سعد : وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة : أخلصوا فان آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا ، فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ، ما ينجيني في البر غيره ، اللهم إن لك عليَّ عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه آتي محمدا فأضع يدي في يده ، فلأجدنه عفوا كريما ، قال : فجاء فأسلم ” رواه أبو داود.

وقالت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل : يا رسول الله ، قد هرب عكرمة منك إلى اليمن ، وخاف أن تقتله فأمنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” هو آمن ” فخرجت أم حكيم في طلبه ومعها غلام لها رومي ، فراودها عن نفسها ، فجعلت تمنيه حتى قدمت على حي من عك ، فاستغاثتهم عليه فأوثقوه رباطا .

وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة فركب البحر ، فجعل نوتي (ملاح) السفينة يقول له : أخلص ، فقال : أي شيء أقول ؟ ، قال: قل لا إله إلا الله ، قال عكرمة : ما هربت إلا من هذا ، فجاءت أم حكيم على هذا الكلام ، فجعلت تلح عليه وتقول : يا ابن عم ، جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس ، لا تهلك نفسك .

فوقف لها حتى أدركته فقالت : إني قد استأمنت لك محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: أنت فعلت ؟ ، قالت: نعم ، أنا كلمته فأمنك فرجع معها ، وقال : ما لقيت من غلامك الرومي ؟ ، فخبرته خبره فقتله عكرمة ، وهو يومئذ لم يسلم .

ويكمل عبد الله بن الزبير القصة فيقول : ” وجعل عكرمة يطلب امرأته يجامعها ، فتأبى عليه وتقول : إنك كافر وأنا مسلمة ، فيقول : إن أمرا منعك مني لأمر كبير ، فلما رأى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، عكرمة وثب إليه ، وما على النبي صلى الله عليه وسلم رداء ، فرحا بعكرمة .

ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف بين يديه ، وزوجته منتقبة ، فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” صدقت ، فأنت آمن ” ، فقال عكرمة : فإلى ما تدعو يا محمد ؟

قال : ” أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتفعل ، وتفعل ، حتى عَدَّ خصال الإسلام ” ، فقال عكرمة : والله ما دعوتَ إلا إلى الحق وأمرٍ حسن جميل ، قد كنتَ والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا برا .

ثم قال عكرمة : فإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : يا رسول الله علمني خير شيء أقوله ، قال ” تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله ” قال عكرمة : ثم ماذا ؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” تقول أُشْهِد الله وأشهد من حضر أني مسلم مهاجر ومجاهد ” فقال عكرمة ذلك ، فقال رسول الله ” لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتكه ” فقال عكرمة : فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها ، أو مسير وضعت فيه ، أو مقام لقيتك فيه ، أو كلام قلته في وجهك أو وأنت غائب عنه .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها ، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك ، فاغفر له ما نال مني من عرض في وجهي أو أنا غائب عنه ”

فقال عكرمة : رضيت يا رسول الله ، لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدٍ عن سبيل الله إلا أنفقتُ ضعفها في سبيل الله ، ولا قتالا كنت أقاتل في صد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله ، ثم اجتهد في القتال حتى قتِل شهيدا (أي في يوم اليرموك) وبعد أن أسلم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، امرأته له بذلك النكاح الأول .

ومنذ إسلامه ، حاول أن يعوض ما فاته من الخير، فقد أتى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وقال: “يا رسول الله، والله لا أترك مقامًا قمتُهُ لأصدَّ به عن سبيل الله إلا قمتُ مثله في سبيله، ولا أترك نفقةً أنفقتها لأصد بها عن سبيل الله إلا أنفقت مثلها في سبيل الله”.

وظهرت ملامح بطولته وسماته القيادية في حروب الردة، فقد استعمله أبو بكر الصديق رضى الله عنه على جيش وسيَّره إلى أهل عُمان وكانوا ارتدُّوا فظهر عليهم ، ثم وجّهه أبو بكر الصديق رضى الله عنهم ، أيضًا إلى اليمن، فلما فرغ من قتال أهل الرِّدَّة سار إلى الشام مجاهدًا أيام أبي بكر الصديق مع جيوش المسلمين .

فلما عسكروا بالجرف على ميلين من المدينة، خرج أبو بكر الصديق يطوف في معسكرهم، فبصر بخباء عظيم حوله ثمانية أفراس ورماح وعدة ظاهرة، فانتهى إليه فإذا بخباء عكرمة، فسلم عليه أبو بكر وجزاه خيرًا، وعرض عليه المعونة، فقال: “لا حاجة لي فيها، معي ألفا دينار”. فدعا له بخير، فسار إلى الشام واستشهد .

ويقال انهم جرحوا يوم اليرموك، فدعا الحارث بن هشام بماء ليشربه، فنظر إليه عكرمة ، فقال الحارث ، ادفعوه إلى عكرمة ، فلما أخذه عكرمة ، نظر إليه عياش ، فقال عكرمة: ادفعوه إلى عياش ، فما وصل إلى عياش ولا إلى أحد منهم حتى ماتوا جميعًا وما ذاقوه.

حينما قدم عكرمة ليعلن إسلامه وثب النبي إليه دون رداء مستقبلاً له ، فرحًا بقدومه، وقال له: “مرحبًا بالراكب المهاجر” ولعل الحبيب عانقه، فأزال ما على قلبه من ركام الجاهلية ، ولا شك أن لهذه المواقف العظيمة وغيرها من رسول الله أعظمَ الأثر في نفس هذا الصحابي العظيم.

وفي الكلام حول الصحابي الجليل عكرمة بن أبي جهل فيحسُن حينئذ بيان موقف المسلم حول ما جرى من أحداث حول الفتنة، فأهل السنَّة يعتقدون أنّ الواجب السكوت وعدم الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم، وذلك بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه .

ويُقرّون أنّ فتنة الجمَل قد جرت من غير اختيار من علي بن أبي طالب، ولا من الزبير بن العوام، ولا من طلحة بن عبيدالله رضي الله عنهم، وأن عائشةَ رضي الله عنها خرجت للإصلاح بين المسلمين، ويعتقدون أنّهم جميعًا مِن الذين بشَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة .

فتحول قلب عكرمة بن أبي جهل من قلب رجلٍ مبغض حقود للإسلام والمسلمين إلى قلب رجلٍ لا يحب في الدنيا أكثر من هذا الدين الذي لطالما حاربه، فقرر عكرمة أن يتحول إلى جندي ينشر هذا الدين الذي لطالما حاربه، فلم يترك عكرمة بن أبي جهل بعد إسلامه غزوة مع رسول اللَّه إلا وشارك فيها، وفي عهد أبي بكر أصبح عكرمة قائدًا لجيش من جيوش الإسلام العظيمة التي حاربت الردة، قبل أن يتحول إلى قائد عظيم من قادة المسلمين في بلاد الشام.

وفي قصة إسلام عكرمة رضي الله عنه بيان لحكمة النبي صلى الله عليه وسلم ،وسمو خلقه ، ورحمته وسماحته ، فرغم أن عكرمة كان أحد الذين عادوا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وآذوه إيذاء شديدا ، فقد كان لعفوه وسماحته صلى الله عليه وسلم ، وكلماته وترحيبه في استقباله ومعانقته عند قدومه الأثر الكبير في إزالة ما على قلبه من ركام الجاهلية .

وكان كافيا لتغيير حياته ، واجتذابه إلى الإسلام ، ومن ثم تأثر عكرمة رضي الله عنه بموقف النبي صلى الله عليه وسلم ، فاهتزت مشاعره ، وتحركت أحاسيسه ، ودخل نور الهداية قلبه فأسلم ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم “قد كنت والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا برا .

فأي حكمة وأخلاق كريمة كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصدق الله سبحانه وتعالى حيث يقول عن نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ويقول (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) .

ثم جاءت المعركة التي خلدت اسمه في حروف من نور، هناك في وادي اليرموك عندما أوشك نصف مليون من الروم على تدمير جيش المسلمين بعد أن قاموا بمحاصرتهم من كل جانب، تناول هذا البطل الإسلامي الفذ سيفه وكسر غمده واتخذ القرار الأصعب على الإطلاق في حياة أي إنسان .

لقد اتخذ عكرمة قرار الموت، فنادى بالمسلمين بصوت يشبه هزيم الرعد: أيها المسلمون من يبايع على الموت؟ فتقدم إليه 400 فدائي من فدائي الإسلام، ليكوَّنوا ما عرف في التاريخ باسم “كتيبة الموت الإسلامية”

وعندها اتجه خالد بن الوليد نحو عكرمة وحاول منعه من التضحية بنفسه، فنظر إليه عكرمة والنور يشرق من جبينه وقال: إليك عني يا خالد فلقد كان لك مع رسول اللَّه سابقة أما أنا وأبي فقد كنا من أشد الناس على رسول اللَّه فدعني أكَفّر عما سلف مني، ولقد قاتلت رسول اللَّه في مواطن كثيرة وأفر من الروم اليوم؟ إن هذا لن يكون أبدًا .

فانطلقت كتيبة الموت الإسلامية، وتفاجأ الروم بأسود جارحة تنقض عليهم لتدكدك جماجمهم، وتقدم الفدائي تلو الفدائي من وحدة الموت العكرمية نحو مئات الآلاف من جيش الإمبراطورية الرومانية، وتقدم عكرمة بن أبي جهل بنفسه إلى قلب الجيش الروماني ليكسر الحصار عن جيش المسلمين .

واستطاع فعلًا إحداث ثغرة في جيش العدو بعد أن انقض على صفوفهم انقضاض طالب الموت، فأمر قائد الروم أن تصوب كل السهام نحو هذا الفدائي، فسقط فرس عكرمة من كثرة السهام التي انغرست فيه .

فوثب قائد كتيبة الموت الإسلامية الفدائي البطل عكرمة بن أبي جهل من على ظهر فرسه وتقدم وحده نحو عشرات الآلاف من الروم يقاتلهم بسيفه، عندها صوب الروم سهامهم إلى قلبه، فلمّا رأى المسلمون ذلك المنظر الإنساني البطولي، اختلطت المشاعر في صدورهم .

فاندفع فدائيو كتيبة الموت العكرمية نحو قائدهم لكي يموتوا في سبيل اللَّه كما بايعوه، فلم يصدق الروم أعينهم وهم يرون أولئك المجاهدين الأربعمائة يتقدمون للموت المحقق بأرجلهم ، وألقى اللَّه في قلوب الذين كفروا الرعب، فرجع الروم القهقرة، ولاذوا بالفرار وصيحات اللَّه أكبر تطاردهم من أفواه فدائيي عكرمة .

فاستطاعت تلك الوحدة الاستشهادية كسر الحصار عن جيش المسلمين، ففتش خالد بن الوليد على ابن عمه عكرمة ليجده وهو ملقى بين اثنين من جنود كتيبته الفدائية: (الحارث ابن هشام) و (عياش بن أبي ربيعة) والدماء تسيل منهم جميعًا ،وتوُفِّي عكرمه في معركة اليرموك، فوُجد به بضع وسبعون ما بين طعنة وضربة ورمية.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *