Share Button

كتب الدكتور كمال الحجام

 

يشهد العالم منذ سنتين تقريبا تفشي جائحة عالمية لم يعرفها تاريخ البشرية سابقا، ولئن كانت هذه الجائحة في ظاهرها صحّيّة، فهي دون أدنى شكّ أن تداعياتها المختلفة كانت اجتماعية واقتصادية وثقافية بامتياز. وقد خلّفت تبعا لذلك آثارا عميقة على جميع المجالات المتصلة مباشرة بجوانب الحياة للمواطنين، ولا سيما مجال الصّحّة والتّعليم والسّياحة والثّقافة والاقتصاد والضّمان الاجتماعي.
ونتيجة لهذه الأزمة العالمية متعدّدة الجوانب، وجدت جلّ المجتمعات الإنسانية نفسها اليوم مضطرّة إلى مراجعة الطّريقة التي تنظر بها إلى اقتصاداتها وثقافاتها، زكان لزاما عليها أن تفكّر في كيفيّة تجاوز ما لحق بها من ضرر وأن تبني أنظمة اجتماعيّة أفضل، ولنا في هذا الباب أن نبيّن أنّ أزمة كوفيد 19 قد أثّرت بشكل استثنائي على المجال التّربوي حيث وجد ما لا يقلّ عن 1.6 مليار من الأطفال والشّباب أنفسهم خارج أسوار الدّراسة حيث أغلقت بطرق مختلفة ما لا يقلّ عن 188 دولة مؤسساتها التّربوية.
..وبناء على ذلك، فإنّ السّياسات التي تتّخذها جلّ الحكومات اليوم في العالم ستكون حاسمة في بناء مستقبل أجيالها. وفي هذا المجال نسعى من خلال هذه الموازنة الفكريّة أن نميط اللّثام على مفهوم مركزي في السياسات التعليمية عامّة بما يمكّن مختلف شعوب العالم من المراهنة الواعية على بلوغ الهدف الرّابع من أهداف التّنمية المستدامة في مشارف 2030. ويتمثّل هذا المفهوم المفتاح في العدالة التّربويّة التي تساعد على ضمان التّعلّم الجيّد والمنصف للجميع.
لقد مثّلت مسألة العدالة التّربويّة على مرّ العصور ولدى جلّ المجتمعات الإنسانيّة الرّهان الأهمّ في سياساتها الاجتماعيّة. واعتبارا لقيمة هذا المفهوم، نسعى إلى تداوله فكرّيّا وإلى تتبّع تجلّياته العمليّة في مجال التّعليم، ولنا أن نشير في هذا الباب أنّه على مرّ العصور إلى يومنا هذا ضلّ يتأرجح بين مبدأي تكافؤ الفرص والإنصاف. وإذا ما حاولنا أن نتتبّع نشأة مفهوم تكافؤ الفرص، سترانا نتوقّف برويّة عند جون جاك رو سو، أوّل من نظّر لمفهوم تكافؤ الأفراد وحريتهم، إذ وضّح في مؤلفه “العقد الاجتماعي” أن الأفراد يولدون متكافئين في حالاتهم الطّبيعية وأنّهم يتمتّعون بنفس الحقوق في إطار الحياة الجماعيّة. إنّ هذا التّكافؤ الطبيعي الذي يولد عليه الأفراد يتحول تدريجيا إلى تكافؤ أخلاقي وإلى تكافؤ أمام القانون الذي يؤدي بدوره إلى تكافؤ في الفرص التعليمية.
ويفسّر تحول مبدإ “تكافؤ الأفراد” إلى مبدإ “تكافؤ في الفرص التعليمية” الأهمية التي توليها اليوم مختلف المجتمعات إلى الميدان التربوي. ويبين طرح هذا الموضوع المتمثل في ضرورة توفير فرص متكافئة لجميع الوافدين على المؤسسة التربوية مدى الوعي بأهمّية الفرد من ناحية وبأهمّية الميدان التعليمي في أغلب النّظم التّربوية من ناحية أخرى. إلاّ أن المتأمّل في تداعيات هذا المبدأ على مستوى مردود النّظم التّربويّة، يلاحظ بوضوح تفشّي ظاهرة الفشل المدرسي بوجهي الرّسوب والانقطاع لتجد السّياسات التّربويّة نفسها مضطرّة إلى تعديل إجراءاتها بفرص ثانية وتتبّع المنقطعين عن الدّراسة بطرق مختلفة.
فإذا كان مفهوم تكافؤ الفرص التعليمية بالأساس يعني فتح المدرسة أمام جميع الأطفال وتمكينهم من نفس المعارف و القيم والمهارات في إطار توحيد النظام التربوي وبناء البرنامج الواحد لكل التلاميذ على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. فإنّنا علينا أن نقبل أنّ نجاح الفرد أو فشله الدراسي يصبح محدّدا بقدراته فحسب ولا بنوعيّة الخدمة التّعليميّة وجودتها ومدى تكيّف السّياق المدرسي مع حاجاته الفعليّة.
إنّ تأسيس المدرسة الواحدة، وبناء المنهج الواحد للجميع، وتعميم الدخول للتعليم وإجباريته على جميع التلاميذ مهما كانت انتماءاتهم الاجتماعية, تعتبر جميعها أهم المؤشرات التي تقوم عليها جلّ النّظم التربويّة في القرن العشرين، وهو في تقديرنا تأثّر واضح بالفلسفة التكافئية التي عمت أغلب النظم التربوية في العالم اعتقادا منها أنّ هذا المبدا هو الكفيل بتحقيق العدالة التربوية.
ولئن أزال مفهوم تكافؤ الفرصالعوائق الثقافية والاقتصادية التي كانت تحول دون التحاق الجميع بالمدرسة، ولئن مكّن أيضا تبعا لذلك من تعميم التّعليم ونشره لدى جميع الأطفال مهما كانت انتماءاتهم الاجتماعية، فإنّ تجلّياته قد بيّنت أنّ ذلك لم وفّر نفس فرص النجاح للجميع. وبعبارة أخرى يمكن القول أن ّ مجرّد الالتحاق بالدّراسة والانتفاع بالخدمات الواحدة للمدرسة لم يسمح للجميع بالاستفادة بشكل متساو من التربية.
وتجاوزا لهذا الإشكال المفهومي والإجرائي الذي تبني عليه السذياسات التّربويّة، فقد بيّن Derouet (1992) أن الثقافة النقدية التي برزت في الغرب منذ الستينات من القرن العشرين تعتبر ترجمة واضحة لفشل مبدإ تكافؤ الفرص في النجاح. ذلك أنّ إرساء المدرسة الواحدة على قاعدة تكافؤ الفرص في العديد من البلدان الغربية أدّى إلى مزيد تعميق ظاهرة الفشل المدرسي.
تعتبر مسألة تأمين التربية الأساسية للجميع خلا ل العشريتين الأخيرتين هدفا استراتيجيا تسعى كل النظم التربوية إلى تحقيقه خاصة بعد مؤتمري جمتيان (1990) وداكار(2000). و يعني ذلك بالأساس أن المؤسسة التربوية مطالبة بالتقليص من فشل المنتسبين إليها و بإيصال كل التلاميذ إلى أعلى مراتب الدراسة.
وقد أفضت فعاليات ندوة ( جومتيان) مثلا إلى اعتبار أن تأمين التربية للجميع لا يتوقف على توفير نفس فرص التعليم لكل الوافدين على المؤسسة التربوية فحسب، بل يفترض أيضا ضرورة تطوير النموذج التربوي المعمول به, لضمان أوفر حظوظ النجاح للتلاميذ. ويعني ذلك بالأساس إعادة النظر في المتغيرات الداخلية لاشتغال المؤسسة التربوية. وهو ما ادّى إلى اعتبار مبدأ الإنصاف التّربوي كمفهوم محوري تنتظم حوله الخدمة التّربويّة. ويعني الإنصاف التّربوي المرور بوعي كامل من توفير نفس الفرص إلى ضرورة ضمان الحقّ في التّعلّم والنّجاح للجميع، ولا نخال ذلك ممكنا إلاّ بالعمل على تنويع الإجراءات وتعدّدها اعتبارا للوضعيّات المختلفة للوافدين عن المدرسة. إنّ الخدمة التّعليميّة التي تأخذ بعين الاعتبار السياقات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والصحية التي تجري فيها والتي تمثل البيئة المخصوصة للمتعلمين هي الكفيلة بأن تقلّص من التّفاوت بين الجهات وبين المؤسسات وبين المتعلمين. ويعني ذلك ضرورة العمل على تعديد الأجهزة البيداغوجية وتنويعها بما يقتضيه السّياق المخصوص، وهو وضع يتطلّب المدرس المتأمّل والواعي بتفاعله مع السياق لا المدرس المطبّق للتوصيات الجاهزة التي تمرر اليه.
إن الإنصاف التّربوي يعني بالضّرورة ضمان سبل النّجاح للجميع، أي العمل على شدّ الخدمة التعليمية إلى أعلى، فالإنصاف يعني أن نوفّر الماء الصالح للشرب للمدرسة التي لا يتوفر فيها الماء لا غلق الماء على المدرسة المتوفر بها، كما أن الإنصاف التربوي يلزم النظم التربوية على توفير التغطية بألانترنات للمدارس التي تفتقد إلى هذه الخدمة لا التوقف على استعمال الشبكة العنكبوتية بدعوى عدم توفر ذلك للجميع… إن هذا المبدا هو الذي يجسّم العدالة التربوية في أبهى مظاهرها، العدالة التي ترفع على أعلى المراتب احتراما للذات الإنسانية وللدور الأحلاقي التي تقوم علية كل تربية تستحقّ هذا الاسم.
د. كمال الحجام
6 ديسمبر 2021

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *